القاتيكان، 18 يونيو 2007 (ZENIT.org).
ننشر في ما يلي كلمة قداسة البابا بندكتس السادس عشر إلى وفد مجلس أساقفة أفريقيا الشمالية الذين واستقبلهم في الأيام السابقة في عدة مقابلات لمناسبة زيارتهم القانونية للأعتاب الرسولية:
* * *
إخوتي الأساقفة،
يسعدني أن أرحب بكم، أنتم رعاة الكنيسة الكاثوليكية في دول أفريقيا الشمالية. فمن خلال زيارتكم القانونية، تحجون إلى جوار ضريح الرسل لإحياء إيمانكم وتوطيد روابط كنائسكم المحلية مع خليفة بطرس والكنيسة الكونية. أشكر رئيس مجلسكم الأسقفي، المونسنيور فينسان لانديل، رئيس أساقفة الرباط على كلماته التي تعبّر عن تنوع إلتزامات الكنيسة في بلادكم وعن المحبة التي تكنّها جماعاتكم للأرض التي تعيش عليها. عندما تعودون إلى أبرشياتكم، أطلب منكم أن تنقلوا محبتي وعاطفتي إلى الكهنة والرهبان والراهبات والمؤمنين كافة، لاسيما من تربطهم روابط أوثق ببلادكم. كما أحيي بحرارة مختلف الشعوب التي تعيشون وسطها. فليباركها الله وليساعدها على التقدم في جهودها من أجل بناء مجتمع أكثر أخوية وعدلاً.
إن تنوع الأوضاع الإنسانية والكنسية في بلدانكم لا تعيق الأخوة التي تضعونها نصب أعينكم وفي سلم أولويات مجلسكم، إذ تجدون فيه دعماً ملحوظاً لرسالتكم، خاصةً في المحن التي طبعت بعض كنائسكم المحلية. فوحدتكم خير شاهد لتعليم الرب يسوع: "ليكونوا واحداً هم أيضاً فينا، ليؤمن العالم بأنك أنت أرسلتني" (يو 17، 21). فبمؤازرة كهنة أبرشياتكم الذين يواجهون حالات غالباً ما تفترض حساً كنسياً كبيراً وقناعات روحية راسخة، بالإضافة إلى تنبه مستمر لأنات الروح الجديدة، أنتم تتولون بشجاعة خدمة الشعب الذي أُوكل إليكم. فليكن الرب الذي يرافقكم كل يوم مصدر قوة وفرح لكم في رسالتكم.
إن التلاقي الأخوي مع الرجال والنساء الذين تعيشون وسطهم هو أحد العناوين التي تحبذون تطويرها تعبيراً عن رسالة الكنيسة في منطقتكم. ومن هذا المنطلق، أنا أشجعكم على قيادة المؤمنين على درب اللقاء الحقيقي مع الرب الذي يقودهم إلى لقاء إخوتهم وأخواتهم، هو الموجود بشكل سري في قلب كل واحد وفي سعي كل إنسان إلى الحقيقة والسعادة (راجع Ad gentes، الفقرة 11). لذا، وعلى خطى الأب شارل دي فوكو الذي عاش هذا السر بملئه والتي فرحت كنائسكم الرعوية بتطويبه منذ أشهر خلت، فليكن سر القربان المقدس في صلب حياة جماعاتكم. ففي الإحتفال بهذا السر العظيم كما في عبادة القربان المقدس اللذين يشكلان أفعال تلاقي شخصية مع الرب تنضج الدعوة العميقة والحقيقية لهذا البعد من المهمة الذي يقضي بكسر الحواجز بين الرب وبيننا، والحواجز التي تفصلنا عن بعضنا البعض الآخر.
خلال القرون الأولى، ساهمت الجماعات المسيحية في منطقتكم في بناء الجسور بين ضفتي المتوسط. واليوم أيضاً، إن القديسَين قبريانوس وأغسطينوس وأمثالهما من شهود الإيمان سيظلون مراجع روحية وفكرية وثقافية أكيدة، كما أن أبناء جماعاتكم المسيحية هم مصدر تنوع كبير، سواء من حيث أصولهم أو نظراً لفترة إقامتهم في المغرب وأسبابها. وهي بذلك تعطي صورة عن كونية الكنيسة التي تتوجه رسالتها الإنجيلية إلى الأمم جمعاء. أود أن أحيي على وجه خاص هنا الشباب المسيحي في أفريقيا جنوبي الصحراء الذين يتابعون دراستهم في بلادنا. علّ تضامنهم والدعم الأخوي الذي يقدمه لهم مرشدوهم يساعدهم على الشهادة بسخاء لإيمانهم كتلاميذ للمسيح وسط إخوتهم. إن قوة وأصالة شهادة المؤمنين في أبرشياتكم للكنيسة، في عائلاتهم وأماكن عملهم ودراستهم وسكنهم، تفترضان من الرعاة أن يتقرّبوا من اهتماماتهم ومشاغلهم ويقدموا لهم الدعم الروحي اللازم. فمن شأن ذلك أيضاً أن يجعلهم يعون المعنى الكنسي لوجودهم في المجتمع ويقومون بالمسؤوليات التي تقع على عاتقهم ضمن الجماعة. فمن خلال دعمكم إيمانهم عبر الإحتفال بالأسرار وتأمين تنشئة مسيحية متينة لحياتهم، والبحث عن نظرة إنجيلية للوقائع الإجتماعية والثقافية والدينية في البلاد، إنما تؤمنون لهم سبل مواجهة الأوضاع العصيبة التي تواجههم في حياتهم اليومية وفي عملهم بشجاعة. إن النوعية الروحية للجماعات المسيحية، القائمة على القناعة بأن الرب حاضر دائماً أبداً وبأنه يعمل فيها ومن خلالها، ضرورية لكي يتمكنوا من الشهادة للرجاء الذي يحركهم. فعسى أن تكون هذه الجماعات بحق، في اتحادها برعاتها في جوّ من المحبة الأخوية، مساحات للمشاركة، تعبيراً لمحبة الله لجميع البشر.
من هذا المنظور،يكتسب الحوار بين الأديان أهمية بالغة في نشاطات أبرشياتكم الراعوية. وقد سنحت لي الفرصة أن أقول في السابق وأنا أردد اليوم "أننا بحاجة ماسة إلى حوار حقيقي بين الديانات والثقافات، كفيل بأن يساعدنا على أن نتجاوز معاً كل الضغوط، في روح من التعاون المثمر" (خطاب إلى سفراء الدول المسلمة، بتاريخ 25 سبتمبر 2006). يسعدني بالتالي أن ألاحظ أنكم، ومن خلال مبادرات حوارية وأماكن التلاقي كمراكز الدراسات والمكتبات، ملتزمون جدياً في تطوير وتعميق علاقات التقدير والإحترام المتبادل بين المسيحيين والمسلمين بهدف تعزيز المصالحة والعدالة والسلام. ومن جهة أخرى، وفي تشارك الحياة اليومية، يمكن للمسيحيين والمسلمين أن يجدوا الركيزة الأساسية لتعارف متبادل أفضل. فعبر المشاركة الأخوية في أفراح وآلام بعضكم البعض الآخر، وخاصةً في لحظات الوجود الأكثر تأثيراً، وعبر التعاون في مجالات مختلفة كالصحة والتربية والثقافة أو في خدمة الأكثر حرماناً، تعبرون عن تضامن حقيقي من شأنه أن يوثق روابط الثقة والصداقة بين الأشخاص والعائلات والمجتمعات ومن بين المسائل الكبرى التي تواجهها منطقتكم، ظاهرة هجرة سكان أفريقيا الصحراوية الذين يحاولون أن يقطعوا المتوسط لدخول أوروبا طلباً للرزق والعيش الكريم وهذه الظاهرة يجب أن تحثكم على التعاون خدمة للعدالة والسلام. إن وضع هؤلاء الأشخاص، المقلق للغاية وصولاً إلى حدّ المأساوية أحياناً، لا يمكن إلا أن يخاطب الضمائر. والمساعدة السخية التي تقدمها لهم كنائسكم لهي مساهمة في الإعتراف بكرامتهم وشهادة للرب. وأنا أحث بشدة الدول المعنية بظاهرة الهجرة هذه على أن تبحث عن سبل فعالة تعطي الجميع رجاء بإمكانية بناء مستقبل لهم ولعائلاتهم وأن تُحترم كرامة كل شخص بشري على الدوام.
أود أيضاً أن أشدد على أهمية الحياة المكرسة في أبرشياتكم. إن تفاني الرهبان والراهبات المجرد من كل مصلحة شخصية في خدمتهم السكان من دون تمييز من حيث العرق أو الديانة هو محطّ تقدير الجميع. إن حياة بذل الذات هذه، في التخلي عن الذات وفي الحرية الداخلية هي قبل كل شيء شهادة على انتماء كلي لله تولّد شوقاً حقيقياً في الذهاب إلى لقاء الآخر ولاسيما المهمشين والمنبوذين. ويكتسب هذا الإنتماء إلى المسيح معنى أشمل من خلال شهادة الرهبان والراهبات الذين أحييهم تحية خاصة وأشدّ على يدهم. إن حياة الصلاة والتأمل التي يعيشونها هي نعمة للكنيسة برمتها في منطقتكم. وأمانتهم المتّزنة للشعوب التي تستضيفهم هي شهادة معبرة عن محبة الله التي يريدون إظهارها للجميع، كما يشهد مثال جماعة تبحرين المؤثر. إن تعاون أبرشياتكم الذي يصبح أوثق يوماً بعد يوم مع كنائس الشرق الأوسط وأفريقيا لشهادة لا تقدّر بثمن بالنسبة إلى منطقتكم التي تشكل همزة وصل بين أفريقيا وأوروبا والعالم العربي. ولا شك في أن تطوير هذه العلاقات هو أيضاً تعبير حقيقي عن تضامن الكنيسة في أفريقيا والشرق الأوسط، في حرصها الرسولي على منطقتكم. وإن استضافتكم لكهنة وراهبات تحرصون على تنشئتهم وفقاً لمعطيات كنسية تختلف في معظم الأحيان كل الإختلاف عن المعطيات السائدة في بلدانهم تشكل بالنسبة إليكم ركيزة رعوية قيمة وبالنسبة للجميع انفتاحاً على البعد الكوني لرسالتكم.
إخوتي الأساقفة، أنا أشجعكم من صميم القلب على الثبات في خدمتكم الرسولية لشعوب منطقتكم. وليكن المسيحيون في بلادكم، على مثال الطوباوي شارل دي فوكو، شهوداً أمينين على الأخوة الشاملة كما علمها المسيح لتلاميذه. أخيراً، أوكل جماعاتكم لحماية أمنا سيدة أفريقيا وبكل سرور أمنحكم وكهنتكم والرهبان والراهبات وكل المؤمنين في أبرشياتكم بركتي الرسولية المملوءة عاطفة ومودة.