بندكتس السادس عشر: لا يمكن لأوروبا ن تتنكر لجذورها المسيحية

لقد أعطت المسيحية بنية عميقة لهذه القارة

فيينا، 10 سبتمبر 2007 (ZENIT.org).

"لا يمكن لأوروبا أن تتنكر لجذورها المسيحية". هذا ما قاله قداسة اتلبابا بندكتس السادس عشر في خطابه الذي ألقاه لدى لقائه بالرئيس النمساوي هاينس فيشر والدبلوماسيين في الهوفبورغ في فيينا.

 وقال البابا: "إن "البيت الأوروبي"، كما يطيب لنا أن ندعو جماعة هذه القارة، ستكون للجميع مرتعًا تحلو الإقامة فيه فقط إذا ما بني على أسس ثقافية وأخلاقية متينة هي القيم المشتركة التي نستخلصها من تاريخنا ومن تقاليدنا"

" لا يمكن لأوروبا أن تتنكر لجذورها المسيحية. فهذه الجذور هي عنصر ديناميكي في حضارتنا ضروري للقيام بمسيرة الألفية الثالثة. لقد أعطت المسيحية بنية عميقة لهذه القارة: وتشهد لذلك في كل الدول وبشكل خاص في النمسا الكنائسُ الكثيرة جدًا والأديار المهمة".

وأشار البابا الى أن الإيمان في أوروبا "يتجلى فوق كل شيء بالأشخاص الكثيرين الذين في مجرى التاريخ وحتى الآن، حملوا إلى حياة رجاء وحب ورحمة".

وانتقل بندكتس السادس عشر ليتحدث عن طراز العيش الأوروبي الذي يجد ذاته أمام تحد كبير  إذ أنه "يُعنى بهذا النظام الاجتماعي الذي يربط بين الفعالية الاقتصادية والعدالة الإجتماعية، والتنوع السياسي مع التسامح، والليبرالية مع الانفتاح، ولكن أيضًا المحافظة على القيم التي تمنح هذه القارة موقعها الخاص".

وأشار قداسته الى أنه لا يمكن الحد من ظاهرة العولمة غير أن هناك "واجب طارئ ومسؤولية سياسية كبيرة وهي أن يعطى للعولمة شروطًا وحدودًا مناسبة لمنع تحقيقها على حساب الدول الفقيرة وفقراء الدول الغنية، وعلى حساب الأجيال المستقبلة".

وجاء الحبر الأعظم في ختام كلمته على ذكر الطرق الخاطئة التي عانت منها أوروبا ومنها: التقييد الإيديولوجي الفلسفي، والعلمي وحتى الإيماني، استغلال الدين والعقل لأهداف إمبريالية، انحطاط الإنسان من خلال المادية النظرية والعملية، وأخيرًا انحطاط التسامح في إطار لا مبالاة خالية من المبادئ الثابتة".

" ولكن من خصائص أوروبا أيضًا القدرة على النقد الذاتي الذي يميزها ويعطيها طابعها الخاص في بانوراما ثقافات العالم".

 

لا يمكن اعتبار الإجهاض حقًا بشريًا – إنه عكس الحق البشري

الإجهاض جرح اجتماعي بالغ

فيينا، 10 سبتمبر 2007  (ZENIT.org).

في خطابه الذي ألقاه لدى لقائه بالرئيس النمساوي هاينس فيشر والدبلوماسيين في الهوفبورغ في فيينا، ركز البابا بندكتس السادس عشر على أهمية الحياة والدفاع عنها منذ لحظة الحبل بها وحتى نهايتها الطبيعية.

 وقال البابا: "إن مفهوم الحقوق البشرية قد رأى النور للمرة الأولى في أوروبا. الحق البشري الأساسي، الذي هو ركيزة باقي الحقوق، هو الحق بالحياة نفسها. وهذا ينطبق على الحياة من لحظة الحمل إلى النهاية الطبيعية"

وتابع قائلاً : "لا يمكن اعتبار الإجهاض حقًا بشريًا – إنه عكس الحق البشري. إنه "جرح اجتماعي بالغ"، كما كان أخانا الكاردينال الراحل فرانس كونغ يردد دون كلل.

وتوجه الأب الأقداس بنداء الى المسؤولين السياسيين "لكي لا يسمحوا بأن يتم اعتبار الأبناء كمرض، أو أن يتوقف القانون عن اعتبار الإجهاض أمرًا جائرًا"/ مشيراً الى أن الكنسية في كلامها عن هذا الموضوع لا تعبر عن اهتمام كنسي بحت بل أيضاً بدافع القلق بشأن القيم الإنسانية.

وحث بندكتس السادس عشر المسؤولين على تشجيع الشبابا ليوسسوا " من خلال الزواج، عائلات جديدة، ويصبحوا آباء وأمهات! بهذا تؤدون خدمة خيرة لهم وللمجتمع أيضًا".

وتوقف قداسة البابا عند مشكلة الموت الرحيم فقال: "يشكل النقاش حول "المساعدة العملية على الموت" قلقًا كبيرًا بالنسبة لي. هناك الخوف من أن يتم تطبيق ضغط غير معلن، لا بل ظاهر، على المرضى والمسنين، لكي يطلبوا الموت أو لكي يسعوا إليه بنفسهم. الجواب الصحيح على الألم في نهاية الحياة هو الانتباه المحب، والمرافقة نحو الموت – خصوصًا من خلال مساعدة الأدوية المسكّنة – وليس من خلال "المساعدة العملية على الموت".

وأضاف: "ولكن لكي نقوم بمرافقة إنسانية نحو الموت، يجب القيام بإصلاح هيكلي عاجل للنظام الصحي في كل أبعاده، وتنظيم هيكليات مساعدة. ومن ثم يجب القيام بخطوات عملية: عبر المرافقة النفسية والرعوية للأشخاص الذين يعانون من أمراض مميتة، وللمنازعين، ولأهلهم، وللأطباء وهيئة العناية الطبية".

بندكتس السادس عشر: "من مجمل التراث الأوروبي، هنالك تراث من التفكير، يحمل ترابطًا جوهريًا بين الإيمان والحقيقة والعقل

فيينا، 10 سبتمبر 2007  (ZENIT.org). ."من مجمل التراث الأوروبي، هنالك تراث من التفكير، يحمل ترابطًا جوهريًا بين الإيمان والحقيقة والعقل. نحن أمام السؤال عما إذا كان العقل مبدأ كل الأشياء وركيزتها أم لا. نحن بصدد مسألة عما إذا كانت الصدفة أو الضرورة ركيزة الوجود، وبالتالي عما إذا كان العقل حصيلة ثانوية للاعقلانية، وأن يكون، في آخر المطاف، لا معنى له في محيط اللاعقلانية، أو بعكس ذلك عما إذا كان حقيقيًا ما يشكل قناعة جوهرية في الإيمان المسيحي: "في البدء كان الكلمة (اللوغوس)" – في ركيزة كل الأشياء هنالك عقل الله الخالق الذي أراد أن يشركنا نحن البشر بذاته".

كلمات استهل بها البابا بندكتس السادس عشر الحديث عن حوار العقل لدى لقائه بالرئيس النمساوي هاينس فيشر والدبلوماسيين في الهوفبورغ في فيينا.

واستشهد الأب الأقدس، في هذا الصدد، بـ يورغن هابرماس وهو فيلسوف لا ينتمي الى الإيمان المسيحي، والذي قال: لم تكن المسيحية مجرد حافز في إطار الوعي الذاتي المعياري في الزمن الحديث. فالمساواة الشمولية، الذي منه انبعثت فكرة الحرية والتعايش المتعاضد، هي إرث مباشر من العدالة اليهودية وأدبيات الحب في المسيحية. لقد قامت الشعوب باعتناق هذا الإرث، الذي لم يتحول في جوهره، تكرارًا ومجددًا بشكل نقدي وعبر تفسير جديد. فحتى اليوم لا يتوفر أي خيار آخر".

البابا يذكّر بواجبات أوروبا في العالم

ويدعو الى عدم نسيان الوضع في إفريقيا، ودارفور وفي الشرق الاوسط

فيينا، 10 سبتمبر 2007  (ZENIT.org). . " انطلاقًا من فرادة دعوتها، تحمل أوروبا مسؤولية فريدة في العالم". هذا ما قاله قداسة البابا بندكتس السادس عشر خلال لقائه بالديبلوماسيين في فيينا.

"في هذا الصدد – قال البابا –  يجب عليها (أوروبا) قبل كل شيء ألا تتخلى عن نفسها. إن القارة التي تسير بسرعة نحو الشيخوخة من الناحية الديموغرافية  لا يجب أن تصبح قارة عجوزًا روحيًا. ومن ثم، ستنال أوروبا وعيًا أكبر لذاتها إذا ما تحملت مسؤوليتها في العالم التي تطابق تقليدها الروحي الفريد، وقدراتها الفائقة وقوتها الإقتصادية الكبيرة."

وشدد الاب الأقدس على أهمية أن يلعب الاتحاد الأوروبي دوراً رائداً في الحرب ضد الفقر في العالم والالتزام في سبيل السلام.

ودعا قداسته الاتحاد الاوروبي الى تفعيل أهميته السياسية "من أجل الجواب على التحديات الطارئة التي تطرحها إفريقيا، والمآسي الكبيرة في تلك القارة، كوقر مرض انعدام المناعة (الأيدز)، والوضع في إقليم دارفور، والاستغلال الظالم للمقدرات الطبيعية وتجارة السلاح المثيرة للقلق".

وذكّر بندكتس السادس عشر بالوضع الخطر المستمر في الشرق الأوسط، "حيث ينبغي أن يسهم الجميع في تعزيز رفض العنف، والحوار المتبادل والتعايش السلمي".

بندكتس السادس عشر يتحدث إلى الكهنة والمكرسين عن جوهر دعوتهم

"الرب يدعو الكهنة والمكرسين والمكرسات والعلمانيين إلى الدخول في العالم، في واقعه المعقد، للمساهمة هناك في بناء ملكوت الله"

النمسا، 10 سبتمبر 2007 (ZENIT.org).

 تحدث بندكتس السادس عشر إلى الكهنة والمكرسين والمكرسات والشمامسة الذين تجمعوا في مزار ماريازيل نهار السبت للاحتفال بصلاة الغروب المريمية مع الكهنة والمكرسين عن جوهر ومعنى دعوتهم فقال: "الرب يدعو الكهنة والمكرسين والمكرسات والعلمانيين إلى الدخول في العالم، في واقعه المعقد، للمساهمة هناك في بناء ملكوت الله" مبينًا أن الكهنة والمكرسين قد اختيروا م العالم، إلا أن هذا الاختيار هو لأجل العالم، لأجل حمل ملكوت الله في صلب حياة العالم.

وأشار البابا إلى أن الكهونة المكرسين يقومون بهذه الرسالة "عبر الإعلان، وبناء الجماعة، في مختلف الخدمات الرعوية، عبر المحبة العملية وعبر المحبة المعاشة، عبر البحث والعلوم التي تعاش بروح رسولي في حوار مع ثقافة البيئة المحيطة، من خلال تعزيز العدالة التي يريد الله وبقدر لا يقل أهمية من خلال الاستجماع للتأمل بالله الثالوث وبالتسبيح الجماعي".

كما ويشاركون في "حج الكنيسة عبر العصور"، مشاركين في حياة المسيح "التي هي اليوم أيضًا درب صليب ودرب قيامة عبر "جليل" وجودنا".

وذكر البابا أن محور رسالة يسوع المسيح وجميع المسيحيين هي "إعلان ملكوت الله".أي الشهادة لـ "معنى يتجذر في حب الله الخلاق ويناقض كل انتقاص في المعنى وكل يأس.

فالمكرسون يقفون إلى جانب كل من يبحث عن معنى ويريد أن يعطي وجهة إيجابية لحياته. فحياة المكرس هي كحياة يوحنا المعمدان التي وصفها يسوع بـ "السراج الذي يتقد ويشع" (يو 5، 35).

وأشار البابا إلى أن اتّباع يسوع يعني "النمو في المشاركة في مشاعر يسوع وفي اعتماد أسلوب حياته"، وخصوصًا عبر خصائصه التي تعرف بالمشورات الإنجيلية: الفقر، العفة والطاعة. فمن يريد أن يتبع المسيح بشكل جذري، "عليه أن يتخلى حتمًا عن الخيرات الأرضية. ولكن عليه أن يعيش هذا الفقر انطلاقًا من المسيح، وأن يصير حرًا داخليًا لله وللقريب". والعفة هي توجيه القلب دون أنانية ودون انقسام إلى محبة الله ومحبة القريب، فرسالة يسوع كانت " تقوده إلى تكرس طاهر وغير منقسم للبشر. في شهادات الكتاب المقدس ليس هنالك لحظة لا يمكننا أن نلحظ فيها، في تعامله مع البشر، رواسب مصلحة شخصية أو أنانية. لقد أحب يسوع البشر كما أحب أباه".

والطاعة، أخيرًا، تبين لنا أن الولوج في إرادة الله كما فعل المسيح، يجعلنا نصل إلى إرادتنا الحقيقية.

عظة الأب الأقدس بندكتس السادس عشر أثناء صلاة الغروب المريمية مع الكهنة والمكرسين في مزار ماريازيل في النمسا

النمسا، 10 سبتمبر 2007 (ZENIT.org).

 ننشر في ما يلي عظة الأب الأقدس بندكتس السادس عشر أثناء صلاة الغروب المريمية مع الكهنة والمكرسين  والشمامسة في مزار ماريازيل في النمسا نهار السبت 8 سبتمبر 2007.

* * *

أيها الإخوة الأجلاء في الكهنوت،

أيها المكرسون والمكرسات الأعزاء،

أيها الأصدقاء الأعزاء!

نجتمع في بازيليك "أم النمسا الكبرى" (Magna Mater Austriae)، في ماريازيل. منذ أجيال كثيرة يصلي الناس هنا لنوال عون أم الله. نحن أيضًا نريد أن نقوم بالشيء نفسه اليوم. نريد أن معظم معها صلاح الله اللامحدود وأن نعبر لله عن عرفاننا لأجل جميع إحساناته التي نلناها، وخصوصًا لأجل عطية الإيمان التي لا تقدر بثمن. نريد أن نوكل إليها الطلبات العزيزة على قلبنا: نطلب إليها أن تحمي الكنيسة، ونستدعي شفاعتها من أجل الحصول على دعوات صالحة لأبرشيتنا ولجماعات الحياة المكرسة، نرجوها أن تعضد العائلات ونطلب صلاتها الشفيقة لأجل جميع الأشخاص الذين يبحثون عن مخرج من خطاياهم والتوبة، وأخيرًا نسلم إلى عنايتها الأمومية كل المرضى والمسنين. فلتساعد أم النمسا وأوروبا الكبرى جميعنا لكي نحقق تجدد عميق في الإيمان والحياة!

أيها الأصدقاء الأعزاء، ككهنة ومكرسين ومكرسات، أنتم خدام وخادمات رسالة المسيح. كما دعا يسوع منذ ألفي سنة أشخاصًا لاتباعه، كذلك اليوم أيضًا ينطلق رجال ونساء شباب في المسيرة لدى سماعهم نداء يسوع، وقد فُتنوا به ودفعهم الشوق إلى وضع حياتهم في خدمة الكنيسة، فكرسوها لمساعدة البشر.

يتحلون بشجاعة اتباع المسيح ويريدون أن يكونوا شهودًا له. إن الحياة في إثر المسيح هي بالواقع حياة محفوفة بالمخاطر، لأن الخطيئة تهددنا دومًا، كما ويهددنا نقص الحرية والنقص. لذلك نحتاج جميعنا لنعمته، تمامًا كما قبلتها مريم بالملء. فلنتعلم أن ننظر دومًا كمريم إلى يسوع معتبرينه مقياس وجودنا. يمكننا أن نشارك في رسالة الخلاص الشاملة في الكنيسة التي هو رأسها.

الرب يدعو الكهنة والمكرسين والمكرسات والعلمانيين إلى الدخول في العالم، في واقعه المعقد، للمساهمة هناك في بناء ملكوت الله. وهم يقومون بذلك بأشكال كثيرة ومتنوعة: عبر الإعلان، وبناء الجماعة، في مختلف الخدمات الرعوية، عبر المحبة العملية وعبر المحبة المعاشة، عبر البحث والعلوم التي تعاش بروح رسولي في حوار مع ثقافة البيئة المحيطة، من خلال تعزيز العدالة التي يريد الله وبقدر لا يقل أهمية من خلال الاستجماع للتأمل بالله الثالوث وبالتسبيح الجماعي.

يدعوكم الرب إلى المشاركة في حج الكنيسة "في مسيرتها عبر العصور". يدعوكم لتكونوا حجاج معه وأن تشاركوا في حياته التي هي اليوم أيضًا درب صليب ودرب قيامة عبر "جليل" وجودنا. ولكن، هو دومًا الرب نفسه الذي، من خلال المعمودية نفسها، يدعونا إلى الإيمان الواحد. الإشتراك في مسيرته يتطلب إذًا الأمرين سوية: الصليب – مع الفشل والألم وسوء الفهم، لا بل الاحتقار والاضطهاد أيضًا – ولكن أيضًا خبرة فرح عميق في خدمته وخبرة تعزية عميقة مصدرها اللقاء به. كما الكنيسة كذلك الرعايا والجماعات، تنبع رسالتها من خبرة المسيح المصلوب والقائم من الموت.

إن محور رسالة يسوع المسيح وجميع المسيحيين هي إعلان ملكوت الله. هذا الإعلان باسم المسيح يعني للكنيسة، للكهنة، لمكرسين والمكرسات، ولجميع المعمجين، الالتزام بأن يكونوا حاضرين في العالم كشهود له: أنتم تشهدون لـ "معنى" يتجذر في حب الله الخلاق ويناقض كل انتقاص في المعنى وكل يأس.

أنتم تقفون إلى جانب من يبحث بتعب عن معنى، وكل من يريد أن يعطي للحياة وجهًا إيجابيًا.

بصلاتكم وطلباتكم، أنتم المحامون عن الباحثين عن الله. أنتم شهود للرجاء الذي يشير إلى أمانة وانتباه الله المحب، ضد كل يأس خفي أو ظاهر.

بهذا تقفون إلى جانب كل من ينحني تحت ثقل قَدَرٍ ثقيل، ولا يستطيع أن يتحرر من نيره. إشهدوا لذلك الحب الذي وهب نفسه للبشر وهكذا انتصر على الموت. كونوا إلى جانب أولئك الذين لم يختبروا الحب أبدًا، الذين لا يستطيعون أن يؤمنوا بالحياة من بعد. ستقاومون بهذا الشكل مختلف أشكال الظلم الخفي أو المعلن، وازدراء الشخص البشري المتفشي.

بهذا الشكل، أيها الإخوة والأخوات الأعزاء، على حياتكم أن تكون مثل حياة يوحنا المعمدان، إشارة عظيمة وحية إلى حياة يسوع المسيح، ابن الله المتجسد. لقد وصف يسوع يوحنا بـ "السراج الذي يتقد ويشع" (يو 5، 35). كونوا أنتم أيضًا سرجًا مماثلة! أشعوا نوركم في المجتمع، في السياسة، في عالم الإقتصاد، في عالم الثقافة والأبحاث.

حتى ولو كان نورًا صغيرًا بين الكثير من النيران الفارغة، إلا أنه يتلقى تألقه وقوته من نجمة الصبح العظيمة، المسيح القائم، ذي النور المشع الذي لا يغرب أبدًا.

اتّباع يسوع يعني النمو في المشاركة في مشاعر يسوع وفي اعتماد أسلوب حياته (راجع فيل 2، 5). "النظر إلى المسيح" هو شعار هذه الأيام. بالتحديق إليه، إلى معلم الحياة العظيم، اكتشفت الكنيسة 3 خصائص في موقف يسوع الداخلي. لقد أصبحت هذه الخصائص – التي ندعوها "مشورات انجيلية" – عناصر حاسمة في حياة ملتزمة باتباع جذري للمسيح: الفقر، العفة والطاعة. فلنتأمل قليلاً بهذه الخصائص.

يسوع المسيح، الذي كان غنيًا بغنى الله كله، صار فقيرًا لأجلنا (راجع 2 قور 8، 9). لقد أخلى ذاته وتواضع وصار طائعًا حتى موت الصليب (راجع فيل 2، 6+). هو الفقير، جعل الفقراء "طوباويين". لوقا يبين لنا أن هذا التعبير يتعلق بالتأكيد بفقراء إسرائيل في زمانه، حيث هناك فرق كبير بين الأغنياء والفقراء. ولكن متى، في صيغته يوضح بأن الفقر المادي بحد ذاته لا يضمن بعد القرب من الله، حتى ولو أن الله قريب من هؤلاء الفقراء بشكل خاص. هكذا يصبح كل شيء واضحًا: المسيحي يرى فيهم المسيح الذي ينتظره ويتوقع التزامه. من يريد أن يتبع المسيح بشكل جذري، عليه أن يتخلى حتمًا عن الخيرات الأرضية. ولكن عليه أن يعيش هذا الفقر انطلاقًا من المسيح، وأن يصير حرًا داخليًا لله وللقريب.

على مسألة الفقر أن تصير مجددًا مسألة فحص ضمير صارم بالنسبة لكل المسيحيين، وبشكل خاص بالنسبة للكهنة، والمكرسين والمكرسات، أفرادًا وجماعات.

لكي نفهم جيدًا ما معنى العفة، علينا أن ننطلق من محتواها الإيجابي. ونجده مجددًا من خلال النظر إلى يسوع المسيح. لقد عاش يسوع في اتجاه مزدوج: نحو الآب ونحو القريب. في الكتاب المقدس نتعرف إليه كرجل مصلٍ كان يقضي ليالٍ كاملة بالحوار مع الآب. بصلاته كان يدخل إنسانيته وإنسانية جميعنا في علاقته البنوية مع الآب. هذا الحوار كان يصير بشكل متجدد رسالة نحو العالم، نحونا. كانت رسالته تقوده إلى تكرس طاهر وغير منقسم للبشر. في شهادات الكتاب المقدس ليس هنالك لحظة لا يمكننا أن نلحظ فيها، في تعامله مع البشر، رواسب مصلحة شخصية أو أنانية. لقد أحب يسوع البشر كما أحب أباه. الولوج في مشاعر يسوع أوحى لبولس بلاهوت وبأسلوب عيش يتجاوب مع كلمة يسوع حول العفة لأجل ملكوت السماوات (راجع متى 19، 12). لا يعيش الكهنة والمكرسون والمكرسات دون علاقات بشرية. بنذر العفة في البتولية لا يتكرس المكرسون بالفردانية ولا بحياة منعزلة، بل يعِدون بشكل احتفالي أن يضعوا بخدمة ملكوت الله، بشكل كلي ودون تردد، العلاقات العميقة التي يستطيعون عيشها والتي يتلقونها كعطية.

بهذا الشكل يصبحون رجال ونساء الرجاء: باعتمادهم بالكلية على الله، يخلقون فسحات لحضوره – لحضور ملكوت الله – في العالم.

أنتم، أيها الكهنة والمكرسون والمكرسات الأحباء، تقدمون إسهامًا كبيرًا: في خضم كل الجشع وكل الأنانية التي لا تعرف الانتظار، وكل طمع الاستهلاك، في وسط عبادة الفردانية، نسعى نحن لعيش الحب النزيه نحو كل البشر. نعيش رجاءً يترك لله دور التحقيق. أين كان انتهى تاريخ المسيحية لو لم تكن هناك هذه الشخصيات التي تهدي شعب الله؟ ماذا كان حصل لعالمنا لو لم يكن هناك كهنة، لو لم يكن هناك رجالاً ونساء في الرهبانيات وفي جمعيات الحياة المكرسة – أشخاصًا يشهدون بحياتهم لرجاء إشباع أعمق أشواق الحياة البشرية وخبرة حب الله الذي يتخطى أي حب بشري؟ العالم يحتاج إلى شهادتنا اليوم أيضًا.

ونصل الآن إلى الطاعة. لقد عاش يسوع حياته كلها، من السنين الخفية في الناصرة وصولاً إلى لحظة الموت على الصليب، في الإصغاء إلى الآب، في الطاعة نحو الآب. للنظر، على سبيل المثال، الليلة في بستان الزيتون. "لا تكن مشيئتي بل مشيئتك". من خلال هذه الصلاة، يصهر يسوع في إرادته كإبن مقاومتنا العنيدة، ويحول عصياننا في طاعته. لقد كان يسوع مصليًا. وكان بهذا شخصًا يعرف الإصغاء والطاعة: صار "طائعًا حتى الموت، موت الصليب" (فيل 2، 8). لقد اختبر المسيحيون دومًا، أنه باستسلامهم لإرادة الآب، لا يخسرون أنفسهم، بل يجدون السبيل نحو هوية عميقة وحرية داخلية. لقد اكتشفوا أنه، في يسوع، يجد نفسه من يهب نفسه، يصبح حرًا من يربط نفسه بالطاعة ترتكز في الله ويحركها البحث عن الله.

الإصغاء إلى الله والطاعة له لا علاقة لهما بالضغط الخارجي وبفقدان الذات. فقط عبر الولوج في إرادة الله نبلغ إلى إرادتنا الحقيقية. إن شهادة هذه الخبرة هي ضرورية في عالم اليوم بالنظر إلى توقه إلى "تحقيق الذات" و "تحديد الذات".

يخبر روكانو غوراديني في سبرته الذاتية، في لحظة حرجة من مسيرته، عندما أصبح إيمان طفولته متقلقلاً، نال هبة خيار مثبّت لكل حياته – أي الإرتداد – من خلال لقائه بكلمة يسوع القائلة بأن من يخسر حياته يجدها (راجع مر 8، 34+؛ يو 12، 25)؛ من دون التخلي، من دون خسران الذات، لا يستطيع المرء أن يجد نفسه، أو أن يحقق نفسه.

ولكن بأي اتجاه يصح أن يخسر المرء نفسه؟ وإلى من يجب أن يهب نفسه؟ تجلى أمام فكر غوراديني أننا نستطيع أن نهب أنفسنا بالكلية فقط إذا ما وقعنا بين يدي الله ونحن نقوم بذلك. بالله فقط نستطيع في آخر المطاف أن نخسر أنفسنا وفيه وحده نستطيع أن نجد أنفسنا.

ولكن تبادر إليه تساؤل آخر: من هو الله؟ أين الله؟ عندها فهم بأن الإله الذي نستطيع أن نتخلى عن ذواتنا لأجله لا يمكن أن يكون إلا الإله الذي صار ملموسًا وقريبًا في يسوع المسيح.

ولكن طرح من جديد السؤال التالي: أين أجد يسوع المسيح؟ كيف أستطيع أن أهب نفسي له حقًا؟ الجواب الذي وجده غوارديني في بحثه الدؤوب التالي: يسوع حاضر بالنسبة لنا بشكل ملموس فقط في جسده، الكنيسة. لهذا، الطاعة لإرادة الله، الطاعة ليسوع المسيح، يجب أن تكون بشكل عملي وملموس جدًا طاعة متواضعة للكنيسة. وحول هذا الموضوع أيضًا علينا أن نقوم بشكل متجدد بفحص ضمير عميق.

كل هذا نجده ملخصًا في صلاة القديس اغناطيوس دي لويولا – صلاة تبدو دومًا عظيمة جدًّا بالنسبة لي، لدرجة أني لا أجرؤ أن أتلفظ بها، ولكن علينا دومًا أن نأخذ الالتزام من جديد: "ربي، تقبل، حريتي، وذاكرتي، وعقلي، وكل إرادتي، كل ما لي وكل ما أملك؛ أنت أعطيتنيه وإليك أعيده ربي؛ كل شيء هو لك، تصرف بكل شيء بحسب إرادتك؛ أعطني فقط حبك ونعمتك، فهذا هو غناي، وليس لي من مطلب آخر".

أيها الإخوة والأخوات الأعزاء! الآن تعودون إلى بيئة حياتكم، إلى أماكن التزامكم الكنسي، الرعوي، الروحي والإنساني. فلتبسط الأم مريم، محاميتنا العظيمة يدها المحامية عليكم وعلى عملكم. فلتشفع لأجلكم لدى ابنها، ربنا يسوع المسيح.

إلى الشكران لأجل صلاتكم وعملكم في كرمة الرب، أضيف تضرعي للرب، لكي يهب الحماية والعافية للشباب هنا في النمسا وفي مختلف الدول التي يأتي الكثيرون من بينكم منها. وأرافقكم جميعًا ببركتي القلبية.

 

ترجمة وكالة زينيت العالمية (ZENIT.org)

حقوق الطبع محفوظة: دار النشر الفاتيكانية – 2007