روحانية التبتل الكهنوتي DIVO BARSTTI

هنا نجد العديد من الأسئلة التي تطرح ذاتها علينا فمثلاً: هل من الممكن للإنسان أن يبدأ مسيرة روحية مع الله، وهو في نهاية مسيرة حياته؟ وبكلمات أخرى، أن لم يكن الإنسان متحداً بالله، فكيف يمكن أن يخلص اذ لم يكن عايشاً كمال المحبة؟. ولكن ليكن واضحاً تماماً لدينا بأنه لا يمكن أن تكون هناك حياة روحية حقيقية أن لم تأخذ في أعتبارها الطبيعة البشرية للإنسان! لأنه كيف يستطيع الإنسان أن يصل للسمو والتفوق عن باقي المخلوقات، ليصل إلى الله في الإيمان والحب؟

 

الإيمان هو عطية وهبة من الله، وأيضاً المحبة هي عطية وهبة من الله، لذلك علينا أن نفهم جيداً أنه من الممكن بداية مسيرة روحية تصل بنا في نهايتها إلى الكمال. لأن الروح لايعمل في الإنسان كقوة خارجية، لكن عمله كعطية إلهية من الله للإنسان، مستخدماً قوته بأشكال متعددة في الإنسان ليصبح متحداً كليتاً بالله. اي يصبح الإنسان في حالة النعمة، لكن كل هذا نجده عندما يسأل الله الإنسان كي يتعاون معه، اي يفتح قلبه لهذا العمل الإلهي، وتعاون الإنسان وأنفتاحه على هذا العمل الإلهي يجب أن يكون مدعماً تماماً بالحرية الكاملة منه، وطواعيته لعمل الروح فيه.

 

لقد اتخذ الله صورة إنسان، وشابهنا في كل شيئ ماعدا الخطيئة، لكن نجد الإنسان لايريد أن يتبع الله في مسيرته فنجده يختار طريقة الخاص به، الذي في كثير، بل غي أغلب الأحيان لايصل به من خلاله إلى الله. نجد أيضاً في الحياة الروحية الكثير والكثير من العناصر المشتركة التي تدعم مسيرة الإنسان. فمثلاً يصبح الطفل إنساناً بميلاده الفعلي، لكنه كي يحيا كإنسان عليه أن يقوم بعمل العديد والعديد من المسيرات في الحياة. كذلك مسيرة الإنسان في الحياة الروحية تعتمد كثيراً على طواعيته وإنفتاحه على عمل الله الآتي إليه عن طريق الروح.

 

إن ممارسة الفضائل الأدبية لا تصبح الاتعبيراً عن كونها خميرة للحب، أما الفضائل المسيحية في الحقيقة هم روح وجوهر المحبة. لأنه أن لم يكونوا هكذا لايصبحوا فضائل مسيحية، وبهذا يمكننا أن نقول ان الفضائل هم عبارة عن تجسد للحب، لأنه لاتوجد فضيلة مسيحية بدون حب، كذلك لاتوجد محبة في المسيحية بدون الفضائل وأهمهم معايشة فضيلة المحبة.

 

إن كل المسيرات نحو الفضائل كي تصل بنا إلى تقدم النفس في أطاعة الروح، والإستماع لصوته العامل بداخلنا، وفي هذه الطواعية تتغيير كل تصرفات الإنسان. كذلك الحياة الروحية التي تحمل بداخلها كل الفضائل. فيمكن مثلاً أن تكون هناك فضيلة بدون الأخرى في الإنسان الأدبية، لكنه من المستحيل ان تجد فضيلة بمنعزل عن الأخرى في الحياة الروحية المسيحية. يمكن أن تكون أحدى الفضائل في حياة الكاهن الروحية، تعوض وتحل محل الفضائل الأخرى، وبدون أنفصال عنهم وهذا يتضح لنا بصفة خاصة من خلال حالة الكاهن الخدمية والإرسالية، لأنناعندما نتحدث عن روحانية الكهنوت علينا أن نأخذ في أعتبارنا فضيلة التبتل الكهنوتي بصفة خاصة.

 

وهنا يأتي السؤال: كيف يمكن أن نعرف كيفية ممارسة هذه الفضيلة في مسيرة الكاهن الخاصة نحو الوصول لكمال المحبة؟ فنجد الرد كالآتي: اولاً علينا أن نعرف تمام المعرفة أن التبتل الكهنوتي ليس هو نقص في الحب، وأيضاً أن سر الكهنوت كسر وخدمة غير محتاج للتبتل في أساسه. لذلك نجد المصطلح (تبتل) غير سهل في أستخدامه واستعماله، لأنه مباشرة يجعل فكرنا يتجهه غلى ما هو سلبي. وعل العكس تماماً نجده في سر الزواج، لأن لحياة الإنسان حالتها الطبيعية الشخصية (متزوج)، وكذلك يعطي القدرة للإنسان لينفتح على الآخرفي الحب {رجل- إمراة} ولا يجعله منغلقاص على ذاته. لكن علينا أن نعي جيداً أن التفكير الأهوتي الكنسي الروحي في هذا مختلف تماماً عما يجول في خاطرنا من أفكار، لأن التبتل الكهنوتي لايريد أن يعطي المعنى السلبي للفظ، انما تريد الكنيسة التبتل مع العفة الكاملة للكاهن. لأنه أحدى ركائز روحانية الكهنوت مقامة على العفة التامة الكاملة الحقيقية، وعفة الكاهن تنبع من محبته لله وللآخر.

 

كما سبق وذكرت أنه من الممكن للإنسان أن يعيش فضلية أدبية بمنعزل عن باقي الفضائل في حياته. أما الكاهن لايستطيع أن يعيش فضيلة روحية بمنعزل عن باقي الفضائل الآخرى، وبصفة خاصة الفضيلة التي تظهر اكتشافه ومعايشته للمحبة في حياته. لأن الفضيلة أن لم تكن مُحبة لمحبة، فتصبح عفته رافضة للحب. ومن خلال التبتل الكهنوتي نجد الكنيسة تظهر قداسة كهنتها، لأن العفة الكهنوتية أن لم تحيا ذلك تصبح العكس تماماً، بانفصالها وابتعادها عن الحب الإلهي. وبهذا يمكننا أن نقول ” أن العفة الكهنوتية ليست بمثابة الإبتعاد عن الحب، أنما هي تثبيت الحب الكامل المتمثل بحب الله للبشر، فيصبح حب الكاهن حب غير محدود”.

 

إن تكريس الكاهن من خلال سر الكهنوت، يجب أن يكون في جوهره رداً على دعوة وندا الحب المقدم من الله في سبيل خدمة الأخوة. أيضاً الكاهن مثل المسيح، عليه أن يبادر دائماً بالحب اولاً، عليه أن يعرف أن الحب هو العنصر الأساسي في خدمته، وبصفة خاصة لمن هم يعيشون بمنعزل عن الآخرين وعن الكنيسة نتيجة أعمالهم، عليه أن يقدم لهم الحب كي يجتذبهم بحبه هذا إلى المخلص الوحيد يسوع المسيح أبن الله مخلص الجميع. لأن الخلاص متاح لكل إنسان من خلال شخص الكاهن الذي أئتمنه المسيح على خرافه من خلال سر الكهنوت.

إن الكاهن يعطي ويقدم حياته في سبيل الأخوة، وفي يوم السيامة الكهنوتية، أو الأعلان الدائم لخدمة معينة، ففي ومن هذا اليوم نجد الكاهن يتمتع بعدم الأحقية في أن يكون حراً، بل حريته تكمن في تقديم ذاته كليتاً للآخر، وفي تقديم حبه للجميع، الحب النابع من الله. فكيف يحيا الكاهن هذا الحب أن لم يكن المسيح يحيا فيه؟ لأن يعوض عن هذا ويظهره من خلال إتحاده الباطني العميق بالمسيح أساس الحب، والأتحاد الوثيق بينهما يظهر من خلال حبه وتضحيته حتي الصليب، بل الموت على مثال معلمه. فهذه الوحدة مع المسيح تجعل الكاهن يعيش حياة واحدة وحب واحد لايمكن أن يعيشها بدون عفة كاملة، والعفة الكهنوتية هي من أقوى العلامات المعبرة عن الأتحاد الشخصي بين الكاهن والمسيح الكاهن الأعظم.   

 

دائماً اكرر أن الكاهن “مسيح آخر” لأنه من خلال سر الكهنوت، أصبح عمله وخدمته وحياته نابعة من وباسم المسيح. وهو ينال هذه السلطة من خلال السيامة، مؤكداً هذا من خلال كل ما يقوم به من ممارسات للأسرار المختلفة، وبهذا تصبح حياة الكاهن متمثلة دائماً بحياة المسيح. بل هكذا يعيش الكاهن العفة ونجده لا يستطيع أن يرفض في أن يحبُ ويحبَّ، وهذا على حسب الأباء الروحيين، أنه يساعد الكاهن كي يصل إلى كمال الحياة الروحية. لأنه أن لم تكن هذه العفة في حياة الكاهن، فأنه لا يحيا الحب، بل يحيا في الأنانية التي تجعله ينغلق على ذاته، وبغلقه روحه وقلبه أيضاً يجعل حياته حياة عقيمة. لأنه اذا كان سر الزواج، قد اسسه المسيح وارادة بين الرجل والمرأة ليتحدوا في الحب معاً، وباتحادهم هذا يشابهون إتحاد المسيح بالكنيسة. فتصبح عفة الكاهن ليس فقط صورة على الأتحاد، إنما هي تتميم له. لأنه هكذا فقط يصبح روحاً واحداً مع المسيح، في أن يحيا الكاهن ومشاركاً حقاً في الحب المقدم من المسيح، بل يصبح مسيحاً آخر لأن المسيح يحيا فيه، وفي محبته للحب وللآخرين وفي خدمة لخلاص العالم.

 

إن حب الكاهن حب شخصي خاص، يساعده على تاسيس عائلة غير محدودة، عائلة متمتعة بحب روحي  حب لانهاية له، حب لايعرف الحدود. وهذا لايمحوا طبيعة الكاهن البشرية. لأن المسيح ذاته لم يرسل إلى الخراف الضالة من بيت اسرائيل فقط، لكن إلى العالم كله ليخلصه. وعلى نفس المستوى المرئي الإجتماعي للنشاط الإنساني نجد المحبة لا تعرف عدم الكمال. لهذا السبب نجد الكاهن يتسلم خدمة ورسالة معينة من رئيسه المباشر، محدده في المكان والزمان حتى يستطيع أن يعيش معهم ويظهر هذا الحب لكل واحد من افراد قطيعه المؤتمن عليهم، وهذه الخدمة مقدمة له من المسيح ومن أجل المسيح في المكان والزمان المحدد له، وفي إطاعته بحياته. عليه أيضاً ان ينشر العفة بين كل المسيحيين، العفة النابعة من المسيح، بل ينشرها أولاص بحياته وخدمته وليس فقط بكلامه وعظاته. لأنه بعفته الكاملة يستطيع أن يبشر وينشر المحبة للعالم أجمع من خلال قطيعة الصغير المؤتمن عليه، حتى يصبح الجميع واحداً في المسيح متحديين إتحاداً وثيقاً لايستطيع أحد أن يفصلهم.

 

هذه الوحدة أن لم تكتمل في المسيح حاملة معها كل البشرية، كل الخليقة في جميع الأحوال لكي تسمو إلى المسيح ذاته. هذا كله يظهر لنا من خلال شخصية وعمل الكلمة المتجسدة التي بواستطها خلقت كل الأشياء، وأصبح المسيح اساس كل وحدة بين الله والبشر، وبين البشر وبعضهم. وهذا هو المطلوب من كاهن اليوم أن ينشره من خلال سر الكهنوت الحائز عليه للخدمة. لأن الكاهن اذا عمل هذا يصبح آلة الله العاملة في هذا العالم بشهادته الحياتية والخدمية التي يقوم بها. واضعين نصب أعيننا أن الرسامة المقدسة لاتغيير ولا تحول الطبيعة البشرية للشخص المرتسم في لحظة الرسامة، لكن هذا يحتاج إلى مسيرة حياتة طويلةنابعة من تفكير الشخص الكهنوتي واعماله المصطبغة بالعمل الكهنوتي المقدس، لأن كل نشاطات وافعال وكلمات الكاهن يجب أن تكون نابعة منه ككاهن الله على هذه الأرض، وكل هذا لايتم الا عن طريق انفتاح الكاهن وخضوعه وطواعيته لعمل روح الله في حياته. لأن العفة هي عبارة عن العزيمة الإنسانية بمعونة الروح المحرر من العبودية والمدعم للحياة الروحية للكاهن.

 

هنا يظهر دور الكاهن من خلال حريته الكهنوتية، تجاة العفة فأن يعطي المثل بنفسه وحياته حيث يقود جماعة المؤمنين في المسيرة الروحية. وعليه أن يعَّرف الجميع أنهم مدعوؤن لحياة العفة، لأن العفة هي هبة من الله متماشية مع طبيعة الإنسان، وهم قادر على فعلها و معايشتها بمعونة الروح والتحرر من عبودية الخطيئة ضد العفة، عندما يجد في الكاهن المرشد والمعلم بخبرته وتعليمهالروحي وخدمته، سواء كانت روحية او إجتماعية، لأن كل الأشياء يجب أن يكون هدفها تمجيد الله، وأظهار مجده على الأرض. وبهذا يستطيع الإنسان أن يعيش الخلاص مع الله، مع الآخرين، مع ذاته، بل ومع كل الخليقة جمعا. لكن السؤال هنا هو: كيف يصبح الكاهن رسول وشاهد الخلاص أن لم يكن قد ناله هو ذاته في حياته؟ إن بخضوع الجسد وطواعيته للروح، نجد الإنسان ينال الخلاص في الله ومن الله. لكن الخلاص هو رؤية حالة الإنسان وعلاقته بالله ومع أخوته، وفي حياة الكاهن ذاته من خلال كل ما يقوم به من أعمال محبة وخدمات أسرارية وبصفة خاصة منحه الغفران للتابيين الملتجيين إليه. فكيف يستطيع أن يقوم بعمل هذا أن لم يعش العفة الكاملة المانحة القوة الإلهية في كل نشاطاته. هذا كله له درجة قصوى من الأهمية في قداسة الكاهن نفسة في حياته، يساعده على أن يكون منفتح على الجميع ليس فقط على أسرته الشخصية التي اذ نجده مرتبط بها، اذا تزوج لكن رؤية الكنيسة لهذا تساعده على تكوين أسرة روحية. لهذا نجد التبتل المراد من الكنيسة، يصبح مساعداً للشخص وليس على الطبيعة البشرية للإنسان، لأن الإنسان بامكانياته الطبيعية يستطيع أن يسمو بغرائزه مستسمراً اياها في كل ما معبراً عن حضور المسيح في العالم. وهذا لم يأتي بالسهل أنما يحتاج إلى الكثير والكثير من التضحيات الصعبة، وفي ذات الوقت تصبح حياة الكاهن حياة منجبة مخصبة وليست عقيمة عاقرة، عندما تصطبغ خدمتهبالحب للجميع، وباتحاده بالمسيح إتحاداً كلياً، من خلال صلواته الطقسية الجماعية، والشخصية، وبانفتاحه على العالم والنظر له بعين وتفكير وإيمان المسيح. هذا يساعد الكاهن على أن يحيا حياته الروحية بصفة خاصة، روحانية التبتل الذي يعيشه، لأن لحظات الضعف التي يمر بها الكاهن في بعض الأحيان، هي نتيجة لعدم فهمة لما يعيشه، لأن لحظات الضعف التي يمر بها الكاهن في بعض الأحيان، هي نتيجة  لعدم فمهمه لما يعيشة  من عفة، تجعل قواه تخور في هذا الجانب لكن عليه أن يتذكر دائماً أنه ممثل  المسيح وكهنوته هو هبه له من المسيح، وعفته ايضاً هي فضيلة ودعوة سامية، فعلية أذاً أن يعلن هذا للجميع وللعالم من خلال حبه لما يحيا من تبتل كهنوتي.

        

ترجمه عن الإيطالية بتصرف

الشماس دانيال أيوب- أسيوط

 

المرجع:

[1](Solo per amore)هذا الموضوع مآخوذ من كتاب بعنوان تم طبعه في روما في 1993.