العودة على محاضرة ريغينسبورغ : مقابلة مع الأب جايمس شال

أجرتها معه كاري غريس

روما، 16 أكتوبر 2007 (Zenit.org) –

 

 

يقول الأب جايمس شال إنه عندما نفسّر مضمون المحاضرة التي ألقاها البابا بندكتس السادس عشر في ريغينسبورغ منذ أكثر من عام كمجرّد خطاب حول الإسلام، نخطئ في إصابة الهدف الأساسي منها.

والأب شال، وهو أستاذ الفلسفة السياسية في جامعة جورجتاون، هو صاحب كتاب "محاضرة ريغينسبورغ" The Regensburg Lecture، منشورات دار مار أغسطينوس St. Augustine\’s Press.
في الجزء الأول من هذه المقابلة التي أجرتها معه وكالة زينيت، يعلّق الأب شال على ملاحظات البابا حول مسألة الإسلام، ولكنه، وهذا هو الأهم، يغوص في النقطة الأساس من المحاضرة.

س: مضى حوالى عام على إلقاء البابا بندكتس السادس عشر محاضرته في جامعة ريغينسبورغ وما أثارت من احتجاجات دولية عارمة في بعض الأوساط المسلمة. هل كانت ردة فعل المسلمين هي ما دعاكم إلى تأليف هذا الكتاب أو ثمة سبب آخر؟

ج: في الواقع، لقد قرأتُ المحاضرة قبل أن تصدر ردة الفعل المسلمة التي استغرقت بعض الوقت قبل أن تتبلور. ولا أظنّها كانت ردة فعل "عفوية".

أوّل ما قرأتُ المحاضرة بعد يوم تقريباً على صدورها إلى العلن، توجهتُ إلى طلاّبي وقلتُ لهم بكل صراحة إنها أهمّ محاضرة تُلقى في أيامنا هذه. فهي شاملة ووافية، كما أن لا مبالغة أو مغالاة فيها.

ولم يكن الإطار المسلم للمحاضرة سوى مقدّمة لما اتّضح أنه مدخل إلى أجندة البابا بندكتس السادس عشر بكاملها، أي الأرضية التي على أساسها نقارب كل الديانات والثقافات والفلسفات بإسم حقيقتها، وبإسم الحقيقة عموماً، بما فيها حقيقة الوحي.

إن نظرة البابا بندكتس السادس عشر ليست ضيّقة بتاتاً. فهو يدرك تماماً أنه، وبالإضافة إلى عالم الإسلام الذي غادره معظم المسيحيين أو اقتيدوا إلى خارجه، لا يشكل المسيحيون سوى أقلية قليلة في عوالم كبرى مثل العالم الصيني والهندوسي والبوذي وعالم الفلسفة المعاصرة.

والبابا يبحث عن طريقة تبيّن الأرضية المشتركة لهذه العوالم ولإرساء أرضية يمكن الإنطلاق منها لمقاربة هذه العوالم وفق أسس راسخة لا يمكن ضربها عرض الحائط.

لا شك في أن ردة الفعل المسلمة قد أسهمت في إعطاء هذه المحاضرة رواجاً عبر العالم، وهذا أمر كان الناشطون المسلمون ليندموا عليه لو كانوا يدركون ما يفعلون. فالعديد منهم أراد معاقبة بندكتس السادس عشر لما اعتبروه "فعل طيش" أو "عدم وعي وإدراك". ولكنه لم يكن كذلك.

فقد تناول مسألة لفتت انتباه العالم من دون شك بسبب ردة الفعل المسلمة. وقد جاء طرح المسألة مختصَراً: "هل من المعقول أو هل يرضى الله أن تُنشَر ديانة ما بقوة العنف؟". وهذا السؤال كان يطرحه تقريباً كل من كان يفكر في تداعيات "العمليات الإنتحارية" أو في الحروب المقدسةالجهاد – التي جرى خوضها في تاريخ الإسلام، ومعظمها، وليس كلها بشكل حصري، كان موجهاً ضدّ مناطق مسيحية. إذاً المسألة تتعلق بالإختيار المتعمّد لوسائل العنف طريقةً لنشر ديانة، وتقديم تبرير عقائدي لهذا التصرف.

ولفت البابا إلى أنه في القرآن نفسه نجد جوابين مختلفين عن هذا السؤال: أحدهما يقول "لا" والآخر يقول "نعم". والإضطراب الحالي الذي يصيب العالم سببه أولئك الذين في الإسلام يجيبون بـ"نعم" عن هذا السؤال.
وقد أظهر البابا جرأة منقطعة النظير في تعامله مع البلبلة التي أثارها خطابه. فهو لم يتراجع. بل اكتفى بالقول بأنه إذا ما شعر أحد بالإهانة والسوء لمجرد طرح السؤال، فهو آسف. ولكنه من غير المشروع أن يشعر المرء بـ"الإهانة" جرّاء سؤال جدّي، طُرح بشكل منهجي، بحثاً عن حقيقة موضوع معيّن في إطار أكاديمي.
ولكن أوّل ما لفت انتباهي في هذه المحاضرة كان همّ البابا الأكبر، أي أوروبا والعقلية العلمية الحديثة.

فأن نظنّ أن الإسلام كان هدفه الرئيسي يجعلنا نفوّت المسألة الأهم التي طرحتها المحاضرة، وهي التساؤل حول ما إذا كان السبب الأساس عينه الذي يبرّر العمليات الإنتحارية في العالم هو ما يبرّر من الناحية النظرية ومن خلال المبادئ الفلسفية ذاتها، انتشار ظاهرة القتل السافر للأبرياء.

ولا يجد الإسلام الجهادي حرجاً في الفكرة القائلة بأنه ينوي اجتياح العالم من أجل الله. وبالتالي، فهناك أمر بسيط للغاية بخصوص الإسلام يتمثل في سعيه المستمر منذ نشأته إلى إخضاع العالم برمّته لله. ونحن نعتبر ذلك تصرفاً متعصباً أو همجياً. ولكن بالنسبة إلى الكثير من المسلمين، فإنه أمر منطقي للغاية وبالفعل قاعدة سلوك. وما كان يثير قلق البابا كان أساس هذا الإدعاء.

س: في كتابك، تقارن زيارة البابا بندكتس السادس عشر بالزيارة الأولى التي أجراها البابا الراحل يوحنا بولس الثاني إلى وطنه الأم بولندا. فما هي أوجه الشبه بين الزيارتين؟

ج: إن زيارة البابا الراحل يوحنا بولس الثاني الأولى إلى بولندا بيّنت قوة الحقيقة في وجه نظام إستبدادي. بل وأكثر.
فبالإضافة إلى إصرار الرئيس الأميركي الراحل رونالد ريغان على أن يُظهر للسوفيات أنه لم يعد بوسعهم البقاء في صيغة التوازن العسكري، وبالإضافة إلى تدنّي مستوى الأخلاق والعزم عند المواطنين السوفيات، كان الوجود الشجاع والثابت للبابا البولندي هو بالفعل ترجمة لما أراد الشعب البولندي والعالم أجمع رؤيته ببساطة. فقد كان بمثابة إشارة إلى وجود أمر آخر في العالم عدا القوة السياسية. وقليلون جداً هم المفكرون الغربيون الذين توقعوا انهيار النظام السوفياتي.
وبحلول زيارة البابا بندكتس السادس عشر إلى ريغينسبورغ، كان تركيز العالم بأجمعه قد تحوّل إلى الإنتحاريين وإلى الجهود الآيلة إلى لجم الإرهاب الإسلامي، إما بالحرب أو بالعمل في الكواليس أو العمل السري.
وقد تمثّل الردّ السياسي الأوّلي على أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) في السعي إلى إيجاد الإرهابيين الذين فقدوا صوابهم وقاموا بهذا العمل الذي أصابنا بالذهول، ففجّروا على مرأى منا أضخم وأشهر مبنيين في العالم في إحدى أشهر المدن العالمية.
ومع الإنفجارات التي تلت ذلك في مدريد ولندن وبالي وباريس وغيرها من الأماكن، لم تعد الحرب فجأةً حرباً بين جيشين متناحرين وإنما، على غرار الهجمات الشهيرة لقراصنة ساحل المغرب، غارات مفاجئة من حيث لا ندري ضدّ أي هدف.
فنشأ نمط جديد من الحروب لا يمكن تفسيره فعلياً بالعبارات الإجتماعية أو الأخلاقية الغربية التقليدية. وبالتالي، فإننا أمام وضع يوحي، على حدّ إدراك قداسة البابا، بضرورة إجراء تحليل أكثر في العمق لما هو جارٍ اليوم.
والمهم هو أن ما وجد أنه السبب الجوهري لهذه الحالة لم يكن يُنسَب إلى الإسلام بشكل خاص، مع أنه كان كذلك أيضاً. فالفلسفة الإسلامية والفلسفة الغربية، ناهيك عن الفلسفة الشرقية، كانت تتميز غالباً بجذور فكرية ومنطلقات مشتركة. لذلك فمن غير الصائب أن تُقرأ هذه المحاضرة باعتبارها محصورة بالإسلام لا غير. فالمحاضرة تدل بإصبعها إلى الحالة الأوروبية أكثر.
وتماماً كما أن زيارة البابا الراحل يوحنا بولس الثاني الأولى إلى بولندا شكلت بصيص نور في عتمة اليأس من إمكانية التخلص من الماركسية، كذلك فإن زيارة البابا بندكتس السادس عشر إلى ريغينسبورغ كانت إضاءة مشرقة على مجمل تاريخ الفكر البشري أطلعتنا على ما كان فعلاً على المحك. فالسياسيون الفضلاء الذين يحاولون القيام بأمر حيال مسألة الإرهاب لن يتمكنوا من إنجاز الكثير ما لم يتعرفوا فعلياً على ما يتصدّون له.
فالواقع أن الإرهاب ليس فكرة مجرّدة غامضة المعالم. ومن هذا المنطلق، فإن السياسة تعتمد على العقل. ومحاضرة ريغينسبورغ، كما يذكّرنا سقراط في "غورجياس"، تتناول "الشؤون المدنية الحقيقية" real politics من خلال التساؤل عن سبب تصرف الناس على هذا النحو وعن الأسباب التي تحدوهم إلى ذلك.

س: لقد وصفت المحاضرة بأنها "من الدراسات الأساسية في زمن اليوم". لمَ يكون ذلك؟

ج: من خصائص محاضرة ريغينسبورغ أنها أنارت فجأةً ميادين معرفية كاملة لأنها أدركت ماذا ينتمي إلى أين، وحقيقة المسائل، والرهانات لفهم زمننا من الناحية النظرية.
وقد أشرتُ كذلك إلى أن هذه المحاضرة تطرح مجدداً مسألة كانت شائعة في القرون الوسطى وهي مسألة توافق السيفين. أي إن ما يفتقر إليه النقاش المدني هو القابلية لفهم الرهانات ومجريات الأمور.
فإذا ما حصرنا المسألة بناحية العنف الذي تستخدمه مجموعة من المتعصبين، لن نتمكن من أن نفهم السبب الذي يمنع الحلول السياسية أو العسكرية، على أهميتها، كما هي الحال هنا، من الوصول إلى صلب المشكلة.
فذلك يفترض فهم ما يجري من وجهة نظر نظرية وعقائدية. وما الخلل الذي يصيب النظام السياسي اليوم سوى نتيجة اختلال نظام النفس، كما علّمنا أفلاطون. وليس من باب الصدفة أن يكون بندكتس قد استشهد بسقراط مرّتين في محاضرته وأسّس ما قاله على بُعد المنطق الذي يأتينا من الفلسفة اليونانية القديمة.


س: لقد ضمّن الأب الأقدس خطابه نقاشاً حول جذور الإرادية، وهي فكرة لاهوتية تسعى إلى عدم وضع حدود لله، وصولاً إلى تحدي العقل والمنطق لهذه الغاية. ما هو الدور الذي يلعبه هذا العنصر في الإسلام كما في الفكر غير المسلم؟

ج: لقد سبق وطُرحَت هذه المسألة طبعاً في الفلسفة اليونانية وفي فلسفة القرون الوسطى. وهي مسألة خالدة تتحدى العقل البشري. فالإرادية لم تنشأ عن الإسلام، ما عدا ربما إذا افترضنا أنه ما من إطار آخر أعطاها هذا التماسك المنطقي ودعمها بهذه القوة كما في الإسلام. فـ"الإرادية" هنا لا تعني " التطوع" أي الجهد العفوي من أجل القيام بأمر لمساعدة الآخرين الذي تحدث عنه البابا في رسالة "الله محبة"، وإنما الفكرة الفلسفية والعقائدية القائلة بأن الإرادة تفوق العقل ولا تخضع للمنطق.

وقد حرص البابا على الإشارة إلى وجود المشكلة نفسها في الغرب مع دانس سكوتيس، اللاهوتي وفيلسوف القرون الوسطى العظيم، وبعده مع كل من ويليام أف أوخام، فنيكولو ماكيافيلي، فتوماس هوبس، وصولاً إلى الفلسفة السياسية المعاصرة. لقد كنتُ أقرأ مع طلابي أحد أكثر كتب هاينريش رومن تبصّراً بعنوان "القانون الطبيعي" The Natural Law الذي يوضح في التفاصيل المملّة سبب تشكيل الإرادية القانونية أساساً للفلسفة الوضعية وللتواريخية المعاصرتين، وهما موضوعان انكبّ عليهما كل من ليو شتراوس وإريك فوغلين.

من وجهة النظر هذه، يمكن القول إن محاضرة ريجنسبرغ كانت تتوجه إلى قلب أوروبا وأميركا، وإلى تلك "التبريرات" التي تستخدمها قوانينها وعاداتها في الواقع لتبرير قتل الأبرياء. فالمبدأ السقراطي القائل بأن "ليس من الصواب أبداً إقتراف الخطأ" يبقى أساس فلسفة معينة لا تستند إلى الإرادة المجردة وحسب.

الإرادة المجردة يمكنها أن تبرّر أي شيء لأنها قد جرّدت الإنسان والكون من أي طبيعة أو نظام. فالإرادية لا تسمح بتبرير المبادئ المطلقة للكرامة الإنسانية. فلو سُئلَت، برأيي، عن السبب الذي حدا بالبابا إلى أن يستهلّ محاضرته بحديث يدور بين الأمبراطور البيزنطي اليوناني في العام 1300 وأحد النبلاء الفرس، لأجبت بأن السبب هو أن ذلك يسمح له من الناحية الكتابية بأن يطرح إحدى أكثر المسائل إلحاحاً في أيامنا، أي ليس فقط أنّ "نشر ديانة ما بالقوة أمرٌ منطقي ومقبول" بل أنّ "استخدام هذه القوة ضدّ أي شخص بشري أمر منطقي ومقبول أيضاً".

وهنا بالذات تلتقي مشكلة الإسلام فعلياً مع مشكلة الغرب. إذ يتعين على النظامين اللجوء إلى نظرية إرادية للكيان والوجود لكي يبرّرا عدم التزامهما المبادئ الأخلاقية في استعمال العنف ضدّ الأبرياء وبحماية القانون الإلهي والطبيعي نفسه.

فقد نخطئ التصويب إذا ما ظننّا أن الإرادية ليست نظاماً نظرياً يسعى إلى تمجيد الله بأسمى الطرق الممكنة. فالإرادية تعني أن ما من طبيعة أو نظام خلف المظاهر. فكل الأمور يمكن أن تكون على خلاف ما هي عليه. وكل ما يحصل إنما يحصل لأن الله قد اختاره بشكل وضعي ولكن لأمكنه أن يختار نقيض ذلك تماماً.

إن بعض الفلاسفة، وليس فقط من المسلمين، يعتقدون أنه يستحيل تقييد الله أو تأطيره بأي طريقة من الطرق، ولا حتى بواسطة مبدأ التناقض. فهو قادر على تحويل الصح خطأً، أو أن يجعل من كراهية الله مشيئته. وقد يبدو سماع موقف مماثل أمراً غريباً في البداية. ولكن ما إن نسلّم بمبدأه الأول، تتفوق هذه الإرادة على العقل وتسيطر عليه وهلمّا جرّاً.

إنطلاقاً من هذه النظرية نفهم لماذا يدّعي ما يُسمّى بالإرهابيين الإسلاميين ويؤمنون بأنهم في الواقع يعملون بمشيئة الله. حتى إنهم قد يكونون بصدد التصرف من منطلق نيّة حسنة ولو خاطئة. فالله بنظرهم يريد العالم بكامله أن يعبده وفقاً لما ينصّ عليه القرآن.

ولن يستريح العالم ما لم يحصل هذا الإرتداد إلى الإسلام، ولو تطلّب ذلك قروناً وقروناً. ويُعتبَر هذا الخضوع لله عندهم فعل إيمان نبيل. فليس في نظر المبادئ الإرادية أي تناقض في أن يأمر الله بتوسيع مملكته بالقوة، ما دام ليس هناك من أمر موضوعي يمنع أن يصدر غداً أمر معاكس لما أُمِر به اليوم.
أكرّر وأقول إن الحروب سببها مشاكل لاهوتية وفلسفية لا بدّ من البوح بها ورؤيتها على حقيقتها. والبوح بهذه الحقائق هو الهدف من محاضرة ريجنسبرغ.

س: هلاّ شرحتَ لنا لماذا يتحدث البابا عن العودة إلى نوع معيّن من المنطق؟ فهو يتكلم عن "العودة إلى الفكر الإغريقي" أو العودة إلى الفلسفة اليونانية القديمة كحلٍّ لمشكلة الحضارة الحالية.

ج: في الواقع، إن الجزء الأساسي في هذه المحاضرة قد تمحور حول "نزع الطابع الإغريقي" عن الثقافة الغربية وعن معانيها.

وقد أشار البابا إلى ثلاث حالات:

1) موقف الإصلاح البروتستانتي القائل بأن الديانة الكاثوليكية تنطوي على الكثير من الفلسفة، وأن هناك حاجة إلى العودة إلى المسيح بحدّ ذاته، من دون الفلسفة.

 2) والحالة الثانية جاءت نتيجة نكران ألوهية المسيح، فإذا بالمسيح قد تحوّل مع أدولف فون هارناك إلى إنسان عادي ومادة تتناولها العلوم في الجامعات.

 3) والحالة الثالثة تمثّلت في الواقع بتعدد الثقافات، أي إنه ما من وحدة ممكنة على أساس المنطق. فالجميع محقٌّ ضمن نظامه الخاص.

وبيّن البابا كيف أن التقليد حتى في العهد القديم يقوم على أن الوحي نفسه يشير إلى الفلسفة اليونانية. فنقرأ في كل من سفر التكوين ورؤيا يوحنا أن مصطلح "الكلمة" هو الشكل الذي أراد الله من خلاله أن يكلّمنا في هذا العالم.
ومن الواضح أن تعريف الله بحدّ ذاته — "أنا هو" — كان أمراً قابلاً للفهم في فلسفة تقوم هي ذاتها على العقل. والبابا قد حرص على أن يلفت إلى أن توجه بولس إلى مقدونيا وليس إلى أي ثقافة أخرى يُعزى إلى قرار من العناية الإلهية حول ما تعنيه أهمية فهم الوحي، وخصوصاً التجسد والثالوث، وهما العقيدتان الأساسيتان اللتان لا تعترف بهما أي من الديانات أو الفلسفات الأخرى.

وما كان لهذه العلاقة أن تتبلور وتتخذ شكلها الحالي، خصوصاً مع القديس أغسطينوس والقديس توما الأكويني وما تركاه من إرث لولا مساهمة أوروبا الفريدة. فلكي نحصل على وحي الكلمة، والحياة الحميمية الإلهية، لا بدّ لنا من استعداد ومن فلسفة تتيح لنا فهم ما يوحى لنا. وليست كل التيارات الفلسفية قادرة على ذلك، ما يبيّن أهمية الفلسفة التي نختار ونعتبرها حقيقية.

لقد أشار البابا إلى أن المنطق والوحي بنظر الفيلسوف "كانت" لم يعودا مرتبطين بشكل مباشر من حيث أنهما يتخاطبان. فالإيمان والمنطق أمران مختلفان، من دون إمكانية لأي تفاهم متبادل بينهما ولو في حدّه الأدنى. و"كانت" هو في أساس الكثير من النظريات الفلسفية اللاحقة والمرتبكة، على حدّ ما بيّن غيلسون في كتابه "وحدة الخبرة الفلسفية" Unity of Philosophic Experience حول السبيل للمّ شمل الفلسفة مجدداً.
والخطأ الصغير في البداية يؤدي إلى خطأ جسيم في النهاية، على حدّ ما علّمنا أرسطو. تُعتبَر هذه الخلفية التاريخية المستندة إلى فكر "كانت" وقبله "ديكارت" بدورها في أساس المفهومين المختلفين لنظرية "المنطق" التي اعتبرها البابا أساس الفكر المعاصر لا بل الفكر ذاته. وقد أدّى المنطق الذي استند إليه موقف الإصلاح من الفلسفة ومن علاقتها باللاهوت إلى محاولة الوصول إلى يسوع بشري بحت، من دون أي أساس منطقي فعلي يبرّر لمَ من المعقول الإيمان به.

إن البابا يسعى إلى أمرين: أولاً هو يريد الدفاع عن العلم ضمن الصلاحيات المعطاة له، وثانياً هو يريد من العلم أن يتخلى عن مبدأ "حدّ ذاته" بذاته الذي يمنعه من رؤية واقع الأمور غير القابلة للقياس بالأرقام، ذلك أن الكينونة لا يمكن أن تُحدَّ فقط بالأمور القابلة للقياس.

إن هذا الإنفتاح الأوسع على الحقائق البشرية التي يمكن لمسها بالحدس والمحبة والصداقة والمعاناة والأمل والرجاء هو ما يحمل الديانات الشرقية وغيرها إلى التفكير في أن الغرب قد فقد روحه جرّاء انغلاقه العلمي، وهذا ما يظهر من خلال العيوب والرذيلة الشائعة فيه.

ويتعذّر على المنطق العلمي، وباعتبار أنه لا يغطّي المنطق برمّته، أن يعبّر عمّا له قيمة حقيقية في الوجود البشري. وهذا التمييز بين نوعين من المنطق يعطي فكرة أوسع عن هوية هذا البابا وماهيته. فهو يبحث عن أسس، لا بدّ أن تقوم على العقل، يمكن من خلالها مقاربة كل الديانات والثقافات، بما في ذلك أوروبا ذاتها المنهمكة بأمور تفقدها لا روحها وحسب بل أعضاءها أيضاً، كما يؤشّر التراجع السكاني.

س: كيف تنظرون إلى محاضرة ريغينسبورغ وارتباطها برسالة البابا الراحل يوحنا بولس الثاني "الإيمان والعقل" Fides et Ratio؟

ج: ما يسلّط البابا بندكتس السادس عشر الضوء عليه هو ما يشكل أهمية رسالة "الإيمان والعقل" على الصعيد العالمي، وليس فقط من حيث العلاقة مع الإسلام التي كانت مسألة جديدة بالنسبة إلى زمن البابا يوحنا بولس الثاني.
لقد كان البابا يوحنا بولس الثاني منشغلاً بحق بمسائل مثل الفاشية والماركسية والحالة الأخلاقية للغرب. وقد تعاون البابا الراحل مع المسلمين في العديد من مؤتمرات الأمم المتحدة — كمؤتمر القاهرة وبيكين– خصوصاً في موضوع العائلة، بالرغم من كل الإختلافات في وجهات النظر بين المسلمين والمسيحيين حول مفهوم العائلة.
وكانت رسالة "الإيمان والعقل" Fides et Ratio نتيجة مرحلتين أخريين تميزتا بتحرر الفكر الغربي من الطابع الإغريقي (الهلّيني). وقد جاءت الخطوة التالية مع فون هارناك الذي أنكر على يسوع ألوهيته. فهو بنظره مجرد إنسان، ورجل طيب. هو قائد أو نبي أو صوت صارخ، ولكنه ليس إلهاً وإنساناً ولا "الكلمة" المتجسدة. وبالتالي فلا حاجة إلى اللاهوت لفهمه، بل بالأحرى إلى العلوم الإجتماعية والتاريخية.
وأكثر ما يُقلق البابا بندكتس السادس عشر، على نحو ما يُظهر في كتابه "يسوع الناصري"، هو ادّعاء العلوم بأنها قادرة على اكتشاف أسس الإيمان بواسطة المناهج العلمية وحدها. ولكن جلّ ما يمكنها اكتشافه هو ما يمكن هذه المناهج التعرّف عليه، ما يعني أن هناك منحى مضطرداً نحو إهمال الأمور الأساسية في وقت تدّعي فيه العلوم الأولوية.
ورسالة "الإيمان والعقل" تحليل مطوّل ومعمّق للفلسفة المعاصرة وتساؤل حول نوع الفلسفة التي من شأنها أن تخوّلنا فهم ما أُوحي به فعلياً.
إن مفهوم "الفلسفة المسيحية" ذاته ينبع من الحاجة إلى فهم ما قيل في الوحي من وجهة نظر المنطق. واستخدام لفظة يونانية وليس كتابية في مجمع نيقيا، على حدّ ما قال قداسة البابا، يشير إلى أنه يمكن للتجربة الفلسفية أن تكون أساسية في ظل الظروف الضاغطة لفهم الوحي.
إذاً الإيمان والفلسفة ليسا أمرين متناقضين، بل هما مرتبطان من أجل فهم الواقع برمّته. وكلاهما ضروري. ولهذا السبب، فإن الكتاب المقدس وحده لا يكفي ولا حتى لفهم مواقف الكتاب المقدس نفسها. وكما لاحظ شيسترتون في نهاية كتابه "الهراطقة" Heretics، فإن الوحي وليس العقل هو ما قال في نهاية الأمر إن العشب أخضر وإن المنطق في الإيمان وحده من شأنه أن يؤكّد الوقائع العادية التي لم يعد بإمكان الفلاسفة المعاصرين فهمها.

س: في كتابكم كما في محاضرة الأب الأقدس لا نلاحظ أي جهد من أجل "قلب عقارب الساعة" وإنكار إنجازات العصرانية. فكيف يتجلى برأيكم التكامل بين القديم والجديد؟

ج: بدايةً، ما يُقصَد بكلمة "العصرانية" هو إعلان لاستقلالية الفكر المعاصر عن الماضي، اليوناني أو السكولاستي. ولكن الفكر في العصرانية تفقد يوماً بعد يوم مراسيها في واقع منظّم.

وكما يشير البابا، فإن المرحلة الثالثة لـ"نزع الطابع الإغريقي (الهلّيني)" هو ما نتّفق على تسميته بـ"تعدد الثقافات"، وهي قناعة بأن لا حقيقة فعلية في أي حضارة أو ثقافة وأنه بالتالي لا مسائل أساسية مشتركة بين الحضارات أو الأديان، بل مجرّد نوع من التسامح حول استحالة وجود الحقيقة.
وبالرغم من الإدعاءات بأن التسامح بشأن التعدد الثقافي لا يستخدم العنف، إلا أن نظامه بالتحديد يقوم على تقليد تاريخي يقول بأن العنف مبرَّر بالفعل في المبادئ الإرادية. بعبارات أخرى، وبالإستناد إلى نظرية تعدد الثقافات البحتة، ما من سبب يمنع الإرادية من أن تكون موقفاً مشروعاً ما دام ليس ما يعارضها سوى القوة.
وقد ردّد البابا مرات عديدة أنه لا يرغب في "العودة إلى الوراء"، بل أنه يرغب في إقامة الفرق بين ما هو حسن وما هو سيئ في الفكر والثقافة المعاصرين.

لقد قال "رومان" إن القانون الطبيعي خالد، بمعنى أنه لا ينفك يظهر إلى العلن كلما بلغت ثقافة معينة حدوداً يعتبرها الرجال العاديون من أصحاب المنطق خاطئة بكل وضوح. ولا ينفك المعيار الموضوعي يلفت انتباهنا إلى اختلال النظام واللاعدالة. ولا شك في أن محاضرة ريغينسبورغ تشكل تحدياً فكرياً. وهذا بالضبط ما يجعلها محاضرة جامعية وليس رسالة رسولية. فهي تصرّ على ضرورة أن نواجه مواطن الحقيقة والكذب في أي ثقافة على أساس "العقل" والمنطق.
وتلاحظون كذلك أن البابا يأتي على ذكر مفهوم الدهشة إزاء الرياضيات الذي نجده عند أفلاطون. وهو يتوجه إلى العقل العلمي بشكل مباشر فيقول له إن اكتشافاته قائمة على أساس الرياضيات والنتاج العقلي المعقّد في الواقع. ولا بدّ من توافق بين مبادئ الواقع والمبادئ الرياضية.
فما الحاجة إلى هذا التوافق في غياب فلسفة واقعية تفسّره؟ وفي حال كان هذا التوافق قائماً، لمَ ليس هناك عقل متفوّق ينظّم كل ما تمّ اكتشافه ضمن خطّ الرياضيات وأنظمته الخاصة؟ إن الكثير من الكتابات الحالية تقوم على الدعوات إلى نمط جديد من الإلحاد يفتقر في غالبية الأحيان إلى الدقة الفكرية التي تتسم بها الأنماط الكلاسيكية التقليدية. ولكن حتى ثقة الإلحاد المعاصر لا تواجه التوافق القائم بين العقل والواقع الذي لا يسع العلم نفسه تلافيه.
والمشكلة مع العلم ليست مشكلة هوية وماهية وحسب، بل مسألة ما إذا كنا سنتفق معه. يُعتقَد أن اليونان القدامى قد عرفوا الإختراعات على أنواعها ولكنهم اختاروا عدم مواصلتها لأنهم أدركوا المخاطر التي قد تنجم عنها للإنسانية نفسها.
إن محاضرة ريغينسبورغ تعطي العلوم والتكنولوجيا حقها من خلال إظهار أنها ليست كل شيء، وأن ما تقدّمه يصلح لبعض النواحي الحياتية فقط. وهي قادرة على تفسير ما يقع ضمن صلاحياتها وليس أكثر.
إن الفلسفة والأخلاقيات واللاهوت والشعر، كلها أمور تلامس وقائع ليست مواضيع تخضع للعلم بشكل مباشر، وتتعاطى مع أمور روحية وغير مادية في جوهرها. إن الفكر البشري يسمو على كيانه الخاص ليُعنى بكل ما هو كائن.
نحن طبعاً نكون في حالة ارتباك إن ظننّا أن العلوم قادرة على تفسير كل الأمور، ولكن ذلك لا يعني أن ما لا يمكنها تفسيره غير قابل للتفسير. بل ما يعنيه ذلك هو أن ثمة رؤى وسبل معرفية أخرى صالحة للإستخدام.
إن البابا لا يقول للعلوم "لا تكونوا علميين" بالمعنى الحقيقي للكلمة. بل هو بالأحرى يدعوها إلى التوقف عن قوقعة نفسها في مفهوم واحد للمنطق، وهو مفهوم ضيق للغاية. فهذا المفهوم جيّد طالما أنه يفي بالغرض. ولكنه أيضاً مفهوم يستثني من حيث تحديده بالذات معظم المسائل الأساسية التي تهمّ الإنسان.
إن محاضرة ريغينسبورغ تحملنا ليس فقط إلى قلب الأحداث الراهنة، بل أيضاً إلى قلب الواقع نفسه. إن الفلسفة والوحي ليسا غريمين، بل هما يتجهان نحو بعضهما البعض. وإعلان شأن الإنسان من خلال الوحي لا يعني أنه ليس ما خُلق ليكون عليه، أي حيواناً عاقلاً، يفعل كل ما يفعل بـحكم "العقل" والمنطق.
إن الإنسان هو مجد الله، بمعنى أن الله يمكنه أن يوجه كلامه إليه، وهو يمكنه أن يفهم ويدرك لأنه خُلق مع القدرة على تمييز حقيقة الأمور. والحياة الأخلاقية والسياسية للإنسان مصنوعة بحيث تسمح لنا أن نعرف ما يتوجه إلينا به المنطق وحتى الوحي في حال حصول ذلك.
ويتّضح لنا من خلال محاضرة ريغينسبورغ أن المكان الأفضل الذي يمكن أن نتواجد فيه من أجل فهم زمننا هذا هو قلب روما. فهنا، وبلغات البابوات المعاصرين الأم، باللغة البولونية والألمانية واللاتينية، نعم، اللاتينية، يتحدث إلينا زمننا عن معنى أن نكون بشراً، ونكون كائنات يتكلم فيها الله بالمنطق والوحي.

 

الأب شال، وهو أستاذ الفلسفة السياسية في جامعة جورجتاون، هو صاحب كتاب "محاضرة ريجسبرغ" The Regensburg Lecture، منشورات دار مار أغسطينوس St. Augustine\’s Press.