الضمير والتربية المسيحية

إن قضية التربية ليست سرد مبادﺊ ولكنها قضية تربية ضمائر مسيحية

 

كيف زوّد الله الإنسان ﺒ "بوصلة" في مسيرة حياته؟

– كيف يستطيع المربّي مساعدة النشء على تمييز واختيار ما هو صالح؟

– ما أهمية الضمير في التربية المسيحية؟

– ما الربط بين الضمير وكرامة الإنسان؟

 

 

 

 

 

  

 

 

 

"تربّي الكنيسة الضمائر

بإظهارها الله للشعوب وبإظهارها مساواة البشر جميعًا بضفتهم أبناء الله

وسلطانهم على الخليقة الموضوعة لخدمتهم, وواجبهم بالالتزام من أجل تنمية الإنسان كلَّه وكل إنسان"

("رسالة الفادي" – Redemptoris Missio    – للبابا يوحنا بولس الثاني)

 

 مقدمة:

يوجد في حياة كل إنسان حاجة ملحّة لإيجاد مرجعيّة معينة أو بمعنى آخر لإيجاد موجّه صالح.

وفي المجال التربوي, نجد هذه الحاجة إلى المرجعيّة أكثر إلحاحًا حيث أن مسئولية التنشئة والتهذيب تحتاج بالدرجة الأولى إلى أسس ومبادﺉ ثابتة تقوم عليهم عملية التربية.

وهنا يحضرنا كلمة القديس بولس الرسول إلى أهل كورنتس (1 كو2: 16) "وأمَّا نَحنُ، فلَنا فِكرُ المَسيحِ" – لا تهدف العبارة إلى تحويل مسار الحديث إلى ناحية روحية نظرية أو إلى الهروب من واقع الحياة بل تُدخلنا هذه الآية في صميم واقع التربية المسيحية للنشء. ولذلك علينا ألاّ ننسى هوية التربية المنشودة, فهي تربية قائمة على أسس مسيحية نابعة من فكر المسيح.

وهنا فقط يمكننا الحديث عن الضمير. فإذا أردنا الحديث عن مرجعية معيّنة صالحة ومثمرة, لا يجب أن نتحدّث فقط عن الضمير بشكل عام, ولكن الضمير المسيحي الذي نشأ وتكوّن من خلال مبادﺉ مسيحيّة صالحة مصدرها هو المسيح الذي فيه ملء الحياة. وبالتالي فمن المهمّ فهم معنى الضمير وفقًا للإيمان المسيحي ومحاولة الحفاظ على مقوّماته.

 

1 – ماهية الضمير المسيحي

 

كثيرًا ما يتساءل الأشخاص عن مفهوم وتعريف كلمة الضمير وكثيرًا ما أُعطيت له تعريفات تحدّ من شموليته. لذلك من المهمّ ألاّ نحصر مصطلح شامل مثل الضمير في تعريفات بل يجب توسيع الأفق لفهم شموليّة المعنى وعدم وضعه في قالب معين.

 

 أ) خلق الله الإنسان ونفخ فيه نسمة حياة (تك 2: 7) وهي بمثابة بذرة أوليّة تشمل في جوهرها على مبادﺉ و قيم الله ذاته. هي بذرة تحتوي داخلها هذه الطاقات الهائلة التي لله. فيمكننا القول إنّها تشبه إلى حد كبير "بوصلة" مهداة من الله الخالق إلى خليقته.

ولكن هذه "البوصلة" تحتاج إلى معرفة ووعي بكيفية استخدامها واستثمار كلّ ما بداخلها من طاقات وقيم ومبادﺉ… وهنا نصل إلى تدرّج آخر.

 

 ب) يحتكّ الإنسان في مسيرة نموه ونضجه بالواقع الحياتي والتجارب المختلفة. يحاول الإنسان مطابقة سلوكه مع هذه النعمة المعطاة له في الخلق "البوصلة" فيتلقّى الشخص تعاليم ومبادﺉ وقيم من الحياة ويختبر نتيجة سلوكه الجيد والخاطﺊ. ويستطيع من خلال نعمة التعقّل إن يقوم بالتمييز بين ما هو خير وما هو شرّ (أي بين ما هو صالح وما هو مضرّ لطبيعته كابن الله). وهذا ما نسمّيه "العلم الأخلاقي" أي الناحية التربوية الأخلاقية الني يكتسبها الإنسان في مسيرة حياته. ولذلك فهي المرحلة الهاّمة جدًا فيما يخصّ موضوعنا, حيث يستطيع فيها المربّي مساعدة النشء على تمييز واختيار الصالح من قرارات وسلوكيات.

 

ج) إصدار وتكوين حكم, أي القيام باختبار حرّ, نتبع فيه ما قمنا به من عملية تمييز. فالموقف المعيّن الذي يتطلب مني قرارًا أو سلوكًا يجب أن يُختم بحكم أو قرار عملي فيه تخرج المبادﺉ والقيم التي في "بوصلة" حياتي إلى مجال الحياة العملية. هذا القرار الأخير هو في الواقع العلامة المرئية على كون الشخص.

 

2 – الضمير المسيحي والتربية

 

دور المربّي يكمن في المرحلة الثانية من تدرج تكوين الضمير "العلم الأخلاقي".  ليس دور المربّي هنا سرد مبادﺉ وقيم عرضها على النشء بل بالأحرى مساعدتهم على اكتشاف قيمة هذا الكنز الموجود بداخلهم وإظهار أهميّة الحريّة المسئولة في اتخاذ قرار أو سلوك ما.

هذه العملية من أصعب العمليات التربوية حيث تتطلب من المربّي (وفي المقام الأول من الوالدين) صدقًا مع الذات وحياة روحية سليمة تتأصل وترجع باستمرار إلى شخص وفكر المسيح, بما يساعده على عمل توازن بين خبراته العمليّة وفكر المسيح النقي.

مثلاً: من الصعب تربية النشء على عدم ممارسة الغش والرشوة. فإذا سردنا الموضوع على أنّه مخالفة للوصايا, أو على أنّه لا يليق على أبناء الله, أو على أنّه شيء غير حسن وغير مقبول… نكون بذلك قد سردنا أمام النشء بعض النصائح والتوجيهات. لكن لم نساعدهم على الوصول إلى أعمق من ذلك. أمّا إذا رجعنا إلى جذور الموضوع وجعلنا قيمة الأمانة ليست مجرد تحقيقًا لوصية ولكنها جزءًا أساسيًا من احترام كرامة الإنسان وأنّها تجعل منه إنسانًا حرًّا قادرًا على المواجهة. بل والأكثر من ذلك, إنّها تعطي السلام والسعادة الداخلية العميقة. عندئذ فقط يمكن للإنسان أن يواجه الغش والفساد ويتمسّك بالقيم رغم ما تقدمه الحياة من مبرّرات لعدم الأمانة.

إن قضية التربية ليست سرد مبادﺉ ولكنها قضية تربية ضمائر مسيحية تجد قيمتها وأهمّيتها في المسيح وفكره. لذلك يرتبط موضوع الضمير التربوي كثيرًا بالصلاة بمعناها العميق كما يبرز في سفر أشعيا: "فاَغتَسِلوا وتَطهَّروا وأزيلوا شرَ أعمالِكُم مِنْ أمامِ عينَيَ وكُفُّوا عَنِ الإساءةِ. تعَلَّموا الإحسانَ واَطلُبوا العَدلَ. أغيثوا المَظلومَ وأنصِفوا اليتيمَ وحاموا عَنِ الأرملَةِ». ويقولُ الرّبُّ: «تَعالَوا الآنَ نتَعاتَبُ (نتناقش). إنْ كانَت خطاياكُم بِلَونِ القِرمِزِ، فهيَ تَبيَضُّ كالثَّلج, وإنْ كانَت حمراءَ غامِقَةً، فهيَ تصيرُ بيضاءَ كالصُّوفِ." (أش 1: 16 – 18)

ففي الصلاة يضع المربّي ذاته وحياته واختياراته ومبادئه في ميزان محبة الله وفكر المسيح ويستطيع من خلال هذا "التعاتب" (نقاش) مع الله أن يصل إلى قناعة شخصية بما هو خير وصالح. ويرفض كل ما هو شرّ وسيّيء. بل وأنّه في هذا اللقاء الصادق مع الله, يستطيع أن يجد الشجاعة اللازمة ليتحدّى الفساد والشرّ ويصبح مربّيًا صاحب قيم ومبادﺉ ولن يشغله كثيرًا إذا ما كان العالم يسير عكس ذلك أم لا, حيث أنّه يجد سلامه في ذلك.

 

 خاتمة:

 

إذا أردنا أن نحيا مسيحيتنا وإنسانيتنا فمن المهمّ العمل المستمر من أجل إعادة تشكيل الضمائر واستعادة صورة الله المغروسة في كل إنسان, وإظهار تلك الصورة المشرقة للخير والصلاح.

 إن مسئولية تربية وتكوين الضمير هي من أول وأعظم المسئوليات حيث أنّها لا تسعى إلى شيء آخر سوى خلق مجتمع قادر على المواجهة. أنّها أول الخطوات التي يجب أن نبدأ بها عن إعداد برامج للتنشئة أو مؤتمرات للتكوين.

فعلينا أن نتعلّم ونُعلّم كيف نستثمر هذه النعمة التي زرعها الخالق من البدء وأن نفجّر كل طاقاتها لخير الإنسان والمجتمع.  

 

(حسب مجلة "نور على الطريق" – عدد 91 – القاهرة)