بكركي، 24 ديسمبر 2007 (zenit.org)
ننشر في ما يلي رسالة البطريرك الماروني، الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير لمناسبة عيد الميلاد
"ميلاد الرب يسوع بالجسد هو من أعياد المسيحية الكبرى، وقد انتظرته البشرية طويلا جدا، وتاق اليه الأنبياء منذ القديم. وجاء في آخر الأزمنة، على ما يقول الكتاب المقدس، ليخلص المسيح الناس من خطاياهم ومعاصيهم، هذا اذا سلكوا الطريق التي رسمها لهم. ويوم ميلاده ظهر نجمه لمن لم يسمعوا به، ولا عرفوه. لقد ظهر للمجوس الآتين من الشرق الى أورشليم لكي يسجدوا له ويقدموا له فعل عبادة، معترفين، قبل أقرب الناس اليه، بأنه هو مخلص العالم من خطاياهم. وأهدوا اليه: "ذهبا ومرا ولبانا".
ان النجم هو الذي هدى المجوس, فأوصلهم الى المسيح ليسجدوا له، ويقدموا له فعل عبادة، فيما أقربهم اليه لم يأبهوا لولادته، لا بل ان هيرودس خاف منه على عرشه، فتربص به شرا، عندما "دعا المجوس سرا، وتحقق منهم زمن ظهور النجم". وكان في نيته أن يفتك بالوليد الجديد خوفا منه على عرشه الزائل. ولكن الله الذي يقرأ في القلوب ويكتشف المخفيات، عرف ما كان يضمره هيرودس، فأوعز في الحلم الى المجوس لكيلا يرجعوا اليه. وكان هيرودس قد طلب اليهم العودة اليه، ليذهب بدوره لتأدية واجب العبادة للمولود الجديد، على ما قال لهم خدعة.
لقد رأى المجوس نجمه في الشرق، فأتوا ليسجدوا له. هذا النجم الذي هدى المجوس الى المسيح، ورافقهم من مقرهم البعيد، وهداهم الى الطريق الموصل الى بيت لحم، لا يزال يهدي الناس الى المسيح. ولكنهم قلائل الذين ينتبهون الى هذا النجم الهادي.
ان هذا النجم هو الضمير الذي يهدي الناس في سبيل الخير والصلاح. وقد وصفه المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني بقوله: "أن الله كمخلص يريد أن يقود كل الناس الى الخلاص ، وأيضا اولئك الذين، دون خطأ منهم يجهلون انجيل المسيح وكنيسته، انما يفتشون عن الله بنية صادقة، ويجتهدون في أن يكملوا بأعمالهم اراداته التي تعرف لديهم، من خلال أوامر ضميرهم، هم أيضا يبلغون الخلاص الأبدي".
ان الله يقيم في قلوبنا، لكنه غالبا ما يبدو أنه غائب عنا، ليتركنا نتصرف بارادتنا، ذلك أنه يحترم هاتين الارادة والحرية اللتين تميزان الانسان عما سواه من المخلوقات. وكأنه يقول لنا ما نقوله له: "لتكن ارادتك، أيها الانسان"، فيما الواجب يقضي علينا بأن نقول له: "لتكن ارادتك، يا رب"، وأن نعمل بمقتضاها".
أجل تبقى للأعياد بهجتها، وبخاصة الأعياد الدينية التي ترفع العقول والقلوب اليه تعالى لنكتشف ارادته فينا لنعمل بها طائعين. ونكتشف ارادة الله فينا، عندما نفسح له في المجال لاسماع صوته الينا، وعندما نخنق فينا المطامع الدنيوية لنرهف السمع اليه تعالى، على ما يقول الكتاب مخاطبا النفس: "هاءنذا أتملقها وآتي بها الى البرية وأخاطب قلبها".
أيها الأخوة والأبناء الأعزاء، ان عيد ميلاد السيد المسيح يدخل الى قلوبنا، والى قلوب المؤمنين عندنا شعاعا من نور بهي، على الرغم من الظلام الذي يلفنا في هذه الأيام البائسة. وهو العيد الذي يذكرنا بما قاله الملائكة في ليلة الميلاد للرعاة: "لا تخافوا! فها أنا أبشركم بفرح عظيم يكون للشعب كله". وكلمة الملاك لا تزال تتردد عبر الأجيال حتى وصلت الينا: وهي لا تزال تقول لنا ما قالته للملائكة: لا تخافوا. ان الله هو حاميكم، وهو أقوى من كل الأقوياء. ولكن الله يطلب منا أن نضع ثقتنا به، ونعمل بارادته، لا بارادتنا، وأن ننبذ الأحقاد، والبغضاء، والاستغلال الرخيص، والسعي وراء المصالح الضيقة، ولو على حساب مصالح الوطن العامة، وأن نعامل بعضا بعضا بالرفق والمعونة المخلصة والمحبة. وأن نساعد من يحتاجون من بيننا الى مساعدة، وهم ليسوا بقلة.
ونتساءل: كيف وصلنا الى ما وصلنا اليه من سوء حال؟ ونكاد نقضي على مقومات وطننا من جراء ما بيننا من تجاذب، وتطاحن، وخصام. كيف قضينا على نظامنا الديمقراطي وما يوفره لنا من حرية قد لا نجدها في ما حولنا من بلدان. ورئاسة الجمهورية عندنا مفقودة منذ أكثر من نصف شهر، ولم نوفق حتى الآن الى انتخاب رئيس لها، وهذه أول مرة في تاريخ الجمهورية يحدث لها ما يحدث. ومجلسنا النيابي معطل منذ ما يقارب السنة، وحكومتنا تستمر مبتورة وبعض وزرائها معتصمون، وفي وقت معا يمارسون ما تروق لهم ممارسته، وما من مجلس دستوري، وهناك بعض من مؤسسات الدولة معطلة. والشعب يئن ويشتكي، وليس من سميع ولا من مجيب. هل بلغ مسامع المسؤولين أن هناك بعض التلامذة يذهبون الى المدرسة، وهم يتضورون جوعا؟ أما آن الأوان ليقظة ننتبه معها الى ما صرنا اليه من فراغ قاتل؟
إنا، وهذه حالنا المأساوية، نتلفت إلى طفل المغارة الإلهي لنسأله أن يوطد منا الإيمان به وبعنايته الإلهية، وأن يرسخ في أذهاننا أننا أخوة، وأن هذا الوطن هو لنا جميعا، فنرأف به ليرأف بنا وبمستقبل أجيالنا الطالعة.
وإنا، اذ نهنئكم جميعا بهذا العيد الذي يطل علينا هو وعيد الأضحى تقريبا في وقت معا، نسأله تعالى أن يعيد عليكم أعيادا عديدة ملؤها الخير والبركة وأن يشملنا نحن وإياكم برضاه وبركاته".