بوش وبندكتس: اللقاء الأول

الهمّ الأساسي للبابا؟ بقاء الجماعات المسيحية في الشرق الأوسط

بقلم أندريا كورك عسّاف

\"\"

 

 

 

 جورج دبليو بوش معتاد على أن يكون تحت الأضواء وينتقل بشكل تلقائي من لقاء إلى آخر بوتيرة صارمة لكي ينجز جدول أعمال مضغوط وطموح.
ولكن بعد زحمة اللقاءات المكثفة في الأسبوع الماضي مع قادة الدول الكبرى في العالم خلال انعقاد قمة مجموعة الدول الثمانية في ألمانيا التي أشاد بها بوش واصفاً إياها بالنجاح الباهر، ها إن وتيرته قد عرفت تباطؤاً ملحوظاً صباح يوم السبت في 9 حزيران، خلال جولة رسمية للقاء القائد الروحي الأبرز على وجه الأرض.
مشى بوش، يتقدّمه صفان من النبلاء المتأنقين، على خطى عدد لا يحصى ولا يُعدّ من الزعماء السياسيين الآخرين الذين تذوقوا على مدى حوالى ألفي عام عظمة الكرسي الرسولي وفخامته وهم يخطّون طريقهم عبر الفاتيكان للقاء خليفة القديس بطرس.
فطوال قرون خلت، كان الملوك يصعدون إلى القصر البابوي في عرباتهم الفخمة التي تتبختر بين الأعمدة الضخمة من تصميم البرنيني، فيشعرون بسلطة البابا الزمنية والروحية تشدّ عليهم بغمرتها.
لم يكن على الرئيس بوش أن يواجه شخصية مخيفة من سلالة بورجيا أو مديشي في نهاية مشيته المتهادية، ولكن لا شك في أنه شعر ببعض الإرتعاش في أول مقابلة له مع بندكتس السادس عشر الرقيق والعظيم في آن معاً والمعروف بانتقاده الصريح لاحتمال الحرب ضدّ العراق يوم كان لا يزال الكاردينال راتسينغر وببياناته الصريحة على حدّ سواء وآخرها ما صدر عنه في عيد الفصح يوم قال "أن لا شيء جيد يأتي من العراق الذي تمزقه المذابح المستمرة فيما السكان يهربون".
ولكن بالرغم من الوضع الذي يزداد مأساوية في العراق والمظاهرات في كافة أرجاء روما استنكاراً لزيارة بوش التي أدت إلى إقفال معظم أنحاء المدينة، كان جدول أعمال البابا والرئيس في بداية الأمر يتضمن مسائل مختلفة وأقل إثارة للجدل بقليل مما كان متوقعاً.
نصف ساعة في مكتبة البابا
وصل الوفد الرئاسي المرافق عند الساعة الحادية عشرة والدقيقة الثلاث إلى باحة سان داماسو في قلب حاضرة الفاتيكان.
إستقبل مدبر شؤون الدار الرسولية، رئيس الأساقفة جايمز هارفي الرئيس بوش وعقيلته لورا واصطحبهما إلى مكتبة القصر البابوي. وصل البابا ورحب ببوش بحضور الصحافيين وسأله عن قمة مجموعة الثمانية وبالتحديد عن سوء التفاهم الحاد مع الرئيس بوتين حول نظام الدفاع الصاروخي في أوروبا الشرقية. فأجاب بوش أن اللقاء كان ناجحاً، ثم التفت إلى الصحافيين وتابع: "حسناً… سأجيبك بعد دقيقة"، فضحك الرجلان.
وقبل اللقاء المغلق بينهما، أطلع بوش أيضاً بندكتس على طلبه من الكونغرس مضاعفة حجم المساعدات الأميركية المخصصة لإفريقيا لدعم برامج معالجة الأيدز هناك.
بعد ذلك، كانت خلوة بين الأب الأقدس والرئيس بوش دامت أكثر من نصف ساعة.
وإثر الحديث الخاص الذي دار بينهما، كان تبادل للهدايا كما جرت العادة، فقدم البابا للرئيس بوش صورة تمثل بازيليك القديس بطرس في القرن السابع عشر. في المقابل، أهدى الرئيس الحبر الأعظم عصا أبيض للمشي مع الوصايا العشر منحوتة فيه بألوان مختلفة وهو من صنع أحد المشردين من ولاية دالاس.
فما كان مضمون الحديث الخاص الذي دار بين بوش وبندكتس خلال هذه الدقائق الخمس والثلاثين بعد انسحاب الصحافيين من مكتب البابا؟
لم يصدر أي تقرير مفصل حول الموضوع. ولكننا نعرف أن مجموعة من المواضيع الحساسة التي تهم الطرفين كانت على جدول أعمال لقاء بوش بالبابا ومن ثم لقائه مع أمين سر دولة حاضرة الفاتيكان الكاردينال ترشيسيو برتوني وأمين سر حاضرة الفاتيكان للعلاقات مع الدول ورئيس الأساقفة المونسنيور دومينيك مامبرتي (وهو نظير "وزير الخارجية" في الحكومات العلمانية).
وفي إشارة إلى أن قلة قليلة من المسائل لا تقع ضمن نطاق اهتمام الكرسي الرسولي ونشاطاته، صرح الكاردينال برتوني إلى صحيفة أفينيري Avvenire التابعة للأساقفة الإيطاليين قبيل لقاء بوش-بندكتس أن مواضيع البحث مع الرئيس ستشمل العراق وأميركا اللاتينية والشرق الأوسط والقضايا المتعلقة بالحياة وبشكل عام "المسائل الأخلاقية والإجتماعية الأساسية التي تهمّ سكان العالم".
ويبدو أن نقاط بحث الرئيس بوش كانت أكثر طموحاً وحماساً، بحسب مقابلات أجريت مؤخراً مع سفير الولايات المتحدة لدى الكرسي الرسولي فرانسيس روناي. فتحتَ مظلة "المسائل المتعلقة بالحريات وبتعزيز كرامة الإنسان في العالم"، عدّد روناي مسائل مرتبطة بالبيئة والهجرة والإرهاب والأصولية ومحاربة الأيدز وقضية لبنان والمساعدات المخصصة لإفريقيا.
ومن المرجح أنه لم يتمّ التطرق إلى مجمل هذه المواضيع في أثناء الساعة ونصف الساعة التي أمضاها الرئيس بوش في الفاتيكان – من الساعة الحادية عشرة وحتى الساعة الثانية عشرة والنصف، أولاً مع قداسة البابا، ومن ثم مع مسؤولين كبار في الفاتيكان—ولكن البيان الصحفي الصادر عن مكتب الصحافة التابع للكرسي الرسولي أشار إلى أن المحادثات قد تناولت مجموعة واسعة من المواضيع، منها:
• الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي
• لبنان
• العراق والجماعة المسيحية هناك
• إفريقيا وأزمة دارفور
• أميركا اللاتينية
• حقوق الإنسان والحرية الدينية
• حماية وتعزيز الحياة
• الزواج والعائلة
• تنشئة الأجيال الصاعدة
• التنمية المستدامة

الكرسي الرسولي والعراق
وقد جاء التلميح الوحيد الذي أعطاه بيان الفاتيكان بشأن آراء البابا ومعاونيه حول مختلف هذه المسائل في الفقرة التالية: "في ما يتعلق بالكرسي الرسولي، فإن الأمل يحدونا مجدداً بالتوصل إلى حل "إقليمي" و"توافقي" للصراعات والأزمات التي تعاني منها منطقة" في الشرق الأوسط.
ويظهر جلياً أن في ذلك طريقة ديبلوماسية اعتمدها الكرسي الرسولي للتعبير عن اقتناعه بضرورة حلّ الصراعات في الشرق الأوسط، لا من خلال التدخلات الأجنبية (أي الأميركية) ولا من خلال حلّ أحادي يُفرض عسكرياً، بل من خلال حل توافقي ومتعدد الأطراف.
ووجهة النظر هذه عبّر عنها بشكل مباشر أكثر في الماضي الكاردينال راتسينغر، قبل أن تسلّط عليه أضواء البابوية. ففي العام 2002، قال الكاردينال لصحيفة أفينيري Avvenire "إنه من الضروري أن تُصنع القرارات على مستوى مجموعة الأمم وليس من قبل سلطة منفردة". وأضاف معبراً عن رأيه الخاص: "ففي خلاف ذلك ستكون الأضرار أفدح من القيم التي نأمل في إنقاذها".
كما أنه رفض مبدأ الحرب الوقائية، مشيراً إلى أنها غير واردة في التعليم الكاثوليكي. وإذ تحدث بصفته عميد مجمع عقيدة الإيمان، شرح الكاردينال راتسينغر حينذاك أنه "وإن صحّ أن التعليم (المسيحي) قد أوجد عقيدة لا تستثني، من جهة، أن هناك قيماً وشعوباً يقتضي الدفاع عنها في بعض الظروف، إلا أن هذا التعليم يقدم ، من جهة أخرى، عقيدة واضحة كل الوضوح حول حدود هذه الإمكانيات".
ولطالما كان الكاردينال راتسينغر حريصاً على أن يلطّف وجهات النظر هذه عبر الإعتراف باستمرار بأن المسائل السياسية لا تدخل ضمن صلاحياته وأن الإختلاف في وجهات النظر مع البابا في مسائل الحرب لا يُعدّ هرطقة وأن سلطة اتخاذ القرار النهائي في خوض الحرب مناطة بالمسؤولين العاملين في الحقل العام وليس بالكنيسة.
بيد أنه أشار بوضوح إلى أن السلطة المخولة اتخاذ هكذا قرارات يجب أن تكون محصورة في الأمم المتحدة (وإن كان "يمكن انتقاد الأمم المتحدة" على عدد من الشوائب المرتكبة)، باعتبارها "المنتدى الذي تم إنشاؤه بعد الحرب ]العالمية الثانية[ لتنسيق السياسات – بما فيها من الناحية الأخلاقية".
ويُعتبر دعم الفاتيكان المتمايز للأمم المتحدة مسألة معقدة يمكن تخصيص مقالة أخرى لها، ولكنه من المفيد أن نشير إلى أنه بالرغم من موافقة الأمم المتحدة والتعاون الدولي في حرب الخليج الأولى في العام 1991، بقي البابا يوحنا بولس الثاني على موقفه المعارض للحرب باعتبارها غير مبررة، شأن العديد من المسؤولين في الكنيسة الكلدانية في العراق.
وقد جرى ذكر أحد الأسباب الرئيسة – قبل حرب الخليج الأولى والأزمة الحالية—لاعتراضهم على مهاجمة العراق في مقابلة أجرتها مجلة Inside the Vatican مع الكاهن العراقي الراحل الأب رغيد كني قبل بضعة أشهر من الإجتياح، حيث قال: "إذا وقعت الحرب، فإن أولى ضحاياها سيكونون من المسيحيين؛ فعلى الصعيد المحلي، سينقلب الشعب على المسيحيين".
نهاية الكنيسة في العراق؟
يبدو أن الأحداث المأساوية التي تتعرض لسلامة ولوجود المسيحيين في العراق على مدى الأسابيع القليلة الأخيرة تعزز توقعات بندكتس بأن مساوئ الحرب على العراق قد تكون أفدح من الخيور التي سيتمّ إنقاذها، أقله من وجهة نظر الجماعة المسيحية العراقية. فاغتيال الأب رغيد كني والشمامسة الثلاثة في الثالث من يونيو الحالي بُعيد احتفالهم بالذبيحة الإلهية في كنيسة الروح القدس في الموصل – وهي رعية تعرضت لهجمات عديدة في السنوات الأربعة الأخيرة– قد أعقبه اختطاف كاهن كلداني آخر هو الأب هاني عبد الأحد وخمسة شباب في طريقهم لزيارة إكليريكية صغيرة في بغداد (وقد أُطلق سراح الشباب الخمسة فيما بعد، في حين بقي الأب عبد الأحد مختطفاً). وكلا العملين الإرهابيين يؤشران إلى حملة تلقائية للتخلص من القادة المستقبليين للكنيسة الكلدانية.
وهذه الأحداث ليست سوى الأخيرة من سلسلة هجمات طائفية تتزايد حدتها ضدّ المسيحيين جعلت المسؤولين في الكنيسة الكلدانية يتخوفون من أن يتمّ القضاء على المسيحية في العراق بعد مرور 2000 عام على وجودها. ويغادر المدنيون العراقيون المسيحيون، شأن العراقيين المسلمين البلاد، ما يخفّض عدد السكان من أكثر من نصف مليون نسمة في العام 2003 إلى ما دون 20000 نسمة، بحسب الأرقام التي وردت في مقالة في وكالة أبكوم لسيرينا سارتيني وياكوبو سكاراموتزي صادرة بتاريخ 9 حزيران (مع أنه من الصعب جداً الحصول على أرقام وتقديرات دقيقة في ظل الأوضاع الراهنة).
وتبيّن الأرقام تراجعاً سريعاً في عدد مسيحيي العراق في الأشهر الأخيرة. وقد قدّرت رسالة بعث بها مؤتمر أساقفة الولايات المتحدة الكاثوليك في شهر أكتوبر 2006 إلى وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس عدد المسيحيين في العراق ب 600000 مسيحي. وفي هذه الرسالة، طالب الأساقفة الأميركيون وزارة الخارجية الأميركية بالإسراع إلى إيجاد طرق لتعزيز أمن المسيحيين، وحتى بدراسة إمكانية إقامة "منطقة إدارية" في منطقة سهل نينوى لحمايتهم. ويشكل المسيحيون 40% من اللاجئين الذين يهربون من العراق، علماً أنهم بالكاد يشكلون 3 أو 4% من إجمالي سكان العراق.
واستناداً إلى التقارير والآراء التي يتلقاها من المسؤولين في الكنيسة الكلدانية والسفير البابوي في العراق ومجمع الكنائس الشرقية، جعل البابا بندكتس السادس عشر من ملف المسيحيين في العراق أولوية له.
وقد ذكر الرئيس بوش نفسه قلق الأب الأقدس الشديد حيال وضع مسيحيي العراق في مؤتمر صحافي عقده بعيد لقائه بالبابا. وقال الرئيس للصحافة "كان قلقاً من أن المجتمع الذي ينمو (في العراق) لا يقبل الديانة المسيحية، وقد أكدتُ له أننا نعمل بجهد لكي نضمن أن الناس يحترمون الدستور (العراقي) –هذا الدستور المعاصر الذي صوّت عليه الشعب من مختلف الشرائح والإنتماءات".
وإشارة الرئيس بوش إلى قلق البابا بعد ساعة أو ساعتين بالكاد من لقائهما تبيّن أن هذه كانت في صلب المسائل التي تطرق إليها قداسته مع الرئيس بوش.
وفي حين أن الدستور العراقي المعاصر قادر على حماية المسيحيين والأقليات الدينية الأخرى من الإضطهاد من الناحية النظرية، تشير الوقائع على الأرض بقوة إلى أن السلطات المدنية هي في أفضل الحالات محدودة القدرة على كبح الإضطهادات الدينية، وفي أسوأها تتغاضى عما يحصل.
وفي بيان غير مسبوق صدر في شهر مايو الفائت، تأسف بطريرك الكلدان العراقيين عمانوئيل III دلي على كون "المسيحيين يُقتلون ويُطردون من منازلهم أمام ناظري أولئك الذين بفترض أن يكونوا مسؤولين عن أمنهم". وتابع البطريرك قائلاً: "اليوم، يعاني المسيحيون الإضطهاد في بلد يحارب فيه الجميع خدمة لمصالحهم الخاصة. لطالما عاشوا في العراق وعلى مرّ السنين قاموا بكل ما بوسعهم للمساهمة في تطوير البلاد مع إخوتهم المسلمين".
وقلّما يلقى القبض على الإرهابيين المسؤولين عن الإضطهادات وعمليات الخطف والهجمات والإغتيالات وغالباً ما تلقى الملامة على الحكومة العراقية لشلها في تأمين الحماية اللازمة وللإئتلاف بقيادة الولايات المتحدة لشنها حرباً على بلادهم.
وقال ممثل الكنيسة الكلدانية لدى الكرسي الرسولي المونسنيور فيليب نجيم في كلمة تأبينية ألقاها خلال قداس أقيم لراحة نفس الأب رغيد في روما في الأسبوع الماضي "منذ فترة، باتت الجماعة المسيحية العراقية عرضة للاختطافات، والتهديدات وأساليب التهويل والتخويف، دونما حماية من قبل الحكومة أو من قبل قوات التحالف". وأضاف: "بعد الحصار "المفروض وغير العادل"، وأربع سنوات من "الاحتلال الأمريكي"، لم يبق سوى عراق ممزق طائفياً ودينياً، حيث لا يلقى المسيحيون أي دعم، ولا من يحارب من أجل قضيتهم، وباتوا بمفردهم. إنه ظلم كبير على الصعيد التاريخي، السياسي والإنساني. نحن بحاجة لأن يشجع الكرسي الرسولي الكنيسة العراقية وجميع المسحيين على الوحدة".
أما عن الحلّ للأزمة الحالية الذي يحبذه البابا، في حال وجود حل، فهي مسألة لم يتطرق إليها أي مسؤول في الفاتيكان، ومن غير المرجح أن يقرر يوماً إبداء رأيه حول الموضوع إلا إذا اجتمع مسؤولو الكنيسة العراقية حول موقف موحد وضغطوا على الكرسي الرسولي ليدعمهم. ومع النقاش المحتدم الذي يطغى على الحملة الرئاسية للعام 2008 حول مسألة انسحاب القوات من العراق، إن أي بيان يصدر عن الفاتيكان حول العراق سيتم النظر فيه بإمعان بحثاً عن بوادر رأي حول المسألة، تماماً كما أن بعض التعليقات من قبل مسؤولين فاتيكانيين خلال فترة التمهيد للحرب على العراق جالت عناوين الصحف في العالم.
التعاون والصراع
أفاد الكاردينال برتوني صحيفة أفينيري Avvenire قبيل زيارة بوش أن "الولايات المتحدة دولة عظيمة والرئيس الحالي قد ميّز نفسه بوضوح في ما يتعلق ببعض المبادرات الإيجابية الداعية لحماية الحياة منذ البداية". "إلا أنه يبقى بعض المشاكل التي سبق أن أبرزها للعيان هذا النبي العظيم وهو خادم الله يوحنا بولس الثاني كحرب العراق على سبيل المثال والوضع المأساوي الذي يعانيه مسيحيو العراق والذي يسوء يوماً بعد يوم".
ويعكس كلام أمين سر دولة حاضرة الفاتيكان العناوين الرئيسة في العلاقة بين إدارة بوش والكرسي الرسولي خلال السنوات الست والنصف التي أمضاها في البيت الأبيض وتعاطى خلالها مع بابوين مختلفين. وبشكل عام، اتّسمت العلاقات باتفاق وتعاون على مستوى غير مسبوق بالنسبة إلى رئيس أميركي وبابا روما، ولكن فقط حول مسائل معينة. وشهدت العلاقة، من جهة أخرى، توتراً مستمراً نظراً لقرار الحرب في العراق الذي اتخذ الفاتيكان خطوات عديدة لمنعه من خلال مبادرات دبلوماسية، بالإضافة إلى المسألة المتعلقة بدور القانون الدولي وسيادته. وفي موضوع مكافحة الإرهاب عموماً، قدم كل من يوحنا بولس الثاني وبندكتس السادس عشر دعمهما في كلمات تدين هذه "الآفة المعاصرة"، كما وصفها يوحنا بولس الثاني، إنما جاء التعبير عن هذا الدعم بأسلوب عام.
وبعد مرور ثماني سنوات من الأخذ والرد حول المسائل المتعلقة بالدفاع عن الحياة مع إدارة كلينتون، نفحت مبادىء بوش وسياساته المؤيدة للحياة نسمة من الهواء العليل في أجواء الفاتيكان. فمن سحب المبالغ المخصصة لتمويل الإجهاض في الخارج إلى الحدّ من البحوث على الخلايا الجذعية الجنينية فسياسات الزواج التقليدي ومناهضة زواج المثليين، كلها مسائل وجد من خلالها الفاتيكان حليفاً قوياً في الرئيس بوش. وفي وقت لم يكن أي إجراء أو قانون بمنأى من الإنتقادات من وجهة نظر الكاثوليك، ولاسيما القرار المتعلق بإجراء البحوث على الخلايا الجنينية، غالباً ما كان الفاتيكان يشيد بجهود الرئيس الداعمة للحياة والعائلة وخاصةً بلسان الكاردينال لوبيز تروجيللو من المجلس الحبري للعائلة الذي لطالما كان من أبرز مناصريه العلنيين.
وبالإضافة إلى المسائل المرتبطة بالحياة والعائلة، كان هنالك أرضية للتوافق على بعض مبادرات بوش المتعلقة بالهجرة وقد أشاد بها مجلس أساقفة الولايات المتحدة، وعلى التعاون القائم بين الكنيسة والدولة لناحية النشاطات الخيرية التي أطلق الرئيس بوش عليها إسم "المبادرة القائمة على الإيمان". ويوم السبت، سلّط بوش الضوء على إنجازاته في مجال المساعدات الإنسانية من خلال المنظمات والبرامج القائمة على الإيمان (كخطة الرئيس الطارئة لمعالجة الأيدز، المعروفة بخطة بيبفار) في كل من اللقاءين اللذين جمعاه بالبابا بندكتس وبجماعة سانت إبجيديو التي ترعى برنامجاً ناجحاً لمعالجة مرضى الأيدز في إفريقيا.
بيد أن أياً من برامج إدارة بوش أو سياساتها القائمة على مبدأ "المحافظية العطوفة" ("compassionate conservatism") لم يُقرّ من دون بعض التحفظ، سواء من مسؤولي الكنيسة الكاثوليكية أو من كافة أعضاء الحزب الذي ينتمي إليه وقد ذعر بعضهم جراء ميول بوش نحو "حكومة واسعة".
وقد قاد جورج دبليو بوش حملته على أساس مبدأ "المحافظية العطوفة" في العام 2000 وشكلت المبادرة القائمة على الإيمان Faith-Based Initiative أفضل إنجاز له يمكنه الإعتداد به كحاكم لولاية تكساس والمبادرة السياسية التي حظيت بأوسع ترويج قبيل انتخابه رئيساً للجمهورية. غير أن هجمات الحادي عشر من سبتمبر الإرهابية في نيويورك وواشنطن حولت بوش إلى "رئيس حرب" بين ليلة وضحاها ووضعته في موقع تصادم محتمل مع الفاتيكان بسبب القرارات التي اتخذها وإدارته رداً على هذه الهجمات.
إنها لسخرية قدر من غير المرجح ألا يفهمها بوش. فهو مسيحي "ولد من جديد" ذو ذهنية مسكونية أحاط نفسه بخبراء استراتيجيين كاثوليك مثل ديل هيودسون ومفكرين كاثوليك مثل الأب ريشارد جون نيوهاوس وموظفين كاثوليك مثل جيم تاوي (المدير السابق لمكتب البيت الأبيض الخاص ب "المبادرات المجتمعية القائمة على الإيمان"). وقد أعرب بوش كذلك عن مودة تجاه الأب الأقدس والكنيسة الكاثوليكية لم نألفها مع أي رئيس للولايات المتحدة، تلك الدولة المعروفة بموقفها التاريخي ضد "البابوية". وفي لقائه الأخير مع يوحنا بولس الثاني في العام 2004، قلّد بوش الحبر الأعظم وسام الحرية الرئاسي، وهو أرفع وسام يُمنح لمدني، لدوره في إحباط الشيوعية ونشر الحرية على الصعيد العالمي.
ومنذ قيام علاقات ديبلوماسية كاملة بين الكرسي الرسولي والولايات المتحدة في العام 1984 في ظل حبرية البابا يوحنا بولس الثاني وإدارة الرئيس رونالد ريغان – وهي خطوة ترمز إلى قبول الكاثوليك أخيراً في السياسات الأميركية بقدر ما ترمز إلى تحالف في الحرب الباردة–، لم يمرّ أي رئيس أميركي في روما من دون زيارة الفاتيكان. إلا أنه يبدو أن الرئيس بوش قد ذهب أبعد من البروتوكول البحت ومجرد تقديم احتراماته للأب الأقدس السابق، حيث قام بثلاث زيارات إلى يوحنا بولس الثاني، بالإضافة إلى ظهور شخصي له – برفقة زوجته وبعض أعضاء طاقمه—في جنازة البابا حيث التقى الكاردينال راتزينغر للمرة الأولى.
كما ترأست كولومبا بوش، زوجة أخ الرئيس بوش الكاثوليكية، وفداً أميركياً لحضور احتفالات الذكرى الخامسة والعشرين لانتخاب يوحنا بولس الثاني على السدة البطرسية. والتقى وزير الخارجية الأميركي الأسبق كولين باول البابا يوحنا بولس الثاني أمين سر دولة حاضرة الفاتيكان يومذاك الكاردينال سودانو وأمين سر العلاقات مع الدول رئيس الأساقفة جان لوي توران في شهر يونيو 2003 للترويج لعدد من سياسات بوش الحكومية. كذلك أجرت وزيرة الخارجية الأميركية الحالية كوندوليزا رايس زيارة منفردة إلى الفاتيكان في شهر فبراير 2005 والتقت الكاردينال أنجيلو سودانو بغياب البابا يوحنا بولس الثاني الذي كان يصارع المرض في ذلك الوقت.
وإن صحّ أن هذه الزيارة كانت أول زيارة خاصة يقوم بها بوش إلى بندكتس السادس عشر، إلا أن شقيق الرئيس وحاكم ولاية فلوريدا السابق المعتنق الكاثوليكية جيب بوش قد شارك في قداس تنصيب البابا الحالي في 24 أبريل 2005 كما التقت لورا بوش، ترافقها ابنتها باربرا، قداسة البابا في مقابلة مختصرة في فبراير 2006.
وقد وصف بوش لاحقًا أول لقاء له بيوسف راتسينغر منذ انتخابه على السدة البطرسية بال "تجربة المؤثرة"، تماماً كما اعتاد أن يعبر عن إعجابه بيوحنا بولس الثاني، وقال إنه شعر بال "رهبة" لوجوده بحضور الأب الأقدس الذي يصفه بأنه "رجل فائق الذكاء ومحبّ".
وتماماً كما مع البابا يوحنا بولس الثاني، عرف بوش كيف يبقى على إعجابه الشخصي الكبير بالبابا حتى عندما تلقى انتقادات هذا الأخير على السياسات التي يتّبعها. وعند لقائهما الأول، بدا كل من الرجلين سعيداً، حتى لا نقول متحمساً إلى حدّ التوتر، لوجوده في حضرة الآخر.
بيد أن الرئيس بوش بدا أكثر تجهّماً بعد المباحثات الخاصة التي دارت بينهما، فيما كان يقدّم وفده المرافق الذي يضمّ نائب كبير موظفي البيت الأبيض وكبير المستشارين كارل روف إلى الحبر الأعظم. وفيما كانت المجموعة تواكَب لمغادرة الجناح البابوي بعد التقاط الصور الأخيرة، إنحنت امرأة تحمل دفتراً صوب روف أثناء مروره وطمأنته قائلة: "كل شيء على ما يرام"، بالإشارة إلى برنامج الرحلة الموقت دقيقة بدقيقة الذي كانت تحمله وتتأكد فيه لوفد بوش من أنه يجري اتباعه بدقة. زيارة البابا؟ أُنجزت. والآن، جاء دور اللقاء في أمانة سر الفاتيكان، يليه موعد غذاء مع رئيس الوزراء الإيطالي رومانو برودي والقهوة مع سيلفيو برلسكوني. وها قد انطلق السباق من جديد!
على أجندة بندكتس: المسيحيون في الشرق الأوسط
وفي إشارة إلى أنه رجل مهمات شأن الرئيس بوش، غادر بندكتس الفاتيكان في موكب بُعيد لقائه مع بوش، في حين كان هذا الأخير لا يزال في اجتماعه في أمانة السر.
وكان اللقاء الذي توجه البابا لحضوره يحمل العناوين نفسها التي كانت للتو محور مباحثاته مع الرئيس بوش ومحط اللقاء الذي كان لا يزال جارياً بين الرئيس من جهة والكاردينال برتوني ورئيس الأساقفة المونسنيور مامبرتي من جهة أخرى.
توجه البابا خارج أسوار الفاتيكان قاصداً مجمع الكنائس الشرقية في شارع المصالحة عند الثانية عشرة والنصف ظهراً لإعلان تعيين ديبلوماسي قديم العهد في الفاتيكان، رئيس الأساقفة الأرجنتيني المونسنيور ليوناردو ساندري، 62 عاماً، رئيساً جديداً للمجمع خلفاً للسوري الأصل الكاردينال اغناطيوس موسى الأول داود، بطريرك أنطاكيا سابقاً.
وقد لخصت كلمة البابا قلقه الشديد حيال مسألة المسيحيين المضطهَدين الذي أعرب عنه بوضوح للرئيس بوش حيث قال: "أرفع من صميم قلبي دعاءً لأجل السلام في الأراضي المقدسة، في العراق ولبنان، وجميع الأراضي التي تتبع قانونيًا مجمع الكنائس الشرقية، إضافة إلى كل المناطق التي تعيش في دوامة عنف يبدو وكأنه يتعذر وضع حد لها". "عسى أن تتمكن الكنائس وتلاميذ الرب من البقاء هناك حيث ولدوا بحسب إرادة العناية الإلهية؛ حيث من حقهم البقاء لأجل حضور يعود إلى المسيحية الأولى".
وفي الدقائق القليلة التي فصلت بين زيارة الرئيس بوش له والجولة القصيرة التي قام بها إلى مجمع الكنائس الشرقية، وجد البابا الوقت الكافي لتوجيه خطاب آخر باللغة الفرنسية إلى وفد مجلس أساقفة إفريقيا الشمالية في زيارتهم القانونية للأعتاب الرسولية. هنا أيضاً، تطرق بندكتس إلى مسألة المسيحيين في الدول المسلمة، مشدداً هذه المرة على التطورات الإيجابية الحاصلة في العلاقات بين المسيحيين والمسلمين في مناطقهم، قائلاً: "يسعدني أن أعلم أنه، بفضل مبادرات الحوار وأماكن التلاقي، كمراكز الدراسة والمكتبات، أنتم منخرطون في تطوير وتعميق علاقات الإحترام والتقدير المتبادل بين المسيحيين والمسلمين من أجل تعزيز المصالحة والعدالة والسلام".
وأضاف: "من جهة أخرى، ومن خلال تشارك الحياة اليومية، يمكن للمسيحيين والمسلمين أن يجدوا القاعدة الأساسية لتعارف متبادل أفضل". "عبر المشاركة الأخوية في أفراح وآلام بعضكم البعض الآخر، وخاصةً في لحظات الوجود الأكثر تأثيراً، وعبر التعاون في مجالات مختلفة كالصحة والتربية والثقافة أو في خدمة الأكثر حرماناً، تعبرون عن تضامن حقيقي من شأنه أن يوثق روابط الثقة والصداقة بين الأشخاص والعائلات والمجتمعات".
إن هذه المبادرات المشجعة والنشاطات التعاونية التي تشكل أسس التعايش السلمي بين المسيحيين والمسلمين قد لا تكون كافية لمواجهة تصاعد موجة الإرهاب والإضطهاد ضد المسيحيين في العالم، ولكنها من دون شك ستشكل بالنسبة إلى الفاتيكان إجراءات مضادة للتعصب الديني المتنامي على صعيد الجماعات المحلية، خاصةً في العراق. وقد أشار البابا في موقفه حول أوجه دعم الكنيسة المضطهَدة في العراق وفي الشرق الأوسط إلى مسألة تعيين رئيس الأساقفة المونسنيور ساندري – الذي كان "القائم بالشؤون" أو نائب أمين سر الشؤون العامة في أمانة سر حاضرة الفاتيكان—وخلف ساندري في هذا الموقع، المونسنيور فرناندو فيلوني الذي كان سفيراً بابوياً في الأردن والعراق بين العامين 2001 و2006.
إذاً، لقد ترك بندكتس لقاء مع بوش ليوجه كلمة إلى أساقفة إفريقيا الشمالية ركزت على التعاون مع المسلمين المحليين ولإدراج موعدين جديدين أساسيين على جدول أعماله، أحدهما إلى المجمع الذي يشرف على الكنائس في الشرق الأوسط والآخر إلى الموقع الديبلوماسي الأعلى في الفاتيكان. والأشخاص الذين قدّمهم هم ساندري، وهو ديبلوماسي محنك ومخضرم للغاية، وفيلوني الذي أتمّ للتوّ خمس سنوات من التجربة المباشرة في الشرق الأوسط، وفي العراق بشكل خاص. وبحسب لغة الفاتيكان الدقيقة، فإن برمجة المواعيد الثلاثة في اليوم نفسه – بوش وأساقفة إفريقيا الشمالية والمجمع الشرقي، بالإضافة إلى تعيينات ساندري وفيلوني—تعطي فكرة واضحة عن نقاط تركيز الفاتيكان ونواياه. فالبابا يعير اهتمامه الشخصي لمسألة العلاقات بين المسيحيين والمسلمين في الشرق الأوسط ويختار أفضل رجاله لمساعدته على بلورة سياسة كفيلة بحماية المسيحيين الذين بقوا في تلك المنطقة من العالم.
وصف أحد الديبلوماسيين الأميركيين الفاتيكان ذات مرة بأنه "أفضل مركز إصغاء في العالم". وقبيل مقابلته مع البابا، قال الرئيس بوش إنه سيكون "كله آذان" عندما يلتقي البابا، تماماً كما قال إنه "سيكون هناك للإصغاء" في تعليق له حول زيارته الأخيرة إلى يوحنا بولس الثاني في العام 2004.
وهذه مقاربة حكيمة، نظراً للخبرة التي اكتسبتها الكنيسة في شتى المواضيع المتعلقة بسِيَر الأشخاص، أكانوا من العاملين في حقل السياسة أو المجتمع أو الأخلاق. ونظراً "للفريق المخابراتي" الجديد في خدمة بندكتس، ونجاحه في اكتشاف الوقائع الحاصلة على أرض العراق، في أماكن لا يمكن للحكومة الأميركية حتى أن تصلها، فإن الإصغاء إلى الكرسي الرسولي لا يُعتبر ضرباً من ضروب الحكمة وحسب، بل هو ضروري لنجاح مهمة الولايات المتحدة على المدى البعيد.
لطالما حرصت إدارة بوش على التودد فعلياً للفاتيكان على أمل توثيق أواصر التعاون معه وتلافي الصراعات. إنها سياسة وموقف يقدرهما الكرسي الرسولي ويرحب بهما، ولكن بندكتس السادس عشر لن يُجرّ إلى شراكة سياسية من شأنها أن تعرّض أحكام الكنيسة الأخلاقية ومبادئها للخطر.
أندريا كورك عساف حائزة منحة للصحافة من مؤسسة فيليبس في العام 2003، خلال الجدال الذي كان قائماً حول الحرب العادلة واجتياح العراق، لكي تقوم بأبحاث وكتابات حول العلاقة القائمة بين إدارة بوش والفاتيكان. وقد صدرت لها مقالات في هذا الشأن في مجلة إنسايد ذو فاتيكان Inside the Vatican وغيرها من المجلات، كما أجريت معها مقابلات في وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة.

 

الفاتيكان، 15 يونيو 2007 (ZENIT.org).