البابا لاون الثالث عشر (3) والعصر الذهبي لطائفة الأقباط الكاثوليك

قارئنا العزيز توقفنا معاً في العدد الماضي عند زيارة الأنبا كيرلس مقار أسقف طائفة الأقباط الكاثوليك في ذلك الوقت للنمسا ومقابلة الإمبراطور فرانز جوزيف له وتبرعه بمبالغ معينة لصالح إكليروس الطائفة، بالإضافة إلى مبلغ كبير لبناء كاتدرائية الإسكندرية. وقد بعث وزير الخارجية النمساوي غولينكوفسكي بتاريخ 7 نوفمبر 1895بتقرير يحوي تفاصيل هذه الزيارة وما دار فيها إلى الكاردينال ليدوكوفسكي رئيس مجمع انتشار الإيمان. وقد كان هذا التقرير محل تعليق البابا ليون الثالث عشر في الجلسة السابعة عشر للجنة الكاردينالية للعمل على وحدة الكنائس الشرقية المنفصلة مع الكنيسة الكاثوليكية والتي انعقدت بتاريخ 17 نوفمبر 1895 برئاسة البابا نفسه.

إحياء الكرسي البطريركي الإسكندري للأقباط الكاثوليك      

ذكرنا سابقاً أن إعادة إحياء الكرسي البطريركي الإسكندري كان مطلباً ملّحاً للأقباط الكاثوليك، وظهر ذلك جليّاً إبّان الزيارة التي قام بها وفد قبطي كاثوليكي إلى روما لتقديم الشكر للبابا ليون الثالث عشر على اهتمامه بالأقباط وتعيينه للأنبا مقار أسقفاً على الطائفة. وفي أثناء المقابلة التي منحها البابا للوفد يوم 16 سبتمبر 1895 كما ذكرنا سابقاً جدّد أعضاء الوفد وعلى رأسهم الأنبا مقار[1] توسلهم لليون الثالث عشر كي يعيد لهم كرسيهم البطريركي ووعدهم البابا بالتفكير في هذا الموضوع. وقد نوقش هذا الطلب في العديد من جلسات اللجنة الكاردينالية للعمل على وحدة الكنائس الشرقية المنفصلة مع الكنيسة الكاثوليكية. وقد اعتبر الوقت غير مناسب لاتخاذ قراراً في هذا الشأن.

ولكن بداية من الجلسة الثانية عشرة لتلك اللجنة أخذ موضوع إحياء الكرسي البطريركي الإسكندري يطرح نفسه بقوة. وأخذت المناقشات تدور حول حقوق وحدود هذا الكرسي الجديد بالإضافة إلى رد فعل الدول الأوروبية التي كانت تتحكّم في مصير مصر في ذلك الوقت. وقد تطرّق الحديث إلى قرار إعادة تأسيس بطريركية الإسكندرية الذي أصدره البابا ليون الثاني عشر في 15 أغسطس 1824 ومفعوله بالنسبة إلى القرار المنتظر. وللحصول على رؤية كاملة لتفاصيل ذلك التأسيس الأول، تم تكليف الأب ديونيسيوس للقديسة تيريزا الكرمليتاني لعمل دراسة وافية عن هذا الموضوع.

في الجلسة السادسة عشرة للجنة الكاردينالية المذكورة المنعقدة بتاريخ 13 أكتوبر 1895 تم توزيع التقرير الذي وضعه الأنبا كيرلس مقار بناءً على طلب البابا أثناء مقابلته للوفد القبطي وكان قد تم طبعه على أعضاء اللجنة. واستدعي للحضور إلى الجلسة الأب ديونيسيوس للقديسة تيريزا الكرمليتاني الذي كلّف بعمل دراسة عن أصل وحقوق وامتيازات البطاركة الشرقيين، بالإضافة إلى الاستعانة بوثائق مجمع انتشار الإيمان للتعرّف على تفاصيل التأسيس الأول للكرسي البطريركي الإسكندري للأقباط الكاثوليك الذي أعلنه البابا ليون الثاني عشر بتاريخ 15 أغسطس 1824. تركّزت المناقشات حول اللقب الذي سيُمنح لرئيس هذه الطغمة الكنسية الصغيرة. وكان من رأي الأب ديونيسيوس أن يبدأ الكرسي الإسكندري الجديد بثلاثة إيبارشيات ويمنح صاحب الكرسي لقب رئيس أساقفة. وقد أعلن الأب ديونيسيوس عن رأيه هذا للأنبا مقار، لكن الأنبا مقار لم يسترح إلى هذا الرأي وطلب أن يعطى صاحب الكرسي الجديد لقب بطريرك حتى يحصل على الكرامة المحفوظة للبطاركة في الشرق، بالإضافة إلى مساواته بالبطريرك القبطي الأرثوذكسي.

وهنا أخذ الحبر الروماني ليون الثالث عشر بزمام الحديث مجدّداً قائلاً أنه ينبغي النظر بالاعتبار إلى الوضع العام للشرق، ومبدياً شعوره بأنّه إذا تمّ إرضاء الأقباط فسيكون لهذا تأثيره في جميع الجهات؛ ولهذا فهو مقتنع بأنه لا يجب أن نخيب أمل الأقباط. وبعد عدة تدخلات من جانب الكرادلة الحاضرين تابع ليون الثالث عشر حديثه قائلاً بأنه كان قد كلّف الأب ديونيسيوس بدراسة التقرير الذي وضعه الأنبا مقار. وقد توقع الأب ديونيسيوس بحدوث تعقيدات من جانب الحكومة التركية والباب العالي لمنح البطريرك الجديد والأساقفة التابعين له البيرات اللازم لهم. وتحدّث في هذا الخصوص مع الأنبا مقار. وقد ردّ الأنبا مقار قائلاً أن جميع الطوائف الدينية في مصر تتمتع بحرية كبيرة. وذكر بأنه حالما تكرّس أسقفاً قدّم نفسه للسفير النمساوي الذي استقبله بصفته رئيساً دينياً ومدنياً للأقباط الكاثوليك. وتعهّد السفير بأن ببذل كل جهده ليحصل له على بيرات السلطان العثماني، وأضاف بأنه في الوضع الراهن لم تعد هناك حاجة للتوجّه إلى الأستانة، إذ يكفي فقط الحصول على اعتراف الخديوي حاكم مصر.

وقد أعلن البابا ليون الثالث عشر عن قراره بتأسيس الرئاسة الكنسية للأقباط الكاثوليك مشكّلة من بطريرك وأسقفين، محتفظاً لنفسه بإعلان الأسماء المرشحة في الوقت المناسب. وقد أمر البابا باستدعاء الأنبا مقار إلى الجلسة. وبعد أن عبّر الأخير مجدّداً عن أمله في إعادة إحياء الكرسي البطريركي الإسكندري، أخبره البابا بأن طلبه قد قُبل بكل سرور من الكرسي الرسولي، وأن عليه حالما يعود إلى مصر أن يعلن هذا القرار.

وبناءً على ذلك أراد البابا أن يتعرّف شخصياً من الأنبا مقار إذا كانت هذه الخطوة ستساعد في حركة ارتداد الأقباط إلى الكثلكة. رد مقار بنعم، وهو يبني وجهة نظره هذه على الأوضاع الحالية للأقباط. وسُئل أيضاً إذا كان يرى بين المرشحين من رجال الإكليروس مَن هم أهلاً لمنحهم الدرجة الأسقفية؟ أجاب مقار بأنه يرشّح أربعة أشخاص. وسُئل إذا كان الكهنة الأقباط الكاثوليك يحافظون على قانون بتولية الكهنة؟ أجاب بأن الغالبية منهم متبتلين باستثناء أربعة كهنة متزوجين كانوا قد اعتنقوا الكثلكة. وسُئل إذا كان يمكن تأسيس جماعة رهبانية تابعة للطقس القبطي؟ رد مقار بأنه توجد صعوبة في الوقت الحالي. وسُئل أخيراً إذا كانت القوى الاستعمارية في مصر معارضة للأقباط الكاثوليك؟ قال بأن النمسا، وفرنسا وإنجلترا لا يعارضون الأقباط الكاثوليك، ولكن قد تأتي بعض الصعوبات من جانب روسيا.[2]

ويعلّق المؤرخ الأب يوسف حجار على هذا الحدث بقوله: "إن الكرسي الإسكندري للأقباط الكاثوليك أصبح نظرياً وواقعياً في حكم التأسيس. وأن صياغته الشكلية، والقانونية والتاريخية لم تكن إلا مسألة وقت، وأن العناصر الجوهرية قد اكتملت في 13 أكتوبر 1895".

ويذكر الأب حجّار أيضاً مستنداً على أبحاثه في وثائق وزارة الخارجية الفرنسية، أن قرار إعادة التأسيس لم يبقى طويلاً في طي الكتمان، إذ بدأت المسألة تتردّد على ألسنة الناس, وأن الأمر نما إلى علم الفرنسيين فزاد انزعاجهم. لذلك التقى السفير الفرنسي لدى الكرسي الرسولي de  Behaine مطولاً مع سكرتير الدولة البابوية الكاردينال رامبوللا (Rampolla) في يوم 9 نوفمبر 1895، وبعث على إثر هذا اللقاء بتقرير إلى وزير الخارجية الفرنسي Berthelot يقول فيه أن إعادة تأسيس بطريركية الأقباط الكاثوليك أصبحت حتمية، ولكن إعلان اسم البطريرك سيتأخر بعض الوقت، وأن الأنبا مقار سيدير البطريركية بصفة مدير رسولي فقط. ولكن وزير الخارجية الفرنسي كان قد علم من القاهرة أن أعيان الأقباط الكاثوليك يعولون بشدة على إعلان اسم البطريرك في أقرب وقت ممكن. أيضاً رأى الوزير أنه ينبغي على الحكومة الفرنسية التحرّك بطريقة عاجلة لدى الكرسي الرسولي للحصول على توضيحات في هذا الخصوص.

في 10 نوفمبر 1895 حذّر السفير الفرنسي لدى الفاتيكان فيما يخص اليسوعيين "أنه ينبغي أن يوضع في الحسبان وبأي طريقة كانت أن الرهبان اليسوعيين وممتلكاتهم يجب أن يبقوا تحت الحماية الفرنسية". لم يتأخر رد الكرسي الرسولي طويلاً. فبعد أربعة أيام وفي 14 نوفمبر كلّف سكرتير الدولة البابوية الكاردينال رامبوللا السفير الفرنسي بأن يعلن على الملأ بأن البابا لم يفكر لحظة واحدة بأن يضم اليسوعيين الفرنسيين المكلّفين بالعمل في صعيد مصر للطقس القبطي. ورداً على سؤال الرئيس العام للرهبانية اليسوعية عما "إذا كانت هذه الخطوة ستساعد قضية الوحدة بين الكنائس" أنه لن يتم قبول ذلك إطلاقاً. أمّا مسألة سحب اليسوعيين من الحماية الفرنسية فلا يمكن التفكير فيها على الإطلاق.[3]

في الجلسة السابعة عشرة للجنة الكردينالية للعمل على وحدة الكنائس المنفصلة مع الكنيسة الكاثوليكية المنعقدة بتاريخ 17 نوفمبر 1895 نوقشت الرتوش الأخيرة على الوثيقة البابوية التي تعيد تأسيس الكرسي الإسكندري. استهل البابا الجلسة بالقول بأنه في الجلسة الأخيرة تمّت مناقشة تأسيس البطريركية الإسكندرية للأقباط والموافقة على إقامتها بأسقفيتين تابعتين لها. وأنه في هذا الصدد تم إعداد اللائحة القانونية المنظمة لهذا الكرسي. وهنا أمر قداسته بتوزيع نسخ مطبوعة لهذه اللائحة على الكرادلة الحاضرين، والبدء في قراءتها. وأثناء قراءة تلك الوثيقة البابوية التي تبدأ بعبارة "السيد المسيح" (Christi Domimi) أعلن البابا أنه يريد أن يدخل تغييرات على بعض البنود الواردة في الوثيقة المتعلقة بدور الجمعيات الرهبانية العاملة في مصر بالإضافة إلى حقوق وامتيازات وولاية البطاركة. وبعد مناقشات مستفيضة طالت العنوان أيضاً تمت الموافقة الجماعية على الوثيقة بعنوان "بطريركية الإسكندرية للأقباط" (De Patriarchatu alexandrino Coptorum).       

في 19 نوفمبر علم السفير الفرنسي بقرار اللجنة الكردينالية بإقامة البطريركية الإسكندرية، وأبلغ الوزير بآخر التعديلات التي أراد البابا إدخالها وذلك قبل أن تتم الطباعة الرسمية للوثيقة. ويبدو من دراسة الوثائق الفرنسية المتعلقة بهذا الأمر كما يقول الأب يوسف حجار أن البابا كان راضياً كل الرضا عن هذه الخطوة التي اتخذت لصالح المسيحيين في مصر. أما عن العلاقة بين اليسوعيين والبطريركية القبطية فإن القانون الكنسي الحالي كفيل بحل المشكلات التي يمكن أن تطرأ بين الطرفين، بالإضافة إلى الحقوق الشرعية للحماية الفرنسية.[4]

في يوم 26 نوفمبر 1895 صدرت رسمياً الرسالة الرسولية (Christi Domini) عن بطريركية الإسكندرية للأقباط وفيها يعيد البابا تأسيس الكرسي الإسكندري للأقباط الكاثوليك بنفس حقوقه وامتيازاته القديمة[5]. وتعليقاً على هذا الحدث كان مونسنيور De T’Serclaes  قد كتب في مؤلفه عن البابا ليون الثالث عشر سنة 1906 بخصوص إعادة تأسيس الكرسي الإسكندري للأقباط الكاثوليك قائلاً:

" في السادس والعشرين من نوفمبر 1895 ظهرت أخيراً الرسائل الرسولية الخاصة بتأسيس بطريركية الإسكندرية للأقباط مع كل الحقوق والامتيازات المحفوظة لبطاركة الشرق. وسيشمل هذا الكرسي حالياً بخلاف الإيبارشية البطريركية إيبارشيتان أخريتان تابعتان لهذا الكرسي، هما أبرشية "هيرموبوليس" أو المنيا، وأبرشية "طيبة" أو الأقصر. وسيكون امتداد هذه البطريركية هو نفس امتداد الخديوية المصرية والمناطق المكرزة من القديس مرقس (سائر الكرازة المرقسية). وفي انتظار إعلان اسم أول بطريرك لهذا الكرسي وهو حق محفوظ للحبر الأعظم بالإضافة إلى الأسقفين الآخرين، سيستمر الأنبا كيرلس مقار بصفة مدير رسولي في إدارة شئون الأقباط والعمل على تنفيذ ذلك المشروع العزيز جداً على قلب البابا. أما بخصوص إعلان اسم البطريرك الأول فسيترك ذلك للظروف المناسبة وازدياد عدد الأقباط الكاثوليك."[6]

أما المؤلف روزاريو اسبوزيتو الذي ذكرناه في عدد سابق فقد علّق على الرسالة الرسولية بتجديد مقام بطريركية الإسكندرية للأقباط الكاثوليك بقوله أن عام 1895 اعتبر في نظر البابا ليون عاماً حاسماً في العمل على إسراع عودة الأقباط إلى الكنيسة الكاثوليكية واستطرد قائلاً:

" استجابة للنداءات التي وجهت إليه سواء كتابة عن طريق الرسائل أو شخصية من السلطات الدينية والمدنية لتلك الطائفة، ومدفوعاً أكثر من الوحي الإلهي الذي كان يوجه انتباهه نحو كنائس الشرق، أعاد البابا ليون تجديد مقام البطريركية الإسكندرية التي اختفت على عهد المجادلات حول طبيعة المسيح وأنشأ الهيئة الكنسية القبطية. إن الوحي الإلهي الذي يكمن وراء اهتماماته بكنائس الشرق يظهر واضحاً في التعبيرات الروحية السامية التي يفتتح بها الرسالة:" إن شئون وظيفتنا المقدسة تدفعنا إلى فهم واكتشاف المحبة الإلهية وأن نعمل على امتداد العمل الخلاصي ليسوع المسيح فادي البشر ومنشئ الكنيسة وحافظها…

هناك عنصر جديد في هذا الاهتمام من قبل البابا يحب أن يوضع في الحسبان، وهو أن البابا احتفظ لنفسه باختيار الأسماء المرشحة لاعتلاء الكراسي الثلاثة – أي كرسي إيبارشية البطريركية بالإضافة إلى كل من إيبارشيتي المنيا والأقصر – استثناءً للتقليد الشرقي القديم الذي ينص على انتخاب البطريرك من قبل الآباء المجتمعين في سينودس الأساقفة. إذ سيتم إعلان اسم البطريرك المرشح بطريقة احتفالية من قبل البابا في مجمع الكرادلة، وسيعمل البابا كذلك على إرسال الباليوم– رمز الشركة في الإيمان – إليه. وفي ختام الرسالة وبعد أن حرص ليون الثالث عشر على تأكيد الروابط المشتركة بين الكرسي الرسولي وكرسي الإسكندرية للقديس مرقس، جدّد دعوته إلى الإخوة المنفصلين مذكراً إياهم بالحقبة المزدهرة بالقداسة والعلم التي عاشتها الكنيسة المصرية أثناء اتحاد الكرسيين معاً قبل انفصالهما. وأن على الأقباط المنفصلين أن يستغلوا روح الحق هذا الزخم المتمثل في إعادة تأسيس السلطة الكنسية الكاثوليكية، ليدركوا أن الضمانة الحقيقية لميراث الكنيسة التي أسّسها مرقس وتجديد نهضتها التي عاشتها على يد آباء الإسكندرية العظام هي في اتحادهم بكرسي هامة الرسل القديس بطرس."[7]

بعد تجديد مقام بطريركية الإسكندرية للأقباط الكاثوليك وتأسيس السلطة الكنسية لها نوقشت في الجلسة الثامنة عشرة للجنة الكاردينالية للعمل على وحدة الكنائس المنفصلة مع الكنيسة الكاثوليكية المنعقدة بتاريخ 9 فبراير 1896 مشروعات تنمية وتعضيد هذه البطريركية الناشئة حيث جاء في محضرها ما يأتي: "أمر قداسته (البابا ليون) بقراءة تقرير مونسنيور سوجارو[8] عن الأقباط في مصر. جاء في التقرير أن حالة الأقباط الكاثوليك قبل تعيين أسقفاً لهم كانت مهينة بدرجة كبيرة أمام الشعب والحكومة، وأن بعض الأعيان منهم كانوا يخجلون تقريباً من إعلان انتمائهم إلى هذه الطائفة: وكانت هناك انقسامات داخلية تشكّل عثرة أمام اعتناق الكثلكة، وقد استغل البروتستانت هذه الظروف وحققوا نجاحاً كبيراً بين الأقباط الفقراء، لدرجة أنهم أنشأوا ثلاثة وثلاثين كنيسة و167 مقراً. وبعد نشر الرسالة "إلى الشرقيين" (Orientaluim) وتكريس الأنبا مقار أسقفاً على الأقباط الكاثوليك، لوحظ تحوّلاً مذهلاً في الأوضاع: فالأسقف الجديد قام في زيارته الرعوية بالتجوّل في كل أنحاء مصر، واستقبل في كل مكان بمظاهر الحب والامتنان الكبيرين، كما استقبل أيضاً من أحد الأديرة من الرهبان المنفصلين، وإن نتائج تلك الزيارة الرعوية تمثّلت في ارتداد أربعة آلاف شخص إلى الكثلكة.

وقام وفد من مختلف طبقات الأقباط الكاثوليك بالتوجّه إلى روما لتقديم الشكر لقداسة البابا على الرسالة الرسولية التي وجّهها إليهم، وبناءً عليه فقد حدثت ارتدادات أخرى إلى الكنيسة الكاثوليكية. وبتجديد مقام البطريركية فقد ازداد بشكل كبير اعتبار وكرامة الأقباط الكاثوليك؛ في نفس الوقت ابتاع الأنبا مقار مطبعة[9] حيث ينوي أن ينشر صحيفة لتوزيعها على الشعب. كما أنه يسعى جاهداً لإعداد الإكليروس بهدف تكوين كهنة نشيطين فعالين. بعد ذلك قال قداسة البابا أنه سيعلن في وقت قصير اسمي الأسقفين القبطيين وهو ينتظر فقط ورود تقرير مونسنيور كوربيللي القاصد الرسولي في مصر على ترشيحات مجمع انتشار الإيمان التي بعثها إليه. وأنه بتعيين هذين الأسقفين وإنشاء ديراً للرهبان الأقباط كما تقرر في جلسة أكتوبر، وباتخاذ إجراءات أخرى فإنه يؤمل بمعونة الله أن تأتي بنتائج سعيدة.[10]

في الجلسة التاسعة عشرة للجنة الكاردينالية المذكورة المنعقدة بتاريخ 15 مارس 1896 جاء محضرها كالتالي: "في الختام تفضل قداسة البابا وأمر بقراءة تقرير للأنبا مقار، يقول فيه أنه ابتاع حروف طباعة وأنه ينوي أن ينشر صحيفة تهدف إلى مساندة جهود الوحدة بين الكنائس، وهو لذلك يطلب مبلغ عشرة آلاف ليرة (وقد وافق قداسة البابا على إرساله له). ويضيف الأنبا مقار في تقريره أنه بصدد إنشاء دير للرهبان وهو عمل ضروري لنهضة الكنيسة. ويقول أيضاً أنه قام مؤخراً بتدشين كنيستين في حضور القنصل النمساوي وسط فرحة الشعب الكبيرة وغضب الأسقف القبطي. ويقول أيضاً أن الجاحد جاشينتو لويسون[11] قام بإلقاء محاضرة آثمة في دار الأوبرا. وأخيراً يعلن مقار عن اعتناقات جديدة للكثلكة في كل من المنيا وطنطا وأن ثلاث قرى بكاملها طلبت الانضمام إلى الكنيسة الكاثوليكية.[12]

وكما قرأنا سابقاً في محضر الجلسة الثامنة عشرة للجنة الكاردينالية للعمل على وحدة الكنائس المنفصلة مع الكنيسة الكاثوليكية عن نية البابا في إعلان اسمي الأسقفين المعينين على إيبارشيتي المنيا والأقصر. وفعلاً بعد استشارة المونسنيور كوربيللي القاصد الرسولي في مصر، وكلاً من مونسنيور سوجارو والأنبا كيرلس مقار تمّ اختيار كلاً من القس يوسف صدفاوي لإيبارشية المنيا والذي اتخذ اسم مكسيموس صدفاوي، والقس بولس قلادة لإيبارشية الأقصر والذي اتخذ اسم أغناطيوس برزي.

وقد تمّ تكريس الأسقفين في كاتدرائية الأقباط الكاثوليك الكائنة بمنطقة درب الجنينة في حي الموسكي بالقاهرة في يوم 29 مارس 1896. وقد شارك الأنبا مقار في تكريس الأسقفين كلاً من مونسنيور برنابا أكشيرليان أسقف الإسكندرية للأرمن الكاثوليك، ومونسنيور يوليوس باسيليوس قندلفت نائب رسولي على السريان الكاثوليك بمصر وأسقف يافا الفخري.   

يتبع

عن مجلة صديق الكاهن



 1  راجع Marc HABACHI, L’Eglise d’Alexandrie et sa Béatitude Kyrillos Macaire, le Caire 1921, p.17.

2 راجع  Sacra Congregazione per le Chiese Orientali, Verbali delle Conferenze patriarcali sullo stato delle Chiese orientali e delle adunanze della Commissione Cardinalizia per promuovere la riunione delle Chiese dissidenti, Tipografia Poliglotta Vaticana 1945, pp. 182-192.

3 راجع J HAJJAR, Le Vatican-la France et le Catholicisme Oriental (1878-1914), Diplomatie et Histoire de l’Eglise, Paris-Beauchesn 1979, p. 191.

4راجع كتاب الأب يوسف حجار المزكور سابقاً ص 192،191.

5راجع Acta Sanctae Sedis, vol. XXVIII, Romae 1895-1896, pp. 257-260.؛ وقد نشر الأنبا كيرلس مقار الترجمة العربية للرسالة ويمكن للقارئ مطالعتها ضمن كتاب الأنبا يوحنا كابس الذي يحمل عنوان "تاريخ حياة الأنبا كيرلس مقار بطريرك الإسكندرية للأقباط الكاثوليك 1899-1921، ص 40 وما يليها.

6  راحع De T’SERCLAES, Le Pape Léon XIII, sa vie, son action religieuse, politique et sociale, Tome III, Lille 1906, p. 109.

[7] R. Esposito, Leone XIII e L’Orinrte cristiano, studio storico sistematico. Roma 1960, pp. 337-339

8 مونسنيور فرنشيسكو سوجارو (1839-1912) كان نائباً رسولياً للسودان، ورقي إلى رئيس أساقفة لكرسي أميدا الفخري سنة 1894، وعين مستشاراً للجنة الكردينالية المذكورة أنفاً. 

9 أطلق عليها مطبعة القديس مرقس، وكان مقرها القاهرة. وكان من بين الكتب التي طبعتها كتب الأسرار (1900) والطقوس (1908)، وقام بمراجعتها الأنبا مقار نفسه. 

10 راجعSacra Congregazione delle Chiese Orientali, Verbali… p. 182.

11 Giacinto Loyson (1827-1912) أحد الرهبان الكرمليتان، كان في البداية واعظاً شهيراً، ثم ارتد إلى شيعة الكاثوليك القدماء على أثر المجمع المسكوني الفاتيكاني الأول، وأنشأ كنيسة غالليكانية منشقة لم تحرز نجاحاً يذكر، وانتهى به الأمر إلى الإلحاد ومات دون أن يتصالح مع الكنيسة.

12 راجعSacra Congregazione delle Chiese Orientali, Verbali…, pp. 225-226.