حضور الأب والتربية بقلم: المربّي جان مالو

قد تكون الصورة التي ترتسم في ذهن مَن يقرأ عبارة "حضور الأب", هي صورة عودة الأب إلى بيته وهو مثقل بمستلزمات أُسرته، وهذا فهم مباشر وواقعيّ.

لكنّ ما أعنيه من عبارة "حضور الأب" هو وجوده المعنويّ إلى جانب وجوده المادّيّ في أُسرته. الوجود الغنيّ بالحبّ، المليء بالقوّة، الحضور القدوة والمثل والنموذج، الحضور الذي يبعث في أفراد أُسرته الثقة ويشيع بينهم الشعور بالأمن والاطمئنان.
وما ينير هذا المدلول "حضور الأب" ويوضحه حضور ورد ذكره في "أعمال الرُسُل" أذكره لا بقصد التشبيه بل بغرض الهداية.. هو حضور الروح القُدُس في العلّيَّة حيث كانت الكنيسة الأُولى مجتمعة، وأفرادها الرُسُل خائفين وقلقين لغياب معلّمهم يسوع… فحضر الروح القُدُس، فملأهم قوّةً بدل الضعف, والاطمئنان بدل الخوف والقلق… وأفاض حضوره في عقولهم فهماً فأخذوا يتكلّمون بجميع اللغات.. وأثار في قلوبهم نشاطاً وحماسة .. فذهبوا ونشروا البُشرى في المسكونة كلّها.
هذا الحضور مع فارق التشبيه ما أقصده من حضور الأب في أُسرته، وهذا ما يجب أن يستهدي به الأب في القيام بدوره.
وتظهر أهمّيَّة "حضور الأب" في الأُسرة من أنّ طبيعة الإنسان عامّة, والطفل خاصّة تميل إلى الخوف من الظواهر الطبيعيَّة والحوادث المفاجئة… وتبرز لدى الأطفال رغبة في الحِماية وحاجة إلى السلامة فيجدونها في "حضور الأب" في الأُسرة..
ومن هذا المنطلق تصوّر بعض الفلاسفة الملحدين أنّ وجود أب سماويّ قادر يمنح الناس الشعور بالأمن ويزيل عنهم المخاوف أمر ضروريّ… إنّ استنباطهم لأمور الحياة قادهم, رغم إلحادهم، إلى ضرورة الإيمان بوجود أب قادر وضابط الكلّ.
والأمر ذاته مطلوب في الأُسرة وتربية الأولاد فيها.. مطلوب "حضور أب" قويّ ورصين، صاحب سُلطة، واضع لقواعد، ومرشد ومعلّم. حضور الأب هذا ضروريّ لمنح أفراد الأسرة الشعور بالأمن، وليروي حاجتهم إلى السلامة، ويزيل من نفوسهم الخوف والقلق.
إنّ حضور الأب في الأُسرة مثل وجود الربّان في السفينة فهو مسؤول عن أمنها وسلامة ركّابها, مسؤول عن إيصالهم إلى مرفأ السلامة.
 
حضور الأب والتربية
ليس وجود الأب في الأُسرة لجلب مستلزماتها فحسب، – وهذا ضروريّ – بل يجب أن يكون وجوده حضوراً قويّاً بوداعة، صاحب سُلطة بدون تسلّط، واضع قواعد بمرونة، إنّه حضور بحدود المقبول، لا إفراط فيه، ولا تفريط, كما يقول المَثَل "لا تكنْ يابساً فتُكسر ولا طريّاً فتُعصر"..
وضرورة "حضور الأب" بالصورة المذكورة، يؤيّدها عِلم التربية الذي يقول: إنّ الولد الذي ينشأ في أُسرة لا حضورَ لأب قويّ فيها، ينشأ ذلك الولد وفي نَفْسه شرخ كبير.. بمعنى أنّ الولد الذي ينشأ في أُسرة لا قواعد فيها تضبطها وتنظّم حياتها هو ولد محروم يكبر وفي نسيجه النفسيّ خوف وقلق.
وثبت في التربية أنّ الأولاد في نشأتهم يحتاجون إلى كلمة "لا". لا قويَّة تصدر عن أبوين حكيمين وقويّين، وخاصّة في المواقف التي فيها تخطٍّ للقِيَم والأخلاق.
وثبت أنّ كلّ ولد وقع في حياته "بورطة" كان أحد أسباب ذلك السقوط أنّه لم يجد في أُسرته مَن يقول لـه كلمة "لا".
 
حضور الأب قدوة
قال أحد المربيّن: أيّها الأب كن قدوة لأولادك. كن أنت نَفْسك ما تودّ أن يكون عليه أولادك من خلق وسلوك، كن كذلك قلباً وقالباً، لأنّه إذا كان ما تطلبه من أولادك يناقض حضورك بينهم، فلا تتوقّع النجاح في تربيتهم. فالقدوة هي التي تشيع المناخ التربويّ الذي يساعد على نموّ الفضائل لدى أبنائنا.. يقول بولس الرسول: "اقتدوا بي كما أقتدي أنا بالمسيح". لذا يجب أن يلزم الآباء سلوكاً خلقيّاً يخوّلهم أن يدعوا أبناءهم إلى الاقتداء بهم.
وأخيراً فإنّ "حضور الأب" في الأُسرة يجب أن يتّسم بالوعي والفهم للظروف والمراحل العمريَّة التي يمرّ بها الأبناء. والتعامل مع الأولاد بقلب محبّ وعقل يفكّر وفق الظروف والأعمار.
وبذلك يكون "حضور الأب" – مع كلّ الاحترام والتقدير لدور الأُمّ التي تشاطره تربية الأبناء – حضوراً جديراً بأن يكون قدوةً, وأهلاً لأن يقود سفينة الأُسرة إلى شاطئ الأمان ومرفأ السلامة.
نقلاً عن نشرة أبرشيّة حلب للأرمن الكاثوليك، 2004