مقدمة
ليست الحقيقة في المسيحية مواضيع للفهم أو للاعتقاد ، إنها شخص الله المعتلن في يسوع المسيح، فمن أراد الوصول إليها عليه اللقاء به. لاشك أن شهادة حياة يسوع بكاملها هي موضوع تعليمه. والإنجيل ككل يقدِّم لنا تعريفاً عن هذه الشهادة، ولكن هذه التعاليم ليست نظريات ، أو مجموعة عقائد علينا التسليم بها ، إنها دعوة حياة واختبار . لذلك يمكننا القول أن يسوع المعلم هو يسوع الحياة. ومن المفيد أيضاً التعرّف على تعاليم يسوع لكي نستطيع اللقاء به والحياة معه وفيه وإليه.
يسوع المعلم.. أين؟.. لمن ؟.. كيف ؟..
كان يسوع يعلم في الهيكل وفي المجامع وفي البيوت وفي كل مكان . وغالباً ما يظهره الإنجيل أنه المعلم المتجوّل. ولقد تنوّعت شرائح مستمعيه التي يمكننا أن نصنفها بعدة مجموعات: الجموع وهم البسطاء والصيادين والضعفاء وعامة الشعب، علماء الدين كالكتبة والفريسيين وعلماء الشريعة والصدوقيين، وأتباعه وهم التلاميذ والرسل وبعض النساء . وكانت طريقة تعليمه جذابة بشكل أن الإنجيل غالباً ما يظهر كثرة الجموع التي كانت تتبعه لسماع كلمة الله منه، وكانت تندهش من عذوبة كلامه . كما كان يُنتقد أحياناً ممن يشعروا أن هذه التعاليم تهدّد راحتهم. أو لأنه يعلم كمن له سلطان وليس كالكتبة والفريسيين . وكان يقدّم تعاليمه عموماً بأسلوبين: العظات، والأمثال. ويفسر لتلاميذه كلّ ما غامضاً وعميقاً ليهيئهم لرسالة الملكوت.
التطويبات: محور تعليم يسوع
تبدأ التطويبات بعبارة: "صعد يسوع الجبل "لعلها تلمح إلى التوازي مع شريعة العهد القديم (الوصايا) التي تلقاها موسى على الجبل. فالتطويبات هي أولى كلمات يسوع، وملخّص تعليمه. إنها "تفسير مسبق لسر الفصح، أي الانتقال من الطبيعة إلى التاريخ ، أو إلى الحرية.. أن توقنا العفوي والغريزي إلى السعادة يوافق طبيعتنا، ولا بدّ أن يحوَّل ليصل إلى الحرية الحقيقية. فالتطويبات هي إذاً دعوة. لا تعبّر عن حقيقة عامة (التعساء سعداء)، بل تُدخلنا في موقف، وتدعونا إلى المشاركة في الاختبار الذي هو اختبار يسوع. والحال إن الخطبة على الجبل تقول لنا ما هو الطراز الحياتي الجديد الذي يوافق عظمة الإنسان الحقيقية، والذي تنتج عنه السعادة ، لا سعادة رخيصة قائمة على الأفراح المزيفة، بل سعادة جديرة بالإنسان، سعادة بحجم عظمة أبناء الله ، سعادة المحبة".
يقول ديبون: "تحمل التطويبات رسالة لاهوتية ومسيحانية، وتعليماً يدعو إلى تحويل طرقنا في التفكير والعمل، فهي قبل كلّ شيء مناداة بالسعادة.. التطويبات موّجهة إلى المستقبل بفضل الوعد الذي يتضمنه القسم الثاني منها . فالتباين بين القسم الأول الذي يصف أوضاعاً غير سارّة و القسم الثاني الذي يوحي بمستقبل مختلف جداً، هو ما يمتاز به الرجاء".
أما بحسب شربنتيّه "فالتطويبات هي البشرى بأن الله آتٍ ليحرِّر جميع التعساء من بؤسهم . وكثيرا ما استخدمت على مرِّ الأجيال، بسبب سوء فهمها، للمحافظة على نظام اجتماعي جائر، كما لوكان يسوع قد أعلن: "من حسن حظكم أنكم فقراء، فابقَوا اذاً على هذه الحال ! وسيكافئكم الله فيما بعد عند انتقالكم الى السماء". لا شك ان كلاًّ منّا قد قرأ او سمع أقولاً لشخصيات ، ربما ، لبعضهم نيّات حسنة ، تُظهر لنا كيف أن تلك التطويبات كثيراً ما تُستخدَم كأفيون يُراد به تخفيف عذاب الفقراء، مع لإبقائهم في أوضاعهم. حقاً إن ذكرى هذه الأقوال تؤلمنا".
طوبى للفقراء بالروح، فإن لهم ملكوت السماوات
طوبى للحزانى، فإنهم يعزون
طوبى للودعاء، فإنهم يرثون الأرض
طوبى للجياع والعطاش إلى البر ، فإنهم يشبعون
طوبى للأنقياء القلوب ، فإنهم يعاينون الله
طوبى لفاعلي السلام ، فإنهم أبناء الله يدعون
طوبى للمضطهدين من أجل البر، فإن لهم ملكوت السماوات
طوبى لكم إذا عيَّروكم واضطهدوكم ، وقالوا عليكم كل كلمة سوء من أجلي كاذبين
إفرحوا وابتهجوا ، فإن أجركم عظيم في السماوات
سنختار التطويبتين الأولى والأخيرة لتكونا لنا بمثابة تعريف بسيط عن تعليم يسوع:
طوبى لفقراء الروح ، فإن لهم ملكوت السموات
إن فقر الروح هو في صميم المحبة. (والمحبة هي مختصر وملء تعليم يسوع )، فالمحبة بدون الفقر ليست بشيء (وهذا غير مفهوم إن لم تختبروه). ولذلك فالله نفسه فقير: إنه غريب عن التملّك( الله لا شيء له)، لأن كيفية وجوده هي المحبة. فقر الروح هو عدم تملُّك أنفسنا وبالتالي ترك الحرية للآخر فينا، وبذات الوقت هو حاجتنا للآخر. وبتعبير بسيط هو أن نقول للآخر :" إني أثق بك"، وهذا هو معنى الإيمان . ونقول له أيضاً:" إني أعهد إليك بسعادتي"، وهذا هو معنى الرجاء. فإن استند الفقير إلى الإيمان والرجاء ، عاش في المحبة .. وأصبح محرّراً من العقبات. إن تطويبة الفقر تسود الإنجيل كلّه . فلو لم يكن الله نفسه فقيراً، أي غريباً عن التملّك على الإطلاق، لكانت تطويبة الفقر غير معقولة : ليس لله أيّ شيء، فهو كل شيء، فالذي هو كلّ شيء لا شيء له.
طوبى لكم إن اضطُهدتم من أجل المسيح
إن خاتمة التطويبات تود أن تقول: إنكم إن اختبرتم عيش هذه الشريعة الجديدة، لا بدّ أن تعانوا الاضطهاد.. إن كانت مسيحيتنا لا تصدم، يخشى ألا تكون أصيلة. يقول بودلير: الجميل هو غريب دائماً.. إن الحق هو أيضاً غريب دائماً.. إن الناس لا يحبون ما هو غريب.. فالظهور بصورة المتواضع، بصورة المتحالف مع المغلوب والفقير والمطارَد ، هو بالضبط عدم عودة المياه إلى مجاريها.. التواضع مُزعج على الاطلاق، فليس هو من العالم… والاضطهاد والإذلال اللذان يعرِّض التواضع لهما، هما من الأشكال التي يتخذها الحق.
ويدعو يسوع بواسطة هذه التطويبات إلى الفرح لأن من يعيشها يحيا ملكوت الله.
تعليم يسوع ليس قائمة تعليمات
يقول فرنسوا فاريون: "لا يمكن أن يكون تعليم يسوع قائمة من التعليمات، بل نقول، استناداً إلى بعض الأمثلة النموذجية، إنه إزاحة الستار عن آفاق عظمة الإنسان التي لا حدَّ لها . ولا يبقى لنا إلاّ أن نصغي إلى ضمائرنا ، يوم نفهم ما هي قيمتنا وما هي رغبتنا الحقيقية ، ويوم نكتشف أن تلك المتطلبات ليست متطلبات غيرنا ، بل متطلباتنا نحن .إنها لعظمة لا حدَّ لها ، نعيشها في حياة وضيعة يومية ، وإنها لآفاق لا حدَّ لها في قلب الآفاق المألوفة ، كالعائلة والجوار والحي والمهنة… يكشف لنا يسوع كلّ ما يقدر عليه الإنسان في أبسط أنماط الحياة ، شرط أن يكون في الحقيقة ابن إله هو أب.
ليس تعليم يسوع فلسفة ، بل هو اختبار حياتي. لذلك لا يستطيع رسل يسوع أن يكون دعاة نظام فكري . ولن يستطيعوا أن يرددوا كلامه ، ما لم يشهدوا لاختبار علاقة معينة مع الله . حتى لمَّا كانوا يعيشون مع يسوع، كانت شهادتهم ناقصة إلى حد بعيد . كانوا بطيئي الإيمان وسريعي التشويه وثقيلي الاحتمال .أما بعد العنصرة ، فإن الروح القدس، الذي هو روح يسوع ، أي ذلك الذي يُلهِم ويُنعش نشاط يسوع من الداخل ، سيهب لهم أن يؤدوا في أنفسهم طريقة يسوع في العيش ونمط حياته ونوعية وجوده والحياة التي يعيشها كاملةً وفقاً لمنطق المحبة. وإلا كانت المسيحية نظاماً ، أي شيئاً آخر تماماً ، في حين أنها تصبح على جانب كبير من الأهمية، إن كانت اختباراً".
أما القديس يوحنا الذهبي الفم (القرن الرابع) فيقول: "كان الأولى أن نكون بغنى عن الكلمة المكتوبة وأن تكون حياتنا في حالة من النقاء بحيث أن نعمة الروح القدس تقوم مقام الكتب . فكما أن الكتب مكتوبة بالمداد هكذا يجب أن تكون قلوبنا مكتوبة بنور الروح القدس .ليس الإنجيل نصّاً حرفيّاً بل هو كلمة الحياة، معناه لا يكمن في حرفيته السطحية بل في جوهره. لا ينقل بواسطة تعليم نظري بل بواسطة الكرازة التي توزّع الكلمة المعلنة على المؤمنين إذ يقبلون إلى الكلمة المتجسد في ما بينهم . لا منفعة للكتاب إذا فُصل عن المسيح أو عمّا قاله الآباء في يسوع المسيح وعمّا يقوله الروح القدس. الكتاب المقدَّس خارج الكنيسة في خطر أن يتحوّل من كلمة الله في المسيح إلى كلمة بشرّية صرفة".
الإنجيل هو إيقونة المسيح المعلِّم. إن الكلمة يتجسّد في عمق كياننا الشخصي من خلال قراءة الكتاب المقدَّس ، وإن الإنسان يبلغ به إلى معرفة الإنسان الكامل الذي هو المسيح . إنّ من يطلب فهم الكتاب المقدّس في شركة الأسرار وفي الصلاة يختبر عزاء اللقاء بالسيد في النص الإنجيلي ويحمل من خلال الكلمة المكتوبة إلى حيث يجالس الكلمة الذي كان منذ البدء. لا فرق بين الكلمة المعلنة في الإنجيل والكلمة المتجسِّد في الكأس المقدّسة وسط الكنيسة المجتمعة".
أمثال الملكوت .. دعوة إلى حياة الملكوت
المثل هو فن أدبي يعبّر ببساطة عن حقيقة الملكوت العميقة. سوف نختار بعض الأمثال التي تكشف عن أن تعاليم يسوع هي دعوة للاختبار والعيش :
مثلا حبة الخردل (مت13/31-32، مر430-32) والخميرة (مت13/33،لو13/20-21)
نتلمّس من خلال تأملنا هذين المثلين تعليم يسوع كما يلي:
1- التضاد بين حقيقة الملكوت، الذي يبدأ صغيراً، و توقعات معاصري يسوع له.
2- الملكوت هو دعوة لكل البشر لعيشه (طيور السماء: أي كل البشر تاتي وتعشش فيه).
3- المبالغة في هذين المثلين هي إشارة لقدرة الله المفاجئة.
4- التأكيد على الطابع الأخروي ( الإسخاتولوجي) للملكوت.
5- الكشف عن حقيقة سرّ فصح يسوع في الموت والقيامة.
مثل العذارى (مت25/10-13)
يعرّف هذا المثل أيضاً عن الطابع الأخروي للملكوت. ويدعو إلى اليقظة والانتباه لأن يوم الرب قريب ويأتي في ساعة لا نتوقعها . ويظهر على هذا المثل الأســـلوب التعليمي الواضح حيث أن الاستعارات والتشابيه فيه متنوّعة بين الواقع والخيال، وكأن معلماً يلقي على تلاميذه أفكاره ويستحثهم لعيشها بأسلوبه الجذّاب.
مثلا الكنز واللؤلؤة (مت13/44-46)
يعرّف هذان المثلان على أن طالب الملكوت يستغني عن كل شيء في سبيله. ألا يقدّم هذا المثلان الحقيقة التي تقدمها تطويبة الفقر؟!
إن الأمثال رغم أنها تعرّف عن مقاصد يسوع وتعاليمه حول الملكوت، إلا أنها أيضاً تدعو إلى عمق التأمل في حقيقة الله وكيفية الحياة معه وبه وإليه.
يقول القديس فرنسيس السالسي: "ليس من فارق بين الإنجيل وحياة القديسين سوى الفرق بين الموسيقى المنوَّطة والموسيقى المرتلة".
يسوع .. يعلّم .. ويعيش ما يعلّمه
وكانت كلمة الربّ إليَّ قائلاً (نبوءة أرميا 1/4-9): قبل أن أصوِّرك في البطن عرفتك وقبل أن تولَد قدستك وجعلتك نبيّاً للأمم. فقلت: آه أيها السيد الرب هاءَنذا لا أعرف أن أتكلم لأني صغير . فقال لي الربّ: لا تقل: "إني صغير .. فإني أنا معك.. ثم مدَّ الرب يده ولمس فمي وقال لي: هاءَنذا جعلت كلامي في فمك".
المعلم الحق هو من يعيش ما يعلمه، وهكذا كان يسوع. علّم الصلاة (مت6/22،لو22/40)، وكان يصلي (مر1/35،لو116/12،/1،22/41). دعا إلى المحبة (مت5/44)، وأحب أقصى حدود المحبة (يو15/13). نادى بالمغفرة (مت18/21-22)، وغفر لصاليبه (لو23/34). تحدّث عن أولية الخدمة وأن المعلم قدوة فيها(مت20/26)، وغسل أرجل تلاميذه (يو13/1-16).لذلك بحق قَبِل أن يدعوه تلاميذه بـ"المعلم". والحقيقة الكبرى في تعليمه هي سر الفصح، ولقد حققه بعمقٍ في موته وقيامته.
التعليم هو وديعة الإيمان
يقول القديس ايرناوس: "إنَّ الإيمان الذي تسلمناه من يد الكنيسة نحرص عليه كلّ الحرص، لأنَّه لايزال تحت عمل روح الله، كالكنز الثمين في إناء كريم، يزداد، مع الإناء الذي يحفظه، تجدّداً وشباباً".
خاتمة
إن تعاليم يسوع هي دعوة للاختبار . إنها " كنز نحمله في آنية من خزف ليُرى أن تلك القدرة الفائقة لا تعود إلينا، بل إلى الله.. ولما كان لنا من روح الإيمان ما كُتب فيه: آمنت ولذلك تكلمت. فنحن نؤمن ولذلك نتكلّم ، عالمين أن الذي أقام الرب يسوع سيقيمنا نحن أيضاً ويجعلنا وإياكم لديه، لأن ذلك كلّه من أجلكم. فإذا ما وفرت النعمة، وفر عدد الشاكرين لمجد الله" (2كور4/7-15).
صلاة الأب أنطوان شفريه
أيها المسيح الكلمة..
ما أجملك ! ما أعظمك!
مَنْ تراه يعرفك؟
مَنْ يستطيع أن يفهمك؟
هبْ لي أن أعرفك وأحبك
وبما أنك النور،
أرسل شعاعاً من هذا النور الإلهي إلى نفسي الضعيفة حتى أراك وأفهمك..
ضع فيَّ إيماناً قويّاً بك،
فتصبح أقوالك كلّها أضواءً تنيرني وتقودني إليك، فأتبعك في جميع سبل البرّ والحق..
أيها المسيح الكلمة
أنت سيدي الوحيد الأوحد..
تكلّم..
أريد أن أصغي إليك وأعيش كلامك..
إنَّ في كلامك الحياة والفرح والسلام والسعادة
تكلّم يا سيدي،
أنت سيدي،
أنت معلّمي،
وإليك وحدك أصغي.
عن موقع القديسة تيريزا