مخطوطات قمران: حيـاة جـمـاعـة قـمـران (8)

نواصل   عرض   آراء  فيلون  الإسكندري  . نستكمل   ما   بدأناه  في  العدد  السابق  من  كتاب  الدفاع  عن  اليهود .

(143) ومن  يضبط  مخالفاً  مخالفة جسيمة يطرد من الجماعة وغالباً ما ينهي المطرود أيامه نهاية تعيسة. وذلك لأنه يلتزم بالأقسام وبالعادات التي اعتادها في الجماعة، فلا يستطيع أن يشترك في طعام الآخرين ويضطر لأكل الأعشاب فينهك الجوع جسده ويموت.

(144) لذلك ترأف الجماعة على الكثيرين من هؤلاء وكانت قبلتهم في النفس الأخير إذ اعتبروا الألام التي كادت تودي بحياتهم كافية للتكفير عن مخالفاتهم.

(145) ويتحلون في قضائهم بالعدل والتأني . تصدر الأحكام في اجتماعات لا يقل عدد حاضريها عن مائة وحكمهم غير قابل للنقض.

(146) ومن واجباتهم اتباع رأي المسنين ورأي الأغلبية : فمثلاً في جماعة من عشرة أفراد لا يتكلم واحداً إذا لم يسمح بذلك التسعة الآخرون.

(147) ولا يبصقون وسط الجماعة أو جهة اليمين ، ويمتنعون أكثر من باقي اليهود عن عمل أي شيء في اليوم السابع: فيعدون طعامهم في اليوم السابق حتى لا يوقدوا ناراً  في  اليوم  السابع ، ولا يحركون  شيئاً  من مكانه ولا يذهبون لقضاء حاجتهم.

(148) ففي باقي الأيام يحفرن حفرة ، عمقها قدم ، بالفأس التي عهدت  إليهم يوم انضمامهم للجماعة ويسترون جسدهم بالرداء حتى لا يهين أشعة الحضرة الإلهية.

(149) ثم يردمون الحفرة. ويختارون لتلك الحاجة أماكن منعزلة. وبالرغم من أن إخراج هذه الفضلات شيء طبيعي إلا أنهم يتطهرون كما لو كانوا قد تدنسوا بشيء غير طاهر.

(150) وينقسمون إلى أربعة رتب حسب مدة حياتهم في الجماعة. للمستجدين مكانة أقل بكثير من القدامى: فإذا لمس أحدهم عليه أن يتطهر كما لو كان قد لمس شيئاً غير طاهر.

(151) وهم طوال الأعمار ، فيتخطى معظمهم المائة عام. ويرجع ذلك ، في رأيي، إلى بساطة حياتهم وانتظامهم. إنهم يستهينون بالمخاطر ويتغلبون على الألام بالتأمل . وعندما  توافيهم  المنية  يعتبرون  الموت  أفضل  من الحياة.

(152) لقد خضعت أرواحهم بكل أنواع الصعوبات أثناء الحرب ضد الرومان: لقد تعرضوا للكي والسحل والحرق وكسر العظام لكل أدوات التعذيب لكي يهينوا المشرّع أو يأكلوا طعاماً محرماً لكنهم رفضوا الأمرين ولم يستعطفوا معذبيهم ولم يبكوا مطلقاً.

(153) كانوا مبتسمين أثناء الألام وساخرين من معذبيهم. كانوا يسلمون الروح بسلام يشبه سلام الذين يقبلون الروح مرة أخرى.

(154) لأن إيمانهم كان ثابتاً وراسخاً بأن الجسد فاسد فانٍ، بينما النفس خالدة. فهي تأتي من الطبقات السامية، وتظل حبيسة في الجسد، يشدها إبهار طبيعي.

(155) ولكنها عندما تتخلص من رباط الجسد ، كما لو تحررت من عبودية طويلة ،  فإنها تفرح  وترتفع  إلى  السماء . ويتفقون  في  الرأي  مع اليونانيين: تذهب نفوس الصديقين إلى ما بعد المحيط حيث لا مطر ولا جليد ولا ألم بل نسيم رقيق هادئ . أما نفوس الأشرار فإنها تلقى في مغارة مظلمة مليئة بالعذابات الدائمة.

(156) ويبدو أن اليونانيين ، بذات المنطق ، عهدوا بجزر الصديقين لبواسلهم، الذين يسمونهم أبطال أو أشباه آلهة، في حين أن مقر نفوس الأشرار هو الهاوية حيث يعاقب البعض مثل سيزيف وطنطال وهيسيون وطيطاي. وبذلك يعترفون أن النفس خالدة وينادون بالتمسك بالفضيلة وبالإقلاع عن الرذيلة.

(157) فالصالحون يزدادون صلاحاً أثناء حياتهم آملين في مكافأة بعد الموت، ويحاول الصالحون أن يكبحوا جماح شهواتهم وشرورهم وأن يخفوها أثناء الحياة لخوفهم من العقاب الأبدي بعد الموت.

(158) هذه  هي تعاليم الأسينيين اللاهوتية بخصوص النفس . إنها مثل الصنارة التي يستطيع مقاومتها من اختبر حكمتهم.

(159) ومنهم من يتنبأ بأمور المستقبل، إذ ينقطعون منذ طفولتهم إلى دراسة الكتب المقدسة والتمارين المختلفة وكتابات الأنبياء: وبالفعل نادراً ما لا تتحقق نبواتهم.

(160) وهناك مجموعة  أخرى من الأسينيين تتفق مع  هؤلاء  بما يخص طريقة الحياة والتقاليد والتشريعات ولكنها  تختلف عنهم في  نظرتهم للزواج . إنهم يعتبرون أن أولئك  الذين يحجمون عن الزواج ، يبترون جزءاً هاماً من الحياة وهو الإنجاب. فإذا حجم الجميع عن الزواج فمصير الجنس البشري هو الزوال.

(161) إلا أنهم يختبرون نساءهم مدة 3 شهور. وبعد أن يجتزن 3 غسولات، مثبتين أنهن يستطعن الإنجاب يتزوجهن . وعندما  تحبل ينقطعون عن ممارسة الجنس معهن . بذلك يثبتون أنهم لا يتزوجون بدافع الشهوة بل بدافع الإنجاب. وتستحم النساء وهن لابسات الثياب بينما يستر الرجال عورتهم. هذه هي عادات هذه الجماعة.

ويعطي يوسيفوس فلافيوس بعض المعلومات عن الأسينيين في العاديات التي حررها في 93/94م. إنها معلومات موجزة وفي إطار حديثه عن التيارات الفكرية للشعب اليهودي: الفريسيون، الصدوقيون، الأسينيون. ويتكلم عن تيار رابع أدخله يهوذا وصادوق.

ويبدأ يوسيفوس بهذه العبارة: "لليهود منذ العصور القديمة 3 فلسفات متأصلة في تقاليدهم أي الأسينيين، الصادوقية والفريسيين". لقد سبق وتحدثت عنهما في "حروب اليهود" وسأتناولها هنا بإيجاز.

ثم يتحدث عن الفريسيين والصادوقيين ويكمل:

(18)  يدعو الأسينيون إلى تسليم كل شيء لعناية الله.

ويؤمنون بخلود النفس وبضرورة الجهاد للاقتراب من العدالة.

(19) ويرسلون تقادم إلى الهيكل ولكنهم يتعبون في تقديم الذبائح طقوس تطهير مختلفة عن (طقوس الهيكل) لذلك هم مبعدون عن الأماكن التي يرتادها الآخرون في الهيكل ويقدمون ذبائحهم منفردين فيما بينهم. إنهم رجال كاملون منقطعون كلية لأعمال الفلاحة.

(20) يمتاز الأسينيون مقارنة بكل أصحاب الفضيلة بممارسة عدالة لم توجد إطلاقاً لدى اليونانيين والبربر، بينما تستمر لديهم هم بلا انقطاع.

يشتركون جميعاً في الممتلكات ولا يمتاز الغني عمن لا يمتلك شيئاً في الانتفاع بالممتلكات. ويفوق عدد الذين يعيشون هكذا أربعة آلاف شخصاً.

(21)  إنهم لا يتزوجون ولا يمتلكون عبيداً لأنهم يعتبرون ذلك يؤدي إلى الظلم وإلى الخلافات. يعيشون معاً ويخدمون بعضهم البعض.

(22) ويختارون رجالاً أفاضل للأشراف على ممتلكاتهم ومحاصيلهم ويقوم الكهنة بإعداد الخبز والطعام. ولا تختلف طريقة حياتهم في شيء عن حياة الصدوقين المدعوين "الكثيرين".

ويتناول فلافيوس الأسنيين في مواضع أخرى أهمها:

حروب اليهود:

الجزء الأول:     78-80، 113

                  117-161

                  117: 567.

الجزء الثاني:      113؛ 567

الجزء الثالث:    11-1

الجزء الرابع:     145

العاديات

                   الجزء الخامس:   171-173؛ 298؛ 311-313

                   الجزء السادس:   371-379

الجزء السابع:    344-348

الجزء الثامن:     1-2؛ 5

حياة موسى      7-12؛ 322-323

يتفق ما يذكره يوسيفوس فلافيوس مع المعلومات التي يعطيها فيلون، بل يمتاز عنه بوفرة التفاصيل التي يوردها: فمنه نعرف طريقة قبول الأعضاء الجدد في الجماعة، والغسولات الشرعية، والزي، والزيت، والمحافظة على السبت، والصلوات قبل مطلع الشمس، والتنبؤات بالمستقبل، والإجراءات الخاصة بالزواج. وتمتاز معلوماته عن حياة الأسينيين وتعاليمهم بالوضوح.

ويجب الأخذ بعين الاعتبار بعض الأمور: كتابات كل من فيلون وفلافيوس موجهة لغير اليهود، أي للوثنيين. ويلونها الطابع الدفاعي، وبالتالي فإنهما يركزان ويمدحان المثل الإنسانية والدينية للأسينيين ويتجاهلان، بقدر الاستطاعة. الطابع اليهودي الخاص مركزين على العناصر التي يمكن أن تقرب الأسينيين من مثل العالم الهلليني. 

من المعروف أن فيلون فيلسوف، وهو يستعمل المفردات الفلسفية لمدارس الإسكندرية المعاصرة له، ويسيطر عليه هدف إنساني ذو طابع يهودي في وصف الأسينيين وخاصة في تعليقاته وتوسعاته الخطابية.

كما يمزج فلافيوس جزءاً من ذاته ومن ثقافته الهللينية في وصفه. عندما يشبه الأسينيين بالإيبقوريين مثلاً (العاديات 371:15). وفي حديثه عن تربية المرأة وخيانتها ووصفه للعالم الآخر يستعمل لغة المتثقفين.

ولا يمكن التأكيد أن فيلون شاهد عيان. فمن المعروف أن كتابه يعود إلى فترة شبابه، ولم يكن قد زار فلسطين. قد يكون استعمل مصادر مكتوبة. ولكن من الصعب جداً أن يكون دون شهادات شفهية. لذلك ليس من الحكمة الأخذ بشهاداته عندما تختلف عن الآخرين. ويرى دانيلو Danielou أن في كتاباته تأثير مسيحي.

كما أنه يجب استبعاد الرأي القائل بأن يوسيفوس استقى من فيلون، وذلك لأن المقارنة بين الشهادتين تثبت صعوبة ذلك.

بيلنيوس الشيخ

تحظى شهادة بيلنيوس الشيخ (+79م) بأهمية خاصة. يأتي الجزء الذي يهمنا في إطار وصفه لمنخفض الأردن الذي ينحدر بصعوبة نحو البحر الميت ولذلك يتوقف بمجرد ما تسمح له الظروف المواتية ويكون بحيرة. ويصف نبع كاليروي الذي يقع تجاه وادي قمران على الضفة الشرقية للبحر الميت ثم يواصل كلامه:

يوجد في الجهة الغربية الأسينيون، الذين يتفادون خطر السكنى على ساحل البحر. إنه شعب فريد في صنفه جدير بأن يكرم أكثر من باقي شعوب العالم: إنهم لا يتزوجون، ولا يمارسون الجنس، لا مال لهم، إنهم أصدقاء النخيل وعددهم ثابت بفضل الذين ينضمون إليهم؛ إذ توافد الكثيرون ممن أنهكهم صخب الحياة وضجيجها للانضمام إليهم وتبني طريقة حياتهم.. بذلك يكون هناك شعب لا ينجب لمدة آلاف السنين ولا ينقرض. إنهم يشعرون بعميق بالندم عن حياتهم الماضية.

وبالقرب منهم توجد مدين عين جدي والتي تعتبر، لخصوبتها وغناها بالنخيل، ثاني مدينة بعد أورشليم. إنها اليوم كوم أطلال. ثم توجد قلعة مصعدة الكائنة على صخرة وهي أيضاً ليست بعيدة عن البحر الميت".

هيبوليتوس الشيخ

حتى وإن اتبع هيبوليتوس الروماني يوسيفوس فلافيوس في أرائه، إلا أنه يضيف بعض التفاصيل الهامة. نقرأ في كتابه الحرب 139:2 ما يلي: "لا تكره أحداً، حتى لو كان ظالماً أو عدواً، بل صل لأجله وقاتل مع الصديقين".

والفقرة 150هامة جداً بسبب الربط بين الأسينيين والغيوريين "إنهم منقسمون   منذ  البداية  ولا  يتبعون  التقاليد  بنفس  الطريقة  لأنهم  ينقسمون إلى 4 فئات.

يتطرف البعض في اتباع  القواعد ، إذ يرفضون حتى لمس العملات المعدنية، مؤكدين أنه لا يجوز حمل أو النظر أو صنع أية صورة، لذلك لا يجرؤ أي من هؤلاء الدخول إلى مدينة لئلا يعبر تحت بوابة محلاة بتماثيل، لأن المرور تحت التماثيل رجس. وآخرون يتأكدون فوراً إذا كان المتكلم الذي يذكر اسم الله مختتناً أم لا. فإن لم يكن فإنهم يهددونه بالقتل إن لم يبادر بالاختتان. فإذا رفض فإنهم لا يتوانون عن تنفيذ تهديدهم: إنه يقتلونه. لهذا يطلق عليهم اسم غيورين أو حاملي الخنجر. ويرفض آخرون إعطاء لقب سيد لأي إنسان، فالسيد هو الله وحده، حتى لو تعرضوا للموت.

أما الآخيرون فإنهم أوفياء لدرجة أن المحافظين على العادات لا يلمسونهم، وإذا لمسوهم فإنهم يتطهرون فوراً، كما لو كانوا قد لمسوا شيئاً نجساً.

وتوضح الفقرات 154-158 أن اهتمام هيبوليتوس بإبراز التشابه الروحي مع الفيثاغوريين يفوق اهتمام يوسيفوس فلافيوس.

"إن إيمانهم بالقيامة راسخ جداً. ويؤكدون أن الجسد سيقوم وسيكون خالداً مثل النفس. أما النفس فإنها، بعد الموت، تذهب لتستريح في مكان مريح به نسمة هواء ونور، وهو المكان الذي سمعوا عنه من اليونانيين الذين يسمونه: جزر السعادة.

ولكن هناك تعاليم اتخذها اليونانيون عن الأسينيين. لأن ممارسات الأسنيين الخاصة بالإله أقدم من ممارسات الشعوب كلها. ومعنى ذلك أن كل الذين يتكلمون عن الله الواحد وعن الخلقة لم يستقوا هذه التعاليم إلا من التوراة اليهودية. ومن هؤلاء فيثاغورس ورواقيو مصر الذين تعلموا في مدرسة الأسنيين".

ويؤكد هؤلاء أنه توجد دينونة وأن الظالمين سينالون عقاباً أبدياً".

سولينوس

وقد نشر بوخارد نصاً عن الأسنيين. يرد في أحد النصوص، التي ترجع على الأرجح إلى بلينيوس، خبر لا يرد في نصوص أي كاتب آخر ولكنه مجهول المألوف. يؤكد هذا الخبر أن خبرة جماعة قمران لم تكن خافية على المعاصرين لهم وأن القصص العجيبة المتداولة حول هذا المكان والتي أكدتها المخطوطات المكتشفة ليست غريبة على حياة ومعتقدات الإسنيين.

وإليكم النص:

" هنا  لا  يولد  أطفال  ومع  ذلك  لا  يتناقص  عدد  الجماعة . المكان   طاهر .  فبالرغم  من  توافد أعداد غفيرة إلا إنه لا يقبل أحد في الجماعة ما لم يكن عفيفاً  بريئاً   لأن  كل  مذنب ، حتى  وإن  كان  ذنبه صغيراً مهما  حاول  بشتى  الطرق  الانضمام  إلى  الجماعة ،  فإن  العناية الإلهية  تبعده .  وقد  يبدو  غريباً   أن  يظل   المكان  منذ  أجيال  عامراً ، حتى  وإن  لم  تكن  هناك  مواليد " .

هذه  هي  أهم  الشهادات  التي  وصلتنا  عن  الأسينيين  وهناك شهادات  ثانوية  في  كتابات  ديونيس ،  كريستوموس ، بورفيريوس وأوزابيوس  القيصري  وأبيفانيوس  ونص  لايسوذورس  الإشبيلي  وآخر لفيلاستر (330 – 390) ويؤكد الأخير أن الأسينيين لا يعترفون بيسوع المسيح  بل  ينتظرون  نبياً  صديقاً .

والسؤال  الآن : هل  هناك  علاقة  بين  الإسنيين  وجماعة  قمران ؟

عن مجلة صديق الكاهن