البابا ليون الثالث عشر (4) والعصر الذهبي لطائفة الأقباط الكاثوليك

استعرضنا في مقال العدد الماضي الخطوات التي تمت في سبيل إعادة إحياء الكرسي الإسكندري لطائفة الأقباط الكاثوليك، والذي كان حلم جميع أبناءها، بالإضافة إلى ما انعقد عليه من آمال لدى الكنيسة الجامعة في أن يساهم في تعجيل مسيرة وحدة الكنائس الشرقية المنفصلة مع الكنيسة الكاثوليكية.

في الحقيقة كانت ظواهر الأمور توحي بإمكانية تحقيق تلك الآمال المنعقدة في القلوب. فقد شهدت الطائفة زخماً هائلاً تمثل في إعادة تأسيس الرئاسة الكنسية مع إنشاء الإيبارشيات، بالإضافة إلى حركة إرتدادات حماسية وواعدة إلى الكنيسة الكاثوليكية، وتكثيفاً للأنشطة الإرسالية من بناء كنائس ومدارس ومستوصفات علاجية ومبادرات عديدة لأعمال الخير.

في الجلسة العشرين للجنة الكاردينالية المسئولة عن العمل على وحدة الكنائس الشرقية المنفصلة مع الكنيسة الكاثوليكية، المنعقدة بتاريخ 26 أبريل 1896، تطرق الحديث عن ردود الفعل الإيجابية داخل الطائفة القبطية الكاثوليكية على تكريس الأسقفين. ونقرأ في محضر الجلسة ما يأتي:

"في مستهل الحديث أعرب صاحب القداسة (البابا ليون الثالث عشر) عن رغبته في إثارة انتباه أصحاب الفخامة الكرادلة نحو الأقباط، الذين تجاوبوا بحماس مع المشاعر الأبوية التي أظهرت لهم. ثم أمر قداسته أن تُقرأ على الحضور أربع رسائل، اثنتان منهما لمونسنيور سوجارو، والأخريان للأنبا مقار.

في رسالتي مونسنيور سوجارو المحررتين بتاريخ 31 مارس 1896، و17 أبريل من نفس العام. أخبر المونسنيور المذكور مونسنيور أنجلي Angeli نائب رئيس مجمع انتشار الإيمان عن الانطباعات الإيجابية التي تركتها في نفوس الأقباط الكاثوليك رسامة الأسقفين الذين عينهما الحبر الأعظم، أي كل من الأنبا يوسف صدفاوي أسقف المنيا، والأنبا أغناطيوس برزي أسقف طيبة. وقد قام بمراسم سيامة الأسقفين الأنبا كيرلس مقار بمعاونة أسقف من السريان الكاثوليك، وآخر من الأرمن الكاثوليك. ويقول أن السفير النمساوي حضر هذا الاحتفال بالإضافة إلى عدد كبير من الطوائف الأخرى. وهو يأمل في أن تساعد مثل هذه الخطوات في تقدّم الكثلكة في مصر. وأضاف أن أسقف طيبة سيتم تجليسه على الكرسي الأسقفي في 21 أبريل، بينما سيكون تجليس أسقف هيرموبوليس (المنيا) في 24 أبريل. وسيتوجه هو شخصياً مع الأحبار الأقباط لحضور حفلات التجليس هذه، وستكون رؤية أربعة من الأساقفة الكاثوليك وهم يتجولون في أنحاء مصر ذات وقع طيب في نفوس المسيحيين المصريين. وأخيراً يطلب مونسنيور سوجارو أن يتعطف قداسة البابا وأن يمنح الأسقفين الجديدين في هذه المناسبة سلطة إعطاء البركة الرسولية، وهو يطمع أن تُرسل هذه المنحة البابوية للأسقفين تلغرافياً.

أما الأنبا كيرلس مقار فهو يخبر في رسالتيه قداسة البابا والكرادلة الحاضرين عن وصول مونسنيور سوجارو إلى مصر، والذي سلمه مبلغ 15 ألف فرنك، ويشكر الحبر الأعظم على جزيل محبته هذه؛ علاوة على ذلك يقول أنه قد تسلم الخطاب الذي أرسله إليه مجمع انتشار الإيمان، ويخبره فيه أنه بصدد إرسال الحروف الفرنسية والقبطية للمطبعة التي اشتراها، وبقول أنه ينتظر وصول هذه الحروف بفارغ الصبر لأنه يعول عليها كثيراً. بعد ذلك يتحدث الأنبا مقار عن احتفال سيامة الأسقفين الجديدين، ويقول أنه كان احتفالاً رائعاً ومؤثراً. ويقول أيضاً أنه تشكّل في القاهرة حزباً من أعيان الأقباط المنشقين في صالح الكثلكة، وأن هذا الحزب تشكل بشكل سري كي يستطيع أن يجذب إلى الكنيسة الكاثوليكية أكبر عدد ممكن من الشعب القبطي. وهو يأمل من جراء ذلك نتائج مثمرة لصالح وحدة الأمة القبطية مع الكنيسة الكاثوليكية.

بعد أن انتهت قراءة الرسائل تأكد قداسة البابا من مجمع انتشار الإيمان عن موعد النهائي لإرسال الحروف المطبعية، فقيل له أنه الأيام الأولى من شهر مايو. ويبدي تخوّفه من أن تعوق الأحداث السياسية الجارية بشكل ما حركة الوحدة القبطية مع الكنيسة الكاثوليكية. وفي هذا الموضوع يطلب رأي الكاردينال سكرتير الدولة. ويقول الكاردينال رامبولا سكرتير الدولة أنه لا يظن أن تحدث الشئون السياسة أي تغيير، لأن حركة الوحدة القبطية ليست في تعارض مع إنجلترا ولا مع خديوي مصر: ويقول أن معارضة الوحدة القبطية مع الكنيسة الكاثوليكية يمكن أن تأتي من جانب روسيا، ولكن روسيا ليس لها أي تأثير في مصر.

عن الانطباعات الإيجابية الناتجة عن تكريس الأسقفين الجديدين، يستشهد العلاّمة القانوني الكبير سيزوستريس سيداروس (والد البطريرك الراحل الأنبا اسطفانوس سيداروس الأول) في كتابه عن البطريركيات الشرقية في الإمبراطورية العثمانية  بخبر نقلته مجلة "Bessarione" (مجلة متخصصة في الشئون المسيحية الشرقية) عن صحيفة "Times"اللندنية كتب مراسلها في القاهرة ويقول فيه: "بالأمس كان الاحتفال بتكريس اثنين من الأساقفة الأقباط لكل من مصر العليا والوسطى على يد الأنبا مقار، وفي حضور مونسنيور سوجارو مندوباً عن البابا، وعدد كبير من الحضور، من بينهم السفير النمساوي المكلف بمراعاة مصالح طائفة الأقباط الكاثوليك، وعدد من الدبلوماسيين وقادة الطوائف المقيمين بالقاهرة. وبهذه النتيجة وبعد قطيعة استمرت أكثر من 400 عام، استعاد البابا سلطته على الكنيسة القبطية المصرية. إن هذه الخطوة لذات أهمية كبيرة للطائفة القبطية الكاثوليكية والتي لا يتعدى عدد أعضاءها العشرين ألفاً بالمقارنة بتعداد الأقباط جميعاً الذي يربوا على 600 ألف، ولكنها تحوز على إكليروس حصل على تكوين جاد ويتميز بثقافة عالية بالمقارنة بالإكليروس القبطي الأرثوذكسي الذي يغلب عليه الجهل الشديد".

وكانت خطوة إعادة الرئاسة الكنسية لطائفة الأقباط الكاثوليك قد حظيت بتعليقات عدة من جانب كثير من المعاصرين لتلك الأحداث ومن عدد من المجلات المشهورة نذكر على سبيل المثال البعض منها:

يقول الدكتور مارك حبشي في كتابه (كنيسة الإسكندرية وغبطة البطريرك كيرلس مقار): "لقد تحقق الحلم على مرأى البصر مبيناً قوة البصيرة التي تميز بها صاحب كل هذه الإنجازات. فقد قَبِلَ طلب الأقباط بعودة كرسيهم البطريركي في سنة 1896. ونحن نعاين الآن إعادة تأسيس الكرسي البطريركي الإسكندري وتعيين أسقفين آخرين، الأنبا مكسيموس صدفاوي على كرسي هيرموبوليس (المنيا)، )والأنبا أغناطيوس برزي على كرسي طيبة) "الأقصر". أما صالح ميخائيل مقار فهو يلح في مؤلفه عن ابن عمه البطريرك كيرلس مقار، على أن إعادة تأسيس الكرسي البطريركي الإسكندري وتعيين الأسقفيين يعودا إلى المجهود الكبير الذي بذله في إقناع البابا بقبول توسل الأقباط الكاثوليك بإرجاع كرسيهم البطريركي.

يشير إلى هذا الموضوع أيضاً الكاتب روزاريو اسبوزيتو الذي ذكرناه في الأعداد السابقة، حيث يذكر الرضاء الذي شعر به البابا ليون الثالث من الحماس الذي استقبل به الأقباط الكاثوليك رسامة الأسقفين صدفاوي وبرزي. ويختم تعليقه قائلاً: "علينا أن نضع في الاعتبار أن الأقباط قد وُضعوا تحت حماية إمبراطورية النمسا والمجر، كما أن مسيحيي الشرق الأوسط الأسيوي عموماً يتمتعون منذ عهد طويل بالحماية الفرنسية. وقد تم تجليس الأسقفين على مرأى من حضور مندوبي الحكومة المصرية وبقية السلطات الأخرى. في ذلك الوقت كان الأنبا مقار يسعى في عمل إصلاح ليتورجي يشهد به على مدى مشاعر الحب الذي يشعر به أساقفة وشعب الأقباط نحو ليون الثالث عشر، حيث أمر الأنبا مقار أن يذكر الكهنة اسم الحبر الأعظم في كل القداسات والاحتفالات الطقسية أولاً، وذلك استبدالاً لصيغة قديمة كان الكهنة بموجبها يذكرون اسم البطريرك، ثم يذكر اسم البابا".

مهمة الأنبا كيرلس مقار الديبلوماسية في الحبشة

إن الدوافع التي تكمن وراء هذه المهمة التي كُلف بها الأنبا كيرلس مقار من قبل البابا ليون الثالث عشر، للتوجّه إلى إثيوبيا (الحبشة) للتوسّط باسمه لدي نجاشي الحبشة منيليك الثاني للإفراج عن الأسرى الإيطاليين، الذين وقعوا في أسر الأحباش في معركة عدوة في الأول من مارس 1896، لهي دوافع مختلفة ومتعددة. وفي موضوعنا هذا سيقتصر حديثنا على الأسباب التي دفعت البابا لاختيار الأنبا مقار للقيام بهذه المهمة الدبلوماسية الخطيرة، حيث أننا لن نتطرق إلى الأسباب التي دفعت البابا ليون نفسه على التدخّل في هذا الأمر، على الرغم من العلاقات السيئة القائمة في ذلك الوقت بين الكرسي الروماني والحكومة الإيطالية بعد اجتياح قواتها لمدينة روما عاصمة الدولة البابوية سنة 1870، إذ أن حديثنا في هذه المقالات منصب على اهتمام البابا بطائفة الأقباط الكاثوليك. في رأي أحد الكتاب الإيطاليين أن البابا ليون الثالث عشر وجد أنه من غير اللائق أن يرسل إلى ملك الحبشة من قبله مندوباً إيطالياً، قد لا يجد قبولاً من الملك الحبشي، نظراً للعداوة القائمة بين البلدين في ذلك الوقت. أما إذا اختار أوروبياً للقيام بهذه المهمة فقد تعتبر إيطاليا هذه الخطوة إهانة لها، لذلك قرّر الحبر الروماني أن يرسل المدير البطريركي لطائفة الأقباط الكاثوليك.

في رأينا الشخصي أن أسباب اختيار البابا للأنبا مقار للقيام بهذه المهمة بالإضافة إلى الرأي السابق، يعود إلى الظروف التي جعلت البابا يكتشف فيها عن قرب المواهب والقدرات التي يتمتع بها مقار، فدفعته إلى أن يعينه أسقفاً على طائفة الأقباط الكاثوليك وهو مازال شاباً يافعاً يبلغ من العمر تسعة وعشرين سنة، ثم تعيينه مديراً رسولياً لبطريركية الأقباط الكاثوليك الناشئة. سبباً آخر في رأينا يعود إلى الروابط الوثيقة التي كانت تجمع بين الحبشة والكنيسة القبطية، وهي روابط دفعت الكرسي الروماني إلى اختيار قبطياً للتوسّط باسمه لدى ملك الحبشة للإفراج عن الأسرى الإيطاليين. ولم تكن هذه المرة الأولى في أن يختار الكرسي الرسولي قبطياً للقيام بمهمة في الحبشة. ففي 24 يوليو 1840 كان البابا غريغوريوس السادس عشر (1831-1846)، قد عين الأنبا تاوضروس أبو كريم النائب الرسولي على الأقباط الكاثوليك (1832-1855)، مندوباً وزائراً رسولياً على الحبشة. وإن كان هذا التكليف لم يتم عملياً نظراً لمرض وكبر سن الأنبا تاوضروس. وقبل أن نستطرد في الحديث عن مهمة الأنبا مقار في الحبشة، سنحاول في سطور مختصرة شرح الظروف التي وقعت فيها معركة عدوة بين الإيطاليين والأحباش، والتي انهزم فيها الإيطاليون هزيمة ساحقة وسقط منهم آلاف القتلى والجرحى بالإضافة إلى ألفي أسير.

كان القرن التاسع عشر هو القرن الذي شهد تكثيف حركات الاستعمار التي قامت بها الدول الأوروبية لدول أفريقيا وأسيا. فقد كانت دول هذه القارات مقسمة بين دولتي إنجلترا وفرنسا، بالإضافة إلى دول أخرى كإسبانيا والبرتغال وبلجيكا. وعندما اكتمل توحيد المملكة الإيطالية بالاستيلاء على روما مقر الدولة البابوية في سنة 1870، أرادت الحكومة الملكية الإيطالية أن تحذو حذو الدول الأوروبية الاستعمارية وأن تحظى ببعض المستعمرات، نظراً لافتقار إيطاليا للمواد الخام وتزايد عدد سكانها بطريقة رهيبة في ذلك الوقت. وقامت إيطاليا بدراسة وافية للمناطق التي يمكن ضمها إليها، واستقرت أخيراً على اختيار منطقة القرن الإفريقي لإنشاء أولى مستعمراتها. وكانت عدة بعثات استكشافية قد أرسلت إلى هذه المنطقة للتعرّف على مدى إمكانية تأسيس هذه المستعمرات. وقد استطاع المكتشف الإيطالي سابيتو من منطقة البيومنتى في إيطاليا أن يشتري من أحد سلاطين الدناكيل وهي قبائل كانت تقطن بجوار ساحل البحر الأحمر منطقة عصب التي تقع في مواجهة مضيق باب المندب على الساحل الإثيوبي في سنة 1870 بمبلغ 6 آلاف قطعة ذهبية. وهناك تم رفع العلم الإيطالي كأول مستعمرة إيطالية في منطقة القرن الإفريقي. ومن هذه المنطقة بدأت إيطاليا في الاستيلاء على المناطق المجاورة لتوسيع رقعة ممتلكاتها في أراضي الحبشة والصومال. وأنشأت على الساحل الإثيوبي المستعمرة التي تُعرف حالياً باسم إريتريا. وعندما اقتربت القوات الإيطالية المحتلة من منطقة تيجري الحبشية أثارت غضب الأحباش، فبدأت المناوشات بينهم. فقام الرأس علولا أحد حكام منطقة التيجري على رأس عشرة آلاف مقاتل بمهاجمة القوات الإيطالية المتمركزة في منطقة دوجالي وأفناها عن آخرها.

حاولت إيطاليا أن تنتقم لهزيمتها في دوجالى فأرسلت تعزيزات عسكرية، مما كان سبباً في اندلاع حرباً شاملة بين الإيطاليين والإثيوبيين. انتهت بهزيمة منكرة لإيطاليا في موقعة عدوة في أول مارس 1896، وسقوط الآلاف من القتلى والجرحى. بالإضافة إلى نحو ألفي أسير. وبسبب التخبط الذي شاب سياسة الحكومة الإيطالية التي أصابها الشلل من جراء التيارات السياسية المتعارضة، ما بين المؤيدين لسياسة تصالح مع إثيوبيا وآخرين مطالبين بالانتقام من الهزيمة وإعطاء الأحباش درساً لا ينسوه. لذلك تأخر الوصول إلى حل لمشكلة الأسرى، مما دعا ممثلين عن الشعب الإيطالي إلى التوجّه إلى البابا ليون طالبين منه التدخل لدى نجاشي الأحباش كي يعتق الأسرى ويسمح لهم بالعودة إلى وطنهم. بالإضافة إلى ذلك وعلى حسب تأكيدات لبعض المطلعين على الأمور فإن رئيس الحكومة الإيطالية نفسه التمس من البابا أن يتدخل لحل المسألة ولكن بطريقة سرية خوفاً من التيارات الماسونية والعلمانية القوية المعارضة للكنيسة في ذلك الوقت. لذلك وبناءً على طلبهم قرر البابا التدخل وكلف الأنبا كيرلس مقار بالتوجّه إلى الحبشة.

تفاصيل مهمة الأنبا مقار في الحبشة

في 19 مايو 1896 تلقى الأنبا مقار رسالة بتاريخ 13 مايو من الكاردينال ماريانو رامبوللا ديل تيندارMariano Rampolla del Tindaro )سكرتير دولة الفاتيكان( تتضمن تعليمات الكرسي الرسولي في كيفية إتمام المهمة وتسليم رسالة من البابا ليون إلى النجاشي منيليك الثاني، بالإضافة إلى توصيل بعض المعونات الغذائية مرسلة إلى الأسرى من أهاليهم. ومن جانبه فقد قام الكاردينال سكرتير الدولة ببعض الاتصالات مع الحكومة الفرنسية كي ترسل بتعليماتها إلى السلطات الفرنسية في جيبوتي كي تسهل مهمة مقار أثناء عبوره المستعمرة الفرنسية للوصول إلى الحبشة.

في 28 مايو غادر الأنبا مقار القاهرة إلى ميناء بور سعيد، مصطحباً معه الأب لويس سلامة سكرتيره الشخصي. وفي اليوم التالي استقلا إحدى بواخر شركة الملاحة الفرنسية، حيث وصلت إلى ميناء جيبوتي في 5 يونيو. في 8 يونيو كتب مقار رسالة إلى الملك الحبشي كي يستأذنه في أن يسمح له بالدخول إلى إثيوبيا لإتمام مهمته وتسليمه رسالة البابا.

وبدأ مقار أثناء انتظاره في جيبوتي لتصريح الملك منيليك له بدخول الحبشة في إعداد قافلة من الجمال والبغال وبعض الرجال الحمالين، وتأمين هذه القافلة ببعض الحرس. وقد انضمت إلى قافلة الأنبا مقار قافلة أخرى على رأسها الأب البولندي فارسوفيتز راي تحمل بعض الأغذية والملابس واحتياجات أخرى للأسرى، مرسلة من جمعية السيدات الرومانيات. استمر انتظار القافلتين حوالي شهراً حتى وصلهما أخيراً تصريح النجاشي بالدخول إلى الحبشة. ولكن في 5 يوليو وبعد أن تحركت القافلتان وعلى بعد كيلومترات قليلة من جيبوتي توفي الأب البولندي المذكور فارسوفييتز راي مع أحد معاونيه بسبب إصابتهما بضربة شمس. وبعد دفنهما، واصلت القوافل المسير باتجاه الأراضي الإثيوبية حيث وصلت إلى العاصمة أديس أبابا في 11 أغسطس بعد معاناة وأخطار شديدة. وفي اليوم التالي كان موعد اللقاء الأول مع النجاشي. وفي هذا اللقاء سلم مقار الملك الإثيوبي منيليك الثاني رسالة البابا ليون الثالث عشر له. وفيها يناشد البابا الملك المسيحي حفيد الملك داود باسم المحبة والرحمة المسيحيتين أن يطلق سراح الأسرى كي يعودوا إلى ذويهم. وحسب الأنبا مقار وبعض المعاصرين لتلك الأحداث فإن الملك الإثيوبي تأثر جداً من رسالة البابا وقرر إطلاق سراح جميع الأسرى عدا القادة والضباط. وأعطيت الأوامر بالاستعداد لإطلاق سراحهم في 12 سبتمبر 1896.

كانت الأمور تسير في ذلك الاتجاه حتى الخامس من سبتمبر عندما قامت البحرية الإيطالية بتوقيف سفينة هولندية كانت تحمل شحنة أسلحة إلى الأحباش. وعندما أبلغ الملك الإثيوبي بهذا العمل العدائي من جانب الإيطاليين، غضب جداً وألغى قرار إطلاق سراح الأسرى. لتفسير تلك الخطوة العدائية من جانب إيطاليا في الوقت التي كانت الاستعدادات لإطلاق الأسرى في مراحلها الأخيرة ينبغي الرجوع إلى الساحة الإيطالية نفسها. فقد استقبلت التيارات المعادية للكنيسة نبأ تدخل البابا لصالح الأسرى باستنكار شديد، واتهمته بأنه يعمل على إضعاف موقف الحكومة الإيطالية أمام الشعب كي يظهرها بموقف العاجز عن إيجاد حل لمشكلة الأسرى، في الوقت نفسه اتهمت هذه التيارات الحكومة الإيطالية بالضعف والسلبية والخيانة لأنها سمحت للبابا بالتدخل في أمر لا يخصه.

كانت هذه الانتقادات اللاذعة سبباً في تغيير موقف الحكومة الإيطالية من تحرك البابا وبدأت كما يؤكد بعض العالمين ببواطن الأمور في خلق العقبات أمام نجاح هذا التحرّك، لذلك كلفت بحريتها بإيقاف سفينة الأسلحة الهولندية إلى الحبشية. وقد حققت هذه الخطوة الهدف المرجو منها، إذ اعتبر الملك الإثيوبي ذلك الموقف الإيطالي عملاً عدائياً تجاه بلاده في الوقت الذي أبدى فيه هو علامات الصلح بالموافقة على طلب البابا بإطلاق سراح الأسرى، مما أدى به إلى تحرير خطاب للبابا يعتذر له فيه عن عدم قدرته على تلبية طلبه في الوقت الحالي، متهماً الحكومة الإيطالية بعدم وجود نية صادقة لديها لحل المشكلات القائمة بينها وبين بلاده. وقد مدح النجاشي في رسالته إلى البابا شخصية الأنبا مقار قائلاً بأنه لم يكن في وسع قداسته اختيار شخصية لبقة وفصيحة كشخصية الأنبا مقار. وسلم النجاشي منيليك رسالته إلى البابا إلى الأنبا مقار لدى استقباله الأخير له، ومنحه هدية منه عبارة عن صليب مصنوع حسب الطريقة الحبشية كتذكار لمهمته في إثيوبيا. وهكذا انتهت مهمة الأنبا مقار بهذه النتيجة غير المرضية للبابا وله. أما عن الأسرى فقد أُجريت مباحثات ثنائية بين إيطاليا وإثيوبيا انتهت بعقد اتفاقية صلح بينهما في شهر أكتوبر سنة 1896، وبالشروط التي أملاها الملك الحبشي، حيث اضطرت إيطاليا إلى سحب قواتها إلى حدود المستعمرة الإيطالية الإريترية، وأُطلق سراح الأسرى الإيطاليين بعد أن دفعت إيطاليا ثمناً غالياً.

ترك الأنبا مقار إثيوبيا في طريقه إلى روما التي وصلها في 14 أكتوبر من نفس العام، وهناك حرر تقريراً للبابا ضمنه كل التفاصيل الخاصة بمهمته والمراحل التي مرّت بها، والاستقبال الحافل الذي خصّه به الملك الإثيوبي بصفته مندوباً عن قداسة البابا، والذي قال عنه منيليك بأنه أبو جميع المؤمنين المسيحيين قاطبة. وموافقة النجاشي على رغبة البابا في إطلاق سراح الأسرى الإيطاليين وتحديد موعد الثاني عشر من سبتمبر لتنفيذ هذا القرار، لولا خطوة البحرية الإيطالية التي استولت على سفينة شحن الأسلحة الهولندية المتوجهة إلى الحبشة مما دعا الملك الحبشي إلى إرجاء إطلاق سراح الأسرى إلى ظروف أخرى مناسبة. وقد وعد النجاشي البابا في رسالته إليه بأنه لن يألوا جهداً في العناية بالأسرى والسهر عليهم وحمايتهم.

التعليقات المختلفة على مهمة الأنبا مقار في الحبشة

أثار تدخل البابا في مشكلة الأسرى الإيطاليين لدى الأحباش وتكليفه للأنبا مقار للقيام بها، والنتيجة التي آلت إليها هذه المهمة، العديد من التعليقات المختلفة: منها ما هو متشفٍ في فشلها، ومنها ما هو آسف على عدم نجاحها. فالبعض اعتبر أن إيطاليا هي التي خسرت كثيراً عندما عملت على إفشال مهمة الأنبا مقار، إذ أنها كانت ستحصل على أسراها دون أن يكلفها ذلك شيئاً، لأن الملك الإثيوبي احتراماً لرغبة البابا قرر إطلاق سراح الأسرى عدا القادة والضباط دون أن يطلب شيئاً، بينما سلمت إيطاليا في اتفاقية الصلح التي وقعتها بكل الشروط القاسية التي وضعها الملك الإثيوبي. البعض الآخر اعتبر أن إيطاليا قامت بعمل يحفظ لها كرامتها أمام بقية الدول. وأنها لو كانت سمحت بنجاح محاولة البابا للتدخّل في هذا الأمر، لكانت خسرت كثيراً أمام الرأي العام الداخلي والخارجي، ولأعطت الفرصة للبابا كي يتفاخر أمام الإيطاليين ويقدم نفسه كمنقذ وحيد في مقابل السياسيين الإيطاليين ضعيفي الحيلة.

أما عن الموقف من الأنبا كيرلس مقار فقد اختلفت التعليقات أيضاً بشأنه: فالبعض مدح قوة شخصيته وجرأته وطاعته الكاملة للبابا، حيث قام بمهمة شاقة محفوفة بالأخطار في قضية ليس له فيها ناقة ولا جمل، وبالرغم من ذلك لم يتوانى عن أن يلبي طلب البابا، ويوظّف كل قدراته لإنجاح هذه المهمة، والدليل على ذلك إشادة الملك الإثيوبي منيليك لشخصيته في الرسالة التي بعث بها إلى البابا قائلاً بأنه لم يكن بوسعه إرسال شخص آخر أفضل من مقار في لباقته وجاذبيته.

البعض الآخر وكان غالبيتهم من رجال الكنيسة والذين شعروا بالغيرة من مقار اعتبروه شخصية وصولية تسعي إلى الشهرة وإثبات الذات، وأنه هو سبب الفشل الذي انتهت إليه المهمة.

عموماً فقد أحدثت هذه المهمة الإنسانية والتي كانت على رأس اهتمامات وسائل الإعلام لمدة تقرب من الستة شهور العديد من الإيجابيات، فقد بدأت وسائل الإعلام المختلفة في التحدث عن الأنبا مقار وعن الأقباط في مصر عموماً وطائفة الأقباط الكاثوليك خاصة، وعن الآمال التي يعقدها البابا ليون على هذا القطيع الصغير في موضوع وحدة الأقباط مع الكنيسة الكاثوليكية. وامتدح الكثير منها موقف البابا الأبوي من قضية الأسرى وانتقد موقف الحكومة الإيطالية التي عملت على إفشال تلك المهمة الدبلوماسية، وأن فشل المهمة لا يتحمل وزره الأنبا مقار وإنما هو بسبب النيات السيئة لدى الحكومة الإيطالية والمشاعر المعادية التي تحملها التيارات الماسّونية والعلمانية الملحدة تجاه الكنيسة والبابا.

بعد عودة الأنبا مقار إلى أرض الوطن قادماً من روما في شهر نوفمبر 1896، قام بنشر رسالة رعوية بتاريخ 24 نوفمبر 1896، ضمنها تفاصيل المهمة التي كلف بها من قبل قداسة البابا، وهي مهمة أوضحت بجلاء ثقة البابا في شخصه وتقديره العميق لطائفة الأقباط الكاثوليك التي يمثلها.  وفي السادس عشر من شهر ديسمبر من نفس العام، ألقى الأنبا مقار بمحاضرة باللغة الفرنسية بعنوان "رحلتي إلى الحبشة" أمام الجمعية الجغرافية الخديوية والتي كان أحد أعضاءها، وقامت الجمعية بنشر هذه المحاضرة في مجلتها، وكان الأنبا مقار قد ألقى محاضرات عديدة أمام هذه الجمعية التي نشرت من جانبها كل هذه المحاضرات في المجلة التي كانت تصدرها.

وقامت مجلة "Bessarione" المذكورة سابقاً بالتعليق على الرسالة الرعوية التي أصدرها الأنبا مقار بتاريخ 24 نوفمبر 1896 وعلى المحاضرة التي ألقاها أمام الجمعية الجغرافية الخديوية، ونقلت خبراً مفاده أن لجنة الشباب بمجلس أبرشية ميلانو قررت إهداء الأنبا مقار صليباً ذهبياً تقديراً له على المجهود الذي بذله في موضوع قضية الأسرى الإيطاليين، وقد قبل الأنبا مقار هذا الإهداء ولكنه طلب أن يرسل المبلغ المخصص لصنع الصليب إليه ليتم الصرف منه على الإكليروس القبطي الفقير.

يتبع