من يغيّر العالم؟ وكيف؟.. بقلم: الأب توم سيكنغ اليسوعي

من منا لم يحلم أبداً بتغيير العالم؟ هذا العالم الذي يصخب فيه العنف، ويضج فيه الظلم والبؤس. هذا العالم الذي فيه يتحكم الأقوياء بالآخرين، وفيه يُقهر من تفوتهم وسائل العيش ويسحقون، وفيه يملك الكذب سيداً وسلطاناً!

في اعتقادي أن المسيح إذا جاء ليخلص العالم، فإنما كان يريد، هو، أيضاً، أن يغير العالم. لقد ترك المجد بقرب الآب وجاء ليعيش بين الناس من أجل سعادة الناس. فالكتاب المقدس في عهديه، يقدم لنا إلهاً يعمل من أجل المسحوقين، وينهمك في تحريرهم، وينبه ذوي السلطان والأقوياء إلى أن عليهم مساعدة الغرباء، والأرامل، واليتامى. هذه الفئات الثلاث من المعدمين نلقاهم غالباً في الكتاب، كما نلقى المنفيين والمسبيين، وإياهم يخصُّ الله بالعناية والرعاية، ويقدّم لهم، بل يجعلهم مستحقين التعزية.

ولقد اختار المسيح تلاميذه أناساً بسطاء، وشفى المرضى الذين نبذهم الجميع، كالبرص ومن مسّهم الشيطان. ولم يحتمل عُجب الفريسيين والكتبة وكبرياءهم، وهم من كانوا ينظرون إلى الناس من علُ.

وبقدر ما رفض الله المتكبرين، بقدر ذلك أحاط المتواضعين بعطف خاص، وخير صورة عن ذلك صلاة مريم التي جاءت نشيدا تمدح به الله الذي "انعطف على أمته الوضيعة"، والذي "شتت المتكبرين، وصرف الأغنياء فارغة أيديهم"، والذين "رفع المتواضعين وأشبع الجائعين خيرات".

هكذا نرى أن الله يريد، هو، أيضاً، أن يغير العالم، بل غيره في مسيرة الزمن في العهد القديم. إنه يقف إلى جانب المظلومين والمحرومين، أياً كان الظلم والحرمان اللذان يقاسون.

على أننا حين نحلم بتغيير هذا العالم، أو هذه المنطقة، أو بلدنا، فغالبا ما نتوقف عند حدود الحلم ومستواه. نرى التغيير ضرورياً، لكنه يُرى أبعد من متناولنا، فنرخي أيدينا مستسلمين قائلين: الأمر مستحيل، فنحن لا نملك الوسائل. والمسيح، أترى وصل المسيح إلى نتيجة؟ لقد مات على الصليب، ونبذه العالم، كل العالم، وتلاميذه أنفسهم هربوا جميعهم، تقريباً، أمام مأساة آلامه.

على أننا، إذا كنا نسعى إلى تغيير العالم، فالكتاب المقدس يدلنا على الطريق إلى التغيير: كونوا فقراء كما صار ابن الله نفسه فقيراً وصغيراً. هذه هي الحقيقة التي يعلمنا إياها غير نص من الكتاب. فليست قوة داود وسليمان وسلطانهما ما ينقذ شعباً صغيراً، فقيراً، كما يقول النبي صفنيا، بل من يلتمسون الضعة "ولا يرتكبون الظلم، ولا ينطقون بالكذب، ولا يوجد في أفواههم لسان مكر". إنهم رجال ونساء تفوتهم الوسائل، لكنهم مستقيمون، صادقون، راسخون في قناعتهم.

والقديس بولس يحدثنا عن اختيار الله. لم يختر سلاطين العالم والأقوياء بل "اختار ما يعتبره العالم حماقة ليخزي الحكماء"، و"اختار ما كان في العالم من ضعف ليخزي ما كان قوياً؛ وما كان في العالم من غير حسب ونسب ومحتقراً، فذاك ما اختاره…". إن قوتنا هي يسوع المسيح الذي هو "حكمتنا، وعدلنا، وقداستنا، وخلاصنا". (1 قور 1/26/31).

إن إنجيل التطويبات يرسم صورة المسيح نفسه. فكل طوبى منها تنطبق تماماً عليه. هكذا عاش، ويا للمفارقة! وكان سعيداً. سعيداً كان في اقتناعه بأنه يعمل ما كان الآب ينتظر منه أن يعمل؛ وسعيداً بأن يكشف للعالم وجه البساطة في حب وجودة الذي ينعطف على أمته الحقيرة، مريم، ويقترب من جميع الذين يسلّمون، مثلها، أمرهم كلياً لله.

لن تُغيّر العالم حرب يظهر فيها بعض المقتدرين أنهم أشد بأساً وأوفر قوة من خصومهم. لن تُغيّره التقنية الأكثر تطوراً ولا حنكة الناس. فنحن نعلم جيداً أن الوسائل التي نملك، وهي الوسائل الأكثر فعلاً والأشد تأثيراً، يمكن أن تستخدم للشر كما قد تستعمل للخير، وهي، كوسائل، لا وعي لديها وليست تدري ما تفعل. وربما نعرف أيضاً أننا قد نكون تعساء مع كوننا ذوي ثراء؛ والشهود على ذلك في التاريخ كُثر.

الخلاصة: إن العالم لن تنقذه القوة، ولا الغنى، ولا حتى العقل.

إذا صادفنا فقيراً، مُخلصاً، يجرؤ على مجابهة صعوبات الحياة بالوسائل القليلة التي يملك، فانه يثير فينا الاحترام والإعجاب. إنه إنسان يعرف كيف يعيش من دون أن يهرب من الواقع، بل يقبل هذا الواقع ويبني حياته بالوسائل القليلة التي يملك. إن إنساناً كهذا يغيرنا. نشعر بسعادة لأننا عرفناه، لأنه يعيش الإنجيل حقاً. اعرف أمثال هذا الإنسان فأعجب بهم واشعر بنفسي صغيراً أمام عظمتهم. ولا شك في أنكم تحققتم، أو تعرفون بنفسكم، أن الفقراء، غالباً، أكثر سخاء من الأغنياء لأنهم يعرفون ما الحرمان، فيعملون ما بوسعهم ويجهدون في أبعاده عمن يعايشونهم، وإذا أعطوا فعطاؤهم كثير لأنهم من القليل الذين يملكون يعطون.

إذا أدركت الجماعات الكنسية هذا الأمر واستوعبته، أي أن تكون جماعات أشخاص وسط العالم يضعون ثقتهم في الرب، ويتقاسمون، على فقرهم، مع الآخرين ما يملكون، فعندئذ تبدأ هذه الجماعات تغيّر العالم.

طوبى لهؤلاء المسيحيين الذين تأملوا وجه المسيح فتحولوا حتى صاروا له مماثلين. هؤلاء الذين استطاعوا، مثله، أن يتركوا كل شيء ليكونوا في خدمة اصغر الناس؛ الذين لا يطالبون بشيء ويعطون كل شيء؟ الذين لا يخشون خسران الثروة لأنهم لا يملكونها إذ أنهم وهبوا كل شيء. إن المسيح نفسه ترك كل شيء ليكون بقربنا؛ فإن يصير أحدنا تلميذاً له يعني أن يعمل مثله. لا يعني ذلك، طبعاً، أن نترك أو نبيع، حرفياً كل ما نملك، بل أن نعتبر أن الثروة التي نملك لا تخصنا حصراً دون الآخرين، بل إنها وسيلة بحوزتنا لنصنع الخير مع من هم حولنا. "أن نبيع كل شيء" يمكن تفسيره: أن نضع كل شيء ونُعده لنعمل الخير به على قدر ما نستطيع.

إن الرب يسألنا ألا نتماهى مع ما نملك، أو مع فهمنا، أو سلطاننا. فمع تعليمه لا يصح الزعم "قل لي كم معك، وكم تملك وماذا تعرف… أقل لك من أنت".

إذا حلمنا بعظمة فلتكن عظمة يسوع المسيح الذي استطاع أن يعطي كل شيء، بما في ذلك حياته ليخلص الإنسان، ويوفر للناس السعادة. فعل ذلك باحترامه إياهم، بإصغائه إليهم، بتضامنه الحقيقي معهم، وخصوصاً مع كل ذي حاجة.

إن رجالاً ونساءً يتصرفون في العالم على مثال المعلم ليوفروا السعادة لمن يعاشرون، فيهم يسكن الرب ويمكنهم أن يغيروا العالم.

عن "النهار" 13/2/2005