عيسى المسلمين والمسيحيين في بيت لحم

 

جميل حمد

المستقبل – السبت 29 كانون الأول 19

يجعلني عيد الميلاد هذه الأيام أحس بالوحدة في بيت لحم. أتجول في السوق والساحات حيث أشاهد أشجار عيد الميلاد والتماثيل التي تباع للزائرين والسياح المسيحيين. وأحس بعمق بغياب الكثير من الأصدقاء والمعارف

 \"\"

احتفالات الميلاد في بيت لحم 2007

القدامى والذين هاجروا عبر العقود، مما أدى الى تغيير كبير في المدينة الصغيرة. ما عدت أعرف مدينة طفولتي. اليوم أسمع في بيت لحم أصوات المؤذنين من منارات المساجد العديدة، والتي تكاد تغطي على أصوات أجراس الكنائس الناعمة.
لقد كنت في الثامنة من العمر عندما أتت أسرتي الى بيت لحم عام 1949، فأنا من اسرة مسلمة خرجت أو أخرجت من ارض دولة اسرائيل الجديدة. ويومها كان سكان بيت لحم كلهم تقريباً من المسيحيين. ذهبت الى مدرسة مسيحية، وشاركت في الانشاد في الجوقة الكنسية. وكنت احب الذهاب الى الكنيسة ايام الآحاد لمشاهدة القداس مقفل العينين اطمئناناً، القداس كان باللاتينية، ولذلك ما كنت افهم الكلمات بل استمتع بالأصوات، وبرائحة البخور. ووقتها كانت هوياتنا المسيحية والاسلامية موضوعة في الجيوب النائمة. فلم يكن مهماً حقاً لدينا نحن الأطفال الى اي دين ينتمي اهلنا. كان عادياً بالنسبة للأهل ولنا ان نحضر الى الكنيسة في الأعياد والمناسبات. فنحن المسلمين نحب المسيح ونقدسه ونسميه عيسى، كما نسمي امه مريم بالعربية. وقد اعتادت النساء المسلمات اللجوء الى المغارة للدعاء ليهبهن الله طفلا. وكنا نزور بيوت اصدقائنا المسيحيين لقضاء الاجازات معهم في الربيع عندما تكون اشجار الدراق قد بدأت بالإزهار. وفي عيد الميلاد يلبس المسيحيون والمسلمون صغاراً وكباراً أحسن ملابسهم وأكثرها زهواً بالألوان. وتكون الأضواء مشعة في كل مكان الى درجة زغللة عيوننا نحن الصغار.
وما تزال لتلك التقاليد والعادات آثارها الحاضرة. فالأضواء ما تزال تشع في الساحة ومن حولها. وفي كنيسة المهد تزدهر أضواء أكثر. بيد ان كل ضوء من تلك الأضواء يذكرني اليوم بذلك الماضي البعيد المفقود. ويذكرني بأصدقائي المسيحيين الذين غادروا، لماذا غادروا؟ بعض هؤلاء عاشت عائلاتهم ببيت لحم منذ ولادة المسيح او حتى قبل ذلك. والتفسير لتلك المغادرة ان كثيراً من المسيحيين شعروا أنهم عالقون بين الاحتلال الاسرائيلي وصعود التطرف الاسلامي. ولأن المدينة تقع في منطقة السلطة الفلسطينية منذ العام 1993 فقد بنى الاسرائيليون حولها سوراً علوه ثمانية أمتاز. ولا فرق لدى الاسرائيليين بين المسيحيين والمسلمين من حيث اعتبارهم جميعاً تهديداً للأمن. حلاق شعر مسيحي غادر مع أولاده الى استراليا لأنه خاف على بناته. فقد كانت المراهقات يتعرضن للازعاج من جانب الشبان الاسلاميين لأنهن يعلقن الصلبان. وكانت ردة فعل الحلاق: لا أريد لبناتي العيش تحت وطأة مجتمع متشدد ومنغلق. على ان تعليق الصليب على الحواجز الاسرائيلية ليس اقل اثارة للمشاكل، فبالنسبة لحرس المعابر والحواجز كلنا فلسطينيون، وكلنا خطيرون. ورغم الاذن الرسمي الموجود والذي نحمله ليست رحلتنا القصيرة للقدس سهلة او مسهلة. وربما احتجنا الى ساعة من السير بالسيارة لتجنب الحواجز، وقد قال طالب جامعي مسيحي امامي ساخراً: يسوع المسيح نفسه ما كان يستطيع مغادرة بيت لحم بدون البطاقة الممغنطة، وبصمة الاصبع!
 

 \"\"

من رسومات البريطاني بانكسي على الجدار

أما "السور الواقي" فقد ظهرت له فضيلة واحدة فقط، وهو أنه صار مساحة شاسعة للرسوم واللوحات الكاريكاتورية. وقبل اسابيع جاء الرسام البريطاني المعروف بانكسي بمجموعة من اصدقائه ورفاقه الى السور حيث رسم معهم حمامة للسلام ترتدي درعاً حامياً وتقع في مرمي القناصين، والى جانب احد المنازل رسم طفلة صغيرة بلباس جندي اسرائيلي. أحياناً ترفع تلك الرسومات المتحدية من معنوياتي. لكن في احيان أخرى وعندما أتأخر كثيراً بسبب الحواجز أفكر ان رسوم الأطفال ليست كافية لازالة السور الذي يطوق بيت لحم. على ان ما يجعلني اضحك بحدة أحياناً اليافطة التي وضعها الجنود الاسرائيليون فوق الحاجز وعليها بالعبرية والعربية والانكليزية. رافقتكم السلامة!
ورغم ذلك كله لدي بعض الأمل، فابني وضع شجرة الميلاد في بيته المسلم هذا العام. أما انا فكلفت باحضار لباس لبابانويل، وأحفادي يتعلمون الأناشيد الكنسية. وهذا سلام من نوع خاص ما أزال أجده في بيت لحم.

("مجلة تايم"، 27 كانون الأول 2007، ص 11)

عن موقع ابونا