المسيحية الشرقية وتطوّرها عبر ألفي سنة بقلم: المطران مارون اللحّام (تونس)

يأتي النور من الشرق (Ex Oriente Lux.)… هذا ما يقال وهذا ما حدث. فنور الإيمان، وليس فقط نور الإيمان المسيحي، انبثق من الشرق ومنه امتدّ إلى مختلف بقاع الدنيا. وهذا شرف وعاه الشرق ووعاه مسيحيو الشرق. بيد أن الشرق ومسيحي الشرق دفعوا ثمنه غاليا، ولا يزالون. وإن بقي الشرق أمينا على وديعة الإيمان التي أوكلتها إليه السماء، فواضح أن مسيرة إيمانه لم تكن مفروشة بالورود.

نريد أن نعالج في هذا المقال ثلاث نقاط من موضوع المسيحية الشرقية: الظروف السياسية والدينية التي مرّت بها، البُعد اللاهوتي لتاريخ الكنيسة الشرقية الطويل وآفاق المستقبل المفتوح أمام هذه المسيحية الجليلة. ذلك أن الإيمان حياة والحياة حركة لا تتوقّف.
الظروف السياسية الدينية
نربط البعدين لا عن مبدأ بل عن استنتاج لما حدث في الواقع. فمختلف مراحل تاريخ الكنيسة الشرقية كانت خلطًا من ظروف سياسية تبعتها تغيرات دينية، أو العكس. بحيث أن البعدين يكادان لا ينفصلان.
بدأت الكنيسة أول ما بدأت بمن آمن بعد كرازة بطرس إثر حلول الروح القدس. وبدأت متنوعة كما سيُكتب لها أن تكون حتى اليوم . بيد أن النواة الأولى كانت أبناء العهد القديم الذين رأوا في المسيح تحقيقًا للنبوءات التي يتكلم عنها إيمانهم. وسرعان ما واجهت هذه الكنيسة المتحدّرة من أصل يهودي، مسيحيين جدداً أتوا من "الأمم" أي الوثنيّين، مما سبّب خلافات عولجت في مجمع القدس عام 50. بيد أن الوقت مال لصالح المسيحيين من أصل وثني، وأخذت الكنيسة الشرقية منذ القرن الثالث طابعا أُمميا وأصبح الأسقف مرقس، أول أسقف للقدس من أصل أممي .
وإن كان السِّلم الروماني Pax romana سمح للكنيسة بالانتشار بسهولة لا سيما بعد مرسوم ميلانو عام 313 وخصوصا بعد أن أصبحت المسيحية دين الدولة، إلا أن النقاش العقائدي لم يتح للكنيسة الشرقية أن تعيش بهدوء. فمن جهة كان لا بد من صَهر العقيدة المسيحية في قالب الفكر اليوناني السائد آنذاك وابتكار تعابير لاهوتية تعكس إيمان المسيحيين بلغة يفهمها مثقفو العصر. ومن جهة ثانية، حال تنوع الثقافات واللغات والطقوس والتقاليد دون الاتفاق على تعابير موحّدة للسرّ الالهي. فانعقدت المجامع المسكونية العقائدية التي عانت كثيرا للوصول إلى اللغة اللاهوتية التي تعبّر عن هذا السرّ بشكل صحيح ومناسب ومقبول. لكن ذلك لم يحدث دون انقسامات وانشقاقات مزّقت ثوب المسيح غير المخيط. ومعظم هذه النزاعات تركت أثرًا باقيا حتى اليوم في الكنائس الشرقية، حيث أن القضايا موضوع الجدل كانت من القضايا الأساسية في الإيمان، كألوهية السيد المسيح أو حقيقة التجسد. ولم تكن غالبا الأسباب التي قضت على الوحدة كلها عقائدية، بل كانت أيضاً أسبابا فلسفية وحضارية وسياسية واجتماعية .
واستمرّت التحوّلات السياسية الدينية العميقة التي أثرت على الكنائس الشرقية، خصوصًا مع الفتح العربي الذي مهرها بالطابع العربي الإسلامي حتى اليوم. فتعايشت الكنائس الشرقية مع الإسلام، وعرفت انفتاح الأمويين وتسامحهم وشدّة العباسيين وقسوة الفاطميين وسيطرة الصليبيين وفساد المماليك وظلم الأتراك، ولم تختف. "لم تعرف كنائس الشرق نظام المسيحية المنتصرة الذي قام في أواخر الألف الأول في العالم البيزنطي وأوروبا الغربية. كان على الكنائس الشرقية أن تعيش في اتّضاع لا بل أن تتعرّض للإذلال. لم تعرف لا مجد ولا أوهام روما الأولى ( روما) أو روما الثانية (القسطنطينية) أو روما الثالثة (موسكو)" .
لم تكن القرون الحديثة أقل ألماً بالنسبة للكنائس الشرقية. فالحروب المتتابعة في الشرق منذ بداية هذا القرن شتّتت أبناءها في مختلف البلاد العربية وفي بلاد المهجر. علاوة على ذلك، غالبًا ما كان اهتمام الغرب بالشرق يهدف إلى اقتطاع أعداد جديدة من المسيحيين الشرقيين، وتأسيس كنائس جديدة أثبتت الخبرة فيما بعد أنها لم تكن الأسلوب الأمثل لخدمة الكنيسة الشرقية ولا لإعادة الوحدة المرجوّة بين كنيسة الشرق والغرب .
 
نُنهي هذا القسم من الحديث بنقاط تلخّص تاريخ الكنائس الشرقية الطويل والمؤلم:
عانت الكنائس الشرقية في تاريخها الطويل ما لم تعانيه أية كنيسة أخرى على وجه الأرض.
اضطرّت الكنائس الشرقية إلى التأقلم مع الكثير من المتغيّرات التي اخترقت تاريخها. وهذا أمر يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار قبل إصدار أي حكم على الكنائس الشرقية، أو بالأحرى منعا لإصدار أي حكم عليها.
مهما كثُر عدد الذين قدّموا "خدماتهم" للكنائس الشرقية عبر التاريخ، إلاّ أنها – في النهاية تابعت دوما مسيرتها بقوّتها الذاتية وبقدرات أبنائها المحلية، وبقيت بذلك أمينة لما تسلّمته من الرسل.
البعد اللاهوتي لتاريخ الكنائس الشرقية
 
إن كان الله تعالى سيد التاريخ، وهو كذلك، فله في تاريخ الكنائس الشرقية مقصد. واكتشاف هذا المقصد وتفهّمه والعيش بمقتضاه هو الهدف الوحيد لا للكنيسة الشرقية فحسب، بل لكل كنيسة على وجه الأرض.
أوّل ما نقوله عن البعد اللاهوتي للكنائس الشرقية هي أنها كنيسة للمسيح، حيّة وحقيقية. كنيسة تجمع قسمًا من شعب الله الواحد تحت سلطة أسقف هو خليفة الرسل، بقوة الروح القدس وفي نور كلمة الله. وهي بذلك تُجسّد – في المكان والزمان – كنيسة المسيح الواحدة المقدسة الجامعة المنتشرة في مختلف بقاع الدنيا.
بيد أن للشّرق طعم متميّز في التعبير عن واقع الكنيسة ونمط خاص في فهمها والتعبير عنها وعيشها. وإن كانت كنيسة المسيح هي نفسها في كل مكان وزمان، إلاّ أنها في الشرق تميّزت، وما زالت، على أنها سرّ شركة على مثال الثالوث وتجمع بين الوحدة من خلال الإيمان الواحد والتعدّدية من خلال تنوّع التقاليد.
سرّ شركة على مثال الثالوث
أول ما يظهر عن الكنيسة للعيان هي الجوانب الحياتية والقانونية والتنظيمية العملية. وهي أمور ضرورية، لكنها يجب أن ترتبط بمفهوم السرّ الذي يجب أن يتجلّى من خلالها. فالمجال الإلهي هو الأوّل، وهو يظهر من خلال كل ما هو مرئي أو حسّيّ.
الكنيسة سرّ، أي ذلك التدبير الإلهي العجيب الذي " ظلّ مكتوماً مدى الأزل" ( روما 16، 25) والذي أطلعنا عليه الله " لمّا تمّ الزمان" (غلاطية 4،4) " في الحبيب ( أفسس 1،6) الذي شاء الآب أن يجمع فيه كلّ شئ ( راجع أفسس 1،10). هذا يعنى أن الكنيسة من صنع الله، وأنها جماعة من الناس تجمعها نعمة الله أوّلاً. " فهُمُ الذين لا من دم ولا من رغبة لحم ولا من رغبة رجل، بل من الله وُلدوا" (يوحنا 1،13).
ولهذا السرّ بُعدان، إلهي وإنساني، فهو يبتدئ وينتهي في الله وهو موجّه إلى الإنسان. وهو بذلك يحقق الشركة بين الله والإنسان. مفهوم الشركةKoinonia  أساسي لفهم طبيعة الكنيسة كما فهمه وعاشه الشرق منذ قرون . شركة تفيض من حياة اللاهوت فتجعل من بني البشر "شعبًا جديداً"، جماعة يدعوها الله، ولا وجود لها إلاّ بالله، وغايتها أن تسير سيرة مقدّسة لأن الله قدّوس. وإن كان الله يجمع هذا النسل الجديد بحسب الإيمان "من كل عرق ومن كل بلد ومدينة وقرية وبيت" ، فتوحيد هذه الشعوب في شعب واحد أمر يفوق إدراك الإنسان وقدرته. لهذا لا تتكون الكنيسة بتجميع الأشخاص وتراكمهم، بل هي هبة منبثقة من وحدة الثالوث الواحد غير المنقسم، تقدِّم للناس مثالا ونموذجًا لكي يعيشوا بحسبه.
وفي هذه الحياة المنبثقة عن الثالوث، يتمتع الروح القدس في لاهوت الكنيسة الشرقية بمكانة متميّزة. فبقوّة الروح القدس أصبحت الكنيسة بعد العنصرة جسد المسيح. وسرّ الأمومة الإلهية هو نفسه بالنسبة إلى مريم العذراء والى الكنيسة، وهو لا يستند إلى قوة بشرية بل إلى قوّة الروح. فالكنيسة (شعب الله) تكون حقا كنيسة عندما تكون مثل العذراء مريم، " لا تعرف رجلا" ( لوقا 1، 34)، فتستمدّ خصبها فقط من قوّة الروح القدس الذي يحقّق جميع أعمال الله فيها .
وتكوين الكنيسة في اللاهوت الشرقي على صورة الثالوث الأقدس له انعكاسات على حياة الشعب المؤمن الذي يشكّل عَصَب الكنيسة. فإن كان كل أقنوم إلهي هو في جوهره "متجه نحو الآخر" ، أي أنه ليس ملك نفسه بل هبة للآخر، في شفافية الله المطلقة، فكل إنسان مخلوق على "صورة الله ومثاله"، أي أن أساس وجود كل كائن بشري وأساس كل مطلب له هو أن يحِبّ وأن يكون محبوبًا، مثل الله.
الجمع بين وحدة الإيمان وتعددية التقاليد
فَهم الشرق منذ شعّ عليه نور الإيمان أن سرّ الله الواحد من العظمة بحيث يستحيل على لغة واحدة أو ثقافة واحدة أو طقس واحد أن يعبّر عنه تعبيرا كاملا. واستطاع من خلال خبرات أقل ما يقال عنها أنها لم تكن سهلة، أن يجمع – ولو أنه فشل بعض الأحيان – بين وحدة الإيمان وتعددية الطقوس والتقاليد اللاهوتية والروحية والطقسية والقانونية. عرفت الكنائس الشرقية أن تحافظ على توازن صعب بين الوحدة والتعددية، وفهمت أن الوحدة بلا تعددية استبدادٌ والتعددية بلا وحدة فوضى .
وهكذا استطاعت الكنائس الشرقية أن تحقق الوحدة فيما بينها ببقائها أمينة على وديعة الإيمان، أعني التقليد الرّسولي المشترك، وهو تقليد حيّ تسلّمته من الرسل، ويتضمن أسرار الإيمان وخاصّة سرّ الخلافة الرّسولية والشركة في المحبة، لا سيما على مستوى جماعة الأساقفة التي تمثّل بصورة سريّة جماعة الرسل الاثني عشر. إن مقياس الحقيقة والوحدة في تقاليد الكنيسة الشرقية المتنوّعة هو مقدار المشاركة في التقليد الرّسولي الواحد. هذا هو معنى الكنيسة الجامعة في لاهوت الكنائس الشرقية. فهي حسب تفكير القديس أغناطيوس الانطاكي الذي نصّر هذا الكلمة تعني حرفيا : "بحسب الكل أو بمشاركة الكل" ، أعني أن "الكلّ" يوجد في كل قسم، كوجود النفس في الجسد الحي .
بيد أن ضمان الوحدة يكمن في سر الأسقفية. فالتقليد المتأتي من الرسل لم يكن يعتبر الكنائس المحلية أوراقًا مصففّة جنبا إلى جنب، بل كان يرى في كلٍّ منها حيويّة واحدة خلاقة. من هنا، بينما يبدأ التفكير الغربي في الكنيسة من الكنيسة الجامعة ومنها يتجسد "الآن وهنا" في الكنائس المحلية التي هي "على صورة الكنيسة الجامعة" . ينطلق التفكير الكنسية الشرقي من أوّلية الكنيسة المحلية التي تحوي جميع صفات الكنيسة الجامعة لأنها رسولية وجامعة ( بمعنى أن الكل موجود في القسم)، وما الكنيسة الجامعة إلاّ "جسم الكنائس المحلية" الذي يجمعه إيمان واحد مؤسَّس على التقليد الرسولي الواحد. لذا كانت الكنائس بتقاليدها المتنوعة تعترف بعضُها ببعض، وكانت كل واحدة ترى في الأخرى "سر الكنيسة الواحد، مع بقاء الخصوصيات المشروعة لكلّ كنيسة"
من الواضح تاريخيًا أن هذا الاتزان بين وحدة الإيمان وتنوع التقاليد الطقسية والروحية والقانونية لم يكن دوما سهل التحقيق في تاريخ الكنائس الشرقية، بدليل الانشقاقات الكثيرة والنزاعات المحلية بين مختلف الكنائس الشرقية، والتي ما زال بعضها قائمًا حتى اليوم. فوحدة الإيمان تزعزعت إثر مجمع خلقيدونيا 451 حول طبيعتي المسيح الكاملتين، بينما كثيرا ما تحول تنوع الطقوس إلى انغلاق واحتكار وجهل للآخر وروح منافسة بعيدة عن روح الإنجيل، ناهيك عن سياسة اقتناص المؤمنين واستمالتهم بمختلف الوسائل .
وهذه المعاناة التي استمرت قرونًا، وما زالت، دمغت الكنائس الشرقية بلون خاص، يعكس الخوف والانغلاق والألم والهروب والبحث عن الهوية.
إن إحدى التجارب التي وقعت فيها الكنائس الشرقية بسبب تعلّقها القوي ب"قدسية" التقاليد هي الاعتقاد أن الإيمان المسيحي والتقليد الذي يعبّر عنه يكسب المؤمن طبيعة إنسانيّة أو حضارة أساسية غير تلك التي يشترك فيها مع غير المعمّدين. والحقيقة هي أن الكنيسة الأم هي كنيسة محلية، أي أنها من طينة البشر التي هي مرسلة إليهم. ولهذا فإنها لا تشكّل مجتمعا مسيحيا بإزاء مجتمع آخر غير مسيحي، بحجة انه لا يشترك في نفس العقيدة. إن جدّتها تكمن في كونها خميرة ملكوت الله في الواقع الاجتماعي والثقافي الذي تعيش فيه. وهذا ما فهمه الآباء الأوائل، بدليل وجود هذا الكم الهائل من التراث الذي يعكس تجسّد الإيمان الواحد في أكثر من لغة وحضارة وثقافة تعاقبت على الشرق، لكن هذا ما لم يفهمه الأبناء بشكل كافٍ.
سبب آخر لما ذكر هو نسيان الكنائس الشرقية إن للتقليد مصدرين: إلهي وإنساني. فهو وليد النعمة من جهة وثمرة جهود آبائنا وأجدادنا في الإيمان والتاريخ من جهة أخرى. وكونه ثمرة جهود البشر، فهو يتضمن مخاطر أهمها ما دعاه الآباء أنفسهم "روح العالم"، أعني الروح الطائفية والممارسة الحرفية للطقوس الليتورجية والتباهي بجمالها، في حين أن " قلوبنا بعيدة" عمّن نكرم (مرقس 7،7)، وترك وصايا الله والتمسك بتقاليد البشر (مرقس 7، 7-8).
لا شك أن كلّ ذلك سبب جراحًا عميقة انطبعت في قلب الكنائس الشرقية. لم تختف هذه الكنائس، لكنها عاشت، وقد نزفت بسبب انشقاقاتها، وضعفت في نظام أهل الذمّة وبفعل شرذمة الهيمنة العثمانية، بالليتورجيا وبقداسةٍ يومية متواضعة، ولكنها محدودة القدرة في التعبير على المستوى الثقافي . أضف إلى ذلك العمل النشيط للكنيسة البروتستانتية والكاثوليكية في القرن الماضي ضمن ذهنية لم تكن بعد قد عرفت العقلية المسكونية.
أصبح الخوف إذاً يتحكّم في الكنائس الشرقية. خوف يدفعها أحيانًا إلى انغلاق قد يؤدّي إلى استعجال ما تخشاه: الانقراض بفعل الاضمحلال أو الهجرة أو الإبادة.
أفاق المستقبل
"وأبواب الجحيم لن تقوى عليها" (متي 16، 18). إن الكنيسة الشرقية، مهما تألّمت ومهما عانت ومهما تمزّقت، تؤمن وتعلم أن مؤسسها حيّ وأنها تعيش من حياته. ولأنه حيّ ولأنها حيّة فيه وبه ولأجله، يجب أن تبقى مشرقة ومتفتّحة ومنفتحة، كي تبقى نورًا وملحا وخميرة. والثمن الذي يجب أن "تدفعه" هو ما قاله البطريرك اغناطيوس الرابع في محاضرة له في المعهد الكاثوليكي في باريس: "يترتّب علينا، إن أردنا أن ننفتح نحو المستقبل، أن نكسر حلقة الخوف". فالكنيسة عروس الروح، والروح نار، والنار ليست أمرًا نلعب به، فنحن إمّا أن نطفئها وإما إن نلقي بأنفسنا فيها، فتلهب الكنيسة قاطبة، وبها الإنسانية والكون".
ولهذا الانفتاح المطلوب اتجاهان، داخل الكنائس الشرقية وخارجها. أعني ترتيب البيت الداخلي ثم الدخول بشجاعة وقوة في الحركة المسكونية التي هي من ثمار عمل الروح في الكنيسة جمعاء في القرن الحالي.
ترتيب البيت الداخلي
يبدو بالفعل صعبًا على الفهم أن تحتاج كنائس الشرق قرونا طويلة، لتكتشف أن السبب الرئيس في خلافاتها العقائدية لم يكن لاهوتيًا بل لغويّ وثقافيّ. ذلك أن شركة المحبة لم تعد قائمة بين الكنائس الشرقية، وهذا أدّى إلى حلول الريبة بدل الثقة لقرون طويلة. فنحن نلاحظ في أصل كل قطيعة عرفتها الكنائس الشرقية، بما فيها القطيعة الكبرى مع الغرب، تراجعًا في شركة المحبة. والقطيعة، من حيث هي فشل المحبة، تجد لها في مرحلة لاحقة تبريرًا "عقائديا"، إلى أن يتكرّس الانفصال في بُنية قانونية. وترتيب البيت الداخلي في الكنائس الشرقية يجب أن يتم حول "سر الأسقف" وهي فكرة غنية في اللاهوت الشرقي. فشركة المحبة تحقيق للموهبة الخاصة بالأسقفية. ونحن نرى اليوم، في حياة الكنائس الشرقية وعملها، جهودًا رعوية كثيرة لكنها غير مثمرة. ذلك أنها معزولة. والأساقفة يتصرّفون وكأنهم وحدهم. الكنائس الشرقية مدعوّة إلى التوبة عن كل هذا: الأفعال المتنافسة أو المبعثرة والأفعال عديمة المحبة. يترتب على كل كنيسة شرقية أن تقبل أخَواتها الكنائس الأخرى في قلبها، وأن تحبها في تمايزها عنها. يجب أن تدع عمل الروح يملأها فلا تضع شروطاً للمحبة. فالمحبة ليست حقيقة إلاّ إن كانت غير مشروطة. لذا، فرؤساء الكنائس الشرقية مدعوون أن يلتقوا، أيضا وأيضا، ويختبروا معا المحبة، وبالتالي الخدمة المشتركة.
الحوار المسكوني
بيد أن البوابة الكبيرة التي بدونها يصعب على الكنائس الشرقية الانفتاح على المستقبل هي الحركة المسكونية التي هبّت على الكنيسة المسيحية في كافة أقطار العالم منذ بداية القرن الحالي وما زالت.
المبدأ العام هو القبول بمعطيات تبدو بديهية، لكن معظم الكنائس الشرقية لم تقبلها بعد. أولى هذه المعطيات هي أن السيد المسيح أسس كنيسة واحدة مقدّسة جامعة رسولية، وأن القائمين على الكنيسة لم يكونوا أمناء على هذه الأمنية، وأن كل كنيسة تتحمل جزءًا من مسئولية تقسيم الكنائس، وأن الجميع مدعو، بما فيها الكنائس الشرقية الجليلة، إلى مراجعة الذات بصدق وتواضع وثقة أمام الله الذي أرسل ابنه ل " يجمع أبناء الله المشتتين" والذي صلّى قبل آلامه أن "يكون تلاميذه واحداً".
الكلام عن الحركة المسكونية متشعّب وطويل. نكتفي بنظرة سريعة على بعض أوجه هذه الحركة:
النظرة اللاهوتية: انقسام المسيحيين ينقض كيان الكنيسة ورسالتها. ذلك أن كيان الكنيسة يقوم على أنها " شركة"، أعني حياة روحية مشتركة بين أشخاص عديدين. والشركة السرّية القائمة بين الآب والابن والروح القدس هي مثال وينبوع وغاية الشركة في الكنيسة. من هنا كل انقسام مناقض للدعوة المسيحية إلى الوحدة ومناقض للشركة التي تشكّل كيان الكنيسة. هذا أمر يجب أن تقبله الكنائس الشرقية، بحيث تنطلق في تحرّكها المسكوني من الرغبة في البحث عن طرق لإعادة الوحدة بين أبناء الله، وان تتخلّص من عقدة "الأرثوذكسية" التي بحسبها يجب أن يعود جميع المسيحيين إليها كي تتم الوحدة. ولعلّ أوّل الخطوات العملية لذلك هو الإقرار الصريح بوجود شركة حقيقية، ولو غير مكتملة، مع باقي الكنائس المسيحية.
 
الذهنية المسكونية. أعني بذلك أن تشترك الكنائس الشرقية "الجليلة" في الشعور العام في الكنيسة المسيحية والذي مفاده انه لا توجد اليوم كنيسة مسيحية واحدة تستطيع القول أنها – وحدها – تحوي الإيمان كلّه، وأن خارجها لا يمكن الحصول على الخلاص. تقول الذهنية المسكونية أن الكنيسة التي أرادها المسيح والتي من أجلها صلّى، ما زالت بعيدة المنال والتحقيق. والسبب هو القائمون على مختلف الكنائس، بما فيها الكنائس الشرقية. كما تقول أن واجب التبشير وحضور الكنيسة الفعال في المجتمع المحلي أو العالمي يحدّه واقع الانفصال بشكل كبير، ويحول دون نجاح الجهود الكثيرة الرامية إلى نفح روح حيوية جديدة في هذا الحضور. أخيرا، تدعو الذهنية المسكونية إلى الانفتاح على الآخر واكتشاف ما يحمله من غنى هو في النهاية في خدمة الجماعة. "إن الحوار المسكوني الذي يحمل الأطراف المعنيّة على التساؤل والتفاهم وشرح وجهات النظر المتبادلة، يؤدي إلى اكتشافات غير متوقّعة. لقد حوّل روح الجدل والمخاصمات المتشدّدة جهدَين يبحثان في الحقيقة نفسها، ولكن من زوايا مختلفة، إلى تأكيدات غير متّفقة. وعلينا اليوم أن نجد العبارة التي تعبّر عن الحقيقة الواحدة بصورة متكاملة، والتي تمكّننا من تجاوز القراءات الجزئية ومن إزالة التأويلات المغلوطة".
الروحانية المسكونية. المعنى هنا هو أن الوحدة المسيحية لا يمكن أن تتم فقط من خلال مناقشات لاهوتية بين أخصائيين. فالمسكونية "روحانية"، أي أنها تفترض تجدّد الكنيسة وتوبة القلب وقداسة الحياة والصلاة. والارتداد اللازم يبدأ على صعيد الأشخاص، وهو يعنى تجدد القلب والزهد بالذات والتواضع والوداعة في الخدمة والسخاء الأخوي تجاه الآخرين . بيد أن التوبة أمر مفروض على الجماعة التي يجب أن ترتدّ هي أيضا إلى ربها. " ليست الخطايا الفردية وحدها هي التي يجب أن نتجاوزها ونغفرها، بل الخطايا الجماعية أيضا، أعنى البُنى والقواعد الاجتماعية نفسها المولّده للخطيئة والتي كانت وما زالت سببًا في الانقسام .
المطلوب هو التوبة اّولاً وقبل كل شئ عن الخطايا التي تنقض الوحدة. فالتوبة تُحدث تبديلا في الموقف تجاه الآخرين: " ينتبه المؤمن أنه استثنى أحياناً بعض الأخوة فجرح بذلك المحبة الأخوية، أو أنه رفض المغفرة، واستكبار وانغلق على ذاته في الحكم على الآخرين بصورة مخالفة للإنجيل".
كيف يظهر هذا الارتداد الفردي والجماعي؟ يظهر في تجدد الحياة في الكنائس. فالكنائس هي قاعدة ومنطلق التحرّك نحو الوحدة. وهذا الجهد المتجدد يجب أن يشمل دراسة الكتاب المقدس والليتورجيا والوعظ بكلمة الله والتعليم المسيحي ورسالة العلمانيين وروحانية الزواج
 
بيد أن أفضل شكل من أشكال الروحانية المسكونية هي الصلاة التي يلتقي فيها الفرد والجماعة في حضرة الله دون أقنعة، ويستسلمون جميعًا لمشيئته ويطلبون منه المغفرة والنور والقوّة. يقول المجمع المسكوني أن الصلاة هي "روح الحركة المسكونية كلها، وهي وسيلة ناجعة لطلب نعمة الوحدة" . وينطبق موضوع الصلاة على المستوى الفردي، إذ لا يمكن إقصاء همّ الوحدة عن الحوار الشخصي الذي يجب على كل مؤمن أن يقيمه مع الله تعالى في الصلاة. وينطبق على البّعد الجماعي للصلاة، بدليل وجود صلوات خاصة لطلب نعمة الوحدة في جميع الليتورجيات الكنسية، بما فيها ليتورجيات الطقوس الشرقية.
ونتيجة هذه الروحانية المسكونية هي معرفة متبادلة أفضل وتضامن أقوى بين مختلف المسيحيين. "يجب الانتقال من موقف المعارضة والمخاصمة إلى موقف يرى في الآخر أخاً وشريكاً" . والنظرة المتجددة إلى الآخر تنعكس نظرة متجدّدة أيضا إلى الكنائس الشقيقة، فتدرك كل كنيسة " أن الروح يعمل في الجماعات المسيحية الأخرى، وتكتشف لديها نماذج قداسة وتختبر فيها الغنى غير المحدود لشركة القديسين، وتتجلّى أمامها طرقٌ لم تكن تفكّر فيها في الالتزام المسيحي" .
الحوار المسكوني. ما قيل حول النظرة اللاهوتية للحركة المسكونية والذهنية المسكونية والروحانية المسكونية لا بدّ وأن يفضي إلى حوار مسكوني عملي. وهو حوار محبة وحوار حقيقة وحوار رعوي. هذه هي بوتقة الروح القدس التي تهدف إلى صهر الكنائس الشرقية في قالب واحد هو قالب كنيسة السيد المسيح الواحدة الجامعة المقدسة الرسولية.
حوار المحبة. يقول أغناطيوس الرابع، بطريرك أنطاكيا الارثوذكسي أن الحركة المسكونية ليست قضية توفيق مسكوني أو توفيق في لاهوت الكنيسة أو قضية عقائدية، بل قصة حب. ويشهد التاريخ أنه غالبا ما كانت الخلافات العقائدية تزداد تصلّباً وتصاغ في نظم تبريرا لنقص المحبة. فعندما ينتهي الحب، يجد كل واحد أسباباً كثيرة تبرّر غياب الحب، فيشوّه صورة الآخر . ونقص المحبة أو المحبة في غير وجهتها الصحيحة تجرح، والجرح يولد ريبة، والريبة تقتل المحبة. من هنا، لا بد أن يسبق حوارُ المحبة بين الكنائس حوارَ الحقيقة فيكون سنداً له وغذاءً وروحاً، فيمكّنه من التغلّب على الحدود والتحفظات البشرية.
حوار الحقيقة. "حوار الحقيقة أو الحوار اللاهوتي يعني بصورة عامة دراسة منهجية، يقوم بها مندوبون عن الكنائس المتنوّعة في الحقيقة الموحى بها، وفي مختلف صور التعبير عنها وممارستها. والهدف من ذلك هو تجاوز الأفكار المسبقة وسوء الفهم المتوارث عن الماضي، والتوصل، إن أمكن، إلى فهم مشترك للسرّ المسيحي، مع التنوّع في التقاليد التي قد تبدو لأول وهلة غير قابلة للاتفاق" . وقد استعمل البابا يوحنا الثالث والعشرون تعبيراً جميلا عن هذا التطلع عندما قال "في الأمور الأساسية: وحدة. وفي الأمور الفرعية: تنوّع. وفي كل الأمور: محبة" . وهذا الحوار يجب أن يتم بالاحترام التام لسموّ سرّ الله الموحى به في المسيح، وهو سرّ لن يستطيع الذهن البشري أبداً إدراكه بصورة كاملة، ولا يستطيع أي لسان بشري أن يعبّر عنه التعبير السويّ.
وللكنائس الشرقية دور أساسي في حوار الحقيقة هذا. فهي للوهلة الأولى تهاب من الخوض فيه، بسبب ما تراكم فيها من عُقد الريبة والانغلاق خوفاّ من الذوبان في كنائس ترى أنها وقعت في "تجربة السلطة". والمجالات التي يجب أن تساهم فيها الكنائس الشرقية في حوار الحقيقة هي نظرتها العريقة في موضوع سر الأسقفية ولاهوت الكنيسة المحلية ونظرية " الأسقف الكوني" ولاهوت الروح القدس، فتشرك الكنائس الأخرى في كنوزها، وتغتني هي أيضاً بما في الكنائس الشقيقة من اتجاهات لاهوتية تكمّل الجهد الإنساني في فهم "سر الله" و "سر الكنيسة"
بيد أن المساهمة في حوار الحقيقة يجب أن تنطلق من مبدأ الوحدة في الإيمان والتنوّع في التعابير اللاهوتية، مما يجب أن يقود أيضا إلى قبول تعددية مشروعة.
الحوار الراعوي. قال البابا يوحنا بولس الثاني بعد عودته من زيارته إلى البطريركية المسكونية في اسطنبول في شهر كانون الثاني عام 1979: " يجب أن يصبح الحوار الأخوي من المقوّمات اللازمة لكمال البرنامج الرعوي لكلا الجانبين" . فالجميع يقر بوجود وحدة حقيقية بين الكنائس الشرقية والكنائس الغربية، ولو أنها غير كاملة. والعمل الرعوي هو "المكان اللاهوتي" الذي يفتح المجال لهذه الشركة للبلوغ إلى كمالها.
يجب القول أن هذا الحوار قد بدأ وهو يستمر بقوة الله وبدفعة متجدّدة من الروح. فقد حدّدت الاتفاقيات المشتركة بين الكنيسة الكاثوليكية والكنائس الشرقية الخطوات التي تبنى عليها المواقف الجديدة في العمل الرعوي ( اتفاقيات عام 1984 و 1996). بين أن موقف الكنائس الشرقية ينطلق من أهمية أن يحترم العمل الرعوي المشترك واقع انتماء الأشخاص إلى كنيستهم، فلا يُسار إلى نقلهم من كنيسة إلى أخرى، بل يجب مساعدتهم على اكتشاف رسالتهم وتنميتها في كنيستهم الأم. وقد أكّد ذلك ممثلو الكنائس الكاثوليكية والأرثوذكسية في لقاء البلمند (لبنان) عام 1993 : " السعي في إعادة الوحدة يجب ألاّ يكون سعياً لرد الأشخاص من كنيسة إلى أخرى في سبيل خلاصهم. بل هو السعي معاًّ لتحقيق مشيئة المسيح في المؤمنين به وتحقيق تدبير الله في كنيسته. وهو سعي مشترك بين الكنائس للتوصل إلى اتّفاق كامل حول مضمون الإيمان وكلّ ما ينجم عنه".
خاتمة
حاولنا في هذا المقال أن نتكلم عن تاريخ الكنائس الشرقية "الجليلة" عبر ألفي سنة. نقول في النهاية أنه يكفي أن تحمل هذه الكنائس تاريخاً يعود إلى عشرين قرنا لتكون موضع احترام وإعجاب ومحبة. الكنائس الشرقية في الأرض المقدسة هي الاستمرار التاريخي لكنيسة القدس الأولى، أم الكنائس التي، بالرغم من ضعفها وانقساماتها وخطاياها، تبقى أمّاً تحب جميع أبنائها وتدعو لهم وتستقبلهم بقلب كبير وتطلب منهم دعمهم وصلاتهم.
عرفت الكنائس الشرقية عبر تاريخها الطويل مراحل أصعب بكثير من المرحلة التي تعيشها اليوم. وقد ثبّتها روح الله في محنها الكثيرة وبقيت، ولو أنها مخفية أحيانا تحت رماد خطايا أعضائها البشر، ناراً تبعث في محيطها الذي أراده الله لها مجالَ رسالةٍ وشهادةَ صلاةٍٍ وقداسة، الدفء والنور والهداية.
لذا، فالكنائس الشرقية مدعوة إلى أن تلقي نفسها بإيمان وحب وسط نار الروح الذي هو سيّد التاريخ، وأن تقبل أن تحترق بهذه النار لتطهّرها وتزكّيها وتنقّيها من شوائب تاريخية أصبحت عبئا عليها وثِقلا يحول دون سيرها نحو الثالوث. فإن هي تحرّرت و" انتفضت" من رواسب التاريخ الموسوم بضعف البشر، سارت بحرية نحو ملء الوحدة والحقيقة، ووضعت يدها بيد الكنائس الأخرى الشقيقة، ليشهدوا معاً أمام الخليقة أنه "هكذا أحب الله العالم حتى انه أرسل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية" ( يوحنا).

عندئذ يكتشف العالم أن المسيحَ قلبُه.

عن موقع القديسة تريزا