" والكلمة صار بشرا وعاش بيننا " ( يوحنا 1 : 14 )
+ الأنبا أنطونيوس نجيب ، بطريرك الاسكندرية للأقباط الكاثوليك
باسم الآب والابن والروح القدس الإله الواحد . آمين .
بناء على دعوة قداسة البابا بندكتوس السادس عشر ، تستعد الكنيسة الكاثوليكية للاحتفال بمجمع الأساقفة العام ، الذى سينعقد فى روما طوال شهر أكتوبر من السنة القادمة 2008 بإذن الله . وبعد استشارة الأساقفة الكاثوليك فى العالم كله ، حدّد قداسته أن تكون " كلمة الله " موضوع المجمع . ومن شهور عديدة، والكنيسة الكاثوليكية كلها تتعمّق فى هذا الموضوع وتتأمله .
عيد الميلاد هو الاحتفال بالمسيح كلمة الله المتجسد . فى شخص المسيح " صار الكلمة بشرا وعاش بيننا ". تقول الرسالة إلى العبرانيين : " كلم الله آباءنا من قديم الزمان بلسان الأنبياء مرات كثيرة وبمختلف الوسائل . ولكنه فى هذه الأيام الأخيرة كلمنا بابنه " ( 1 : 1 – 2 ) . يسوع المسيح هو كلمة الله الذى أخذ صورة بشرية . فى القديم كلمنا الله بالأنبياء . كانت كلمتهم مثل رسالة يرسلها لنا . ولكنّ من يحب لا يكتفى بأن يرسل خطابات من بعيد ، يريد أن يلتقى الحبيب ويتحدث معه وجها لوجه . وبما أن الله قدير ولا شىء عنده مستحيل ، فقد جاء بنفسه ليلقانا ، فى شخص ابنه الحبيب المسيح كلمته الذاتية . " وصار الكلمة بشرا وعاش بيننا " .
يسوع المسيح هو كلمة الله الأزلى . يقول القديس يوحنا الإنجيلى : " هو فى البدء كان عند الله . وكان الكلمة الله " ( يوحنا 1 : 1 – 2 ) . صار الكلمة بشرا، فأعلن الله نهائيا للبشر . فيه نرى الآب ، ونعرفه على أفضل ما يمكن للادراك البشرى أن يبلغه . حقـّق المسيح الكلمة وعود الله وعهوده للآباء والأنبياء . عاش بيننا بصورة منظورة فى حياته وبشارته الأرضية . أخبرنا عن الله ، وأعلمنا أننا أبناؤه وأنه أبونا ، وأننا كلـَّنا إخوة . جاء ليشهد للحق . ولم يكتف يسوع بالكلام ، وإنما عمل أيضا . وكانت أعماله هى أبلغ كلماته. فى كل ما صنع ، أعلن لنا أعمال الآب . كان يعمل ويعلـّم . وما كان عليه يسوع من رحمة وشفقة ، وصفح ومغفرة ، وحب بلا حدود ، هو إشعاع لكيان الله نفسه .
أما بعد قيامته من بين الأموات ، فالمسيح حي ويعيش معنا بصورة غير منظورة . المسيح الكلمة حاضر معنا بطرق مختلفة . إنه حاضر معنا متى اجتمعنا باسمه : " أينما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمى ، كنت هناك بينهم " (متى 18 : 20) . وهو حاضر فى سر الافخارستيا : "هذا جسدى . هذا دمى" (متى 26 : 26و28). وهو حاضر فى باقى الأسرار المقدسة . بالمعمودية يجعلنا أبناء الله ، وبالتوبة والمصالحة يقول لنا حبه الحنون . وهو حاضر أيضا فى شخص الفقير من كل نوع، الجوعان والعطشان ، الغريب والعريان ، المريض والسجين : " كل ما عملتم لواحد من إخوتى هؤلاء الصغار ، فلى عملتموه . وكل ما لم تعملوه لواحد من إخوتى هؤلاء الصغار ، فلى لم تعملوه " ( متى 25 : 39 و 45 ) .
والمسيح حاضر وعامل فى الكتاب المقدس ، كلمة الله الموحاة . فهى "ليست كلامَ بشر ، بل بالحقيقة كلام الله " ( 1 تسالونيكى 2 : 13 ) . ويسوع نفسه كإنسان تغذّى بكلام الله ، وجعل منه غذاءً للجموع التى كانت تأتى إليه بكل آمالها وآلامها . وقد قال القديس إيرونيموس ، ومن بعده تكرر الكنيسة : " من يجهل الكتب المقدسة ، يجهل المسيح " . فى الكتب المقدسة يكلمنا الرب ، إذ يكشف لنا فيها فكرَه ورغبات قلبه ، وتدابيرَ حبّه للبلوغ الينا ، وسبلَ طاعة الإيمان للوصول إليه . الله ليس صامتا . إنه يحدّثك ، يدعوك أن تجعل من حياتك حوار حب .
وإذا كان الله يكلمنا ، فعلينا أن نصغى إليه . ما معنى ذلك ؟ عندما تصلنا رسالة من شخص عزيز علينا ، نقرأها ، ونعيد قراءتها . ونسأل أنفسنا : ماذا يريد أن يقول لى بالضبط ؟ من خلال السطور المكتوبة ، نبحث عن نية الراسل ، وعن مشاعره ، وعن رغباته . هكذا يكلمنا الله فى الكتب المقدسة . فعندما نقرأها ، يجب أن نسأل : ماذا يريد الله أن يقول لنا ، لى أنا بالذات ؟ ما هى رغبات قلبه ؟ كيف أجاوب عليها ؟
أو بصورة أخرى ، عندما نكون التقينا بشخص عزيز ، نعيد التفكير فى هذا اللقاء ، نتذكر كلماتِه وتعابيرَه ، ما قال وما عمل . فاللقاء نداء يدعونى إلى التفكير والتأمل والعمل . وكلمة الله حاضرة فى حياتى ، حاضرة فى الكتاب المقدس. وحاضرة فى كل الأحداث التى أعيشها بتدبير من الله . فهذه كلها نداءات منه . وعندما ينادى الله ، فهو دائما يدعو إلى مزيد من الحب ، مزيد من السلام ، مزيد من العدل ، ومزيد من المصالحة والأخوّة .
لذلك قال المرنم فى المزمور : " كلامك سراج لخطواتى ونور لطريقى" ( 109 : 105 ) . ويقول القديس بطرس إنها : " سراج منير يضىء فى كل مكان مظلم ، إلى أن يطلع النهار ، ويشرق كوكب الصبح فى قلوبكم " ( 2 بطرس 1 : 20 ) . لا نستطيع أن نتصور الحياة بدون النور . وكلمة الله تحيى . قال يسوع : "الكلام الذى أكلمكم به هو روح وحياة " ( يوحنا 6 : 63 ) . إنها تنقل من الموت الروحى إلى الحياة ، وتفتح الآفاق المنغلقة على آفاق لا متناهية الحدود ، وتحوّل الاستسلام إلى شجاعة المبادرة والإقدام .
فلتكن كلمة الله نورَنا وغذاءَنا . وذلك بعدة وسائل . أولا فليكن لك كتابك المقدس الخاص بك . إقرأ فيه بتمهل وانتباه . فأنت بدونه مثل مسافر على غير هُدى . واستعِن بالتفاسير الصحيحة . إصنع ذلك وحدك أو مع آخرين … وثانيا ، تأمل فى ما تقرأ ، فى صمت وصلاة . احتفظ به فى ذاكرتك وفى قلبك . دع الروح القدس يحدّثك بها فى أعماقك . بدون ذلك تصير كشجرة بلا جذور، فتيبس وتقع … وثالثا ، إصغ إلى الرب يكلم جماعته كل يوم أحد ، فى قراءات القداس وفى العظة. أما إذا أهملت لقاء الشركة فى الأسرار المقدسة ، فأنت مثل شخص بلا عائلة .
فى هذا المساء المبارك ، فلننظر إلى مريم العذراء ، التى قال عنها يسوع : " طوبى لمن يسمع كلام الله ويعمل به " ( لوقا 11 : 28 ) . كانت مريم مصغية دائما لكلمة الله . كان شعارها : " أنا خادمة الرب ، فليكن لى كما تقول " (لوقا 1 : 38 ) . وكانت تحفظ كل الأحداث وتتأملها فى قلبها ( لوقا 2 : 19 ) . قبلت مريم الكلمة ، فأعطتنا المسيح الكلمة . ونحن إذا قبلنا كلمة الله ، وتركناها تحوّلنا ، استطعنا أن نعطى نور الحب والسلام والعدل والرحمة للعالم .
فكلمة الله ستبقى بلا ثمر ، إذا لم نترجمها بأعمال ملموسة . لن يكون لها صوت ومصداقية ، إذا لم ترافقها أفعال منظورة تؤيّدها . علينا أن نجسّدها فى حياتنا وفى عالم اليوم ، فتعلن شهادتنا العملية أن كلمة الله حية وفاعلة ، قادرة أن تغيّرنا وتغيّر العالم ، ليصير وفق مشيئة الله عالمَ أبناء الله الواحد . ليلة الميلاد تذكـّرنا أن رسالتنا هى أن ننشر الخبر السار للعالم : " هكذا أحب الله العالم ، حتى وهب ابنه الأوحد .. ليخلـّص العالم " ( يوحنا 3 : 16 – 17 ) .
نصلى فى هذا المساء المبارك ، متحدين مع قداسة البابا بندكتوس 16 ، وجميع إخوتنا البطاركة والأساقفة ، ملتمسين من الله تعالى أن يحفظ حياة رئيسنا المحبوب محمد حسنى مبارك ، وجميعَ معاونيه الكرام ، وأن يؤيّد ويبارك خطواته الجبّارة من أجل تقدم الوطن العزيز وتحقيق رفاهيته ، محاميا عن القِيَم الروحية والاجتماعية السامية . وليحفظ الله مصر دائما فى كل خير وأمن ، وأخوّة وحب وسلام . وليمنح البلاد المتألمة فى منطقتنا سلاما واستقرارا ، ولا سيما فلسطين والعراق ولبنان ، وليفِض السلام والحب على كل بلاد العالم .
وكل عام وأنتم بخير ،
صدر عن دار البطريركية – فى 25 ديسمبر 2007