البابا ليون الثالث عشر (6) والعصر الذهبي لطائفة الأقباط الكاثوليك

عزيزي القارئ استعرضنا في مقال العدد الماضي عدد من المشروعات والأعمال التي أنجزها الأنبا كيرلس مقار للنهوض بشأن طائفة الأقباط الكاثوليك وتقوية بنيانها، وذلك بتشجيع وتعضيد مادي ومعنوي من البابا ليون الثالث عشر. كتشييد معهد إكليريكي بطريركي لتكوين الإكليروس القبطي الكاثوليكي في مدينة طهطا من أعمال محافظة سوهاج بصعيد مصر. بناء كاتدرائية القيامة والمقر البطريركي بالإسكندرية. مشروعات لمساعدة الكهنة مادياً وبناء كنائس جديدة. إعادة طبع الكتب الطقسية. إصلاح التقويم القبطي.

 

6- المجمع الإسكندري الأول (1898)

 ومن الأعمال الأخرى الجليلة التي قام بها الأنبا مقار بتعضيد من البابا ليون الثالث عشر هي عقد المجمع الإسكندري الأول لطائفة ألأقباط الكاثوليك في سنة 1898.

وكان هذا المجمع المحلي ضرورياً لتنظيم الكنيسة القبطية الكاثوليكية في جميع أطرها ومؤسساتها، وذلك من خلال دراسة النظم واللوائح والقوانين التي يجب أن تنظم حياة كل من الإكليروس والشعب، وتوضيح كافة الأمور العقائدية والتعليمية والطقسية. أبدى الأحبار الأقباط رغبتهم للبابا ليون في عقد مجمع محلي لتنظيم شئون كنيستهم، وذلك في رسالة بعث بها الأنبا كيرلس مقار إلى البابا ليون بتاريخ 26 أكتوبر 1897، فرد عليه الكاردينال ماريانو رامبوللا (Mariano Rampolla) سكرتير دولة الفاتيكان (بمثابة رئيس وزراء) برسالة بتاريخ 2 نوفمبر 1897 تضمنت موافقة البابا على طلب عقد المجمع وتكليف المونسنيور غاودنسيو بونفيلي (Gaudenzio Bonfigli) القاصد الرسولي في مصر برئاسة المجمع.

في 9 نوفمبر صدر قرار موقع من الكاردينال رامبوللا المذكور سابقاً بموافقة البابا على تعيين المونسنيور فرنشيسكو سوغارو (Francesco Sogaro كمستشار للمجمع.

في جلسة مجمع انتشار الإيمان المنعقدة بتاريخ 10 نوفمبر تمت طرح موضوع المجمع تعيين المونسنيور بونفيلي لرئاسته؛ وفي جلسة 12 نوفمبر منح بونفيلي كل السلطات الضرورية لتسيير أعمال المجمع المذكور، بالإضافة إلى تعيين المونسنيور فرنشيسكو سوغارو كمستشار له. وصدر قرار مجمع انتشار الإيمان بشأن انعقاد المجمع في 30 نوفمبر 1897. وبمناسبة افتتاح أعمال المجمع في 18 يناير 1898 أصدر الأنبا كيرلس مقار النائب البطريركي منشوراً  رعوياً في 3 يناير بشأن الدعوة لعقده. وموافقة قداسة البابا ليون على عقده؛ وأوضح أن هدف المجمع هو دراسة كل الموضوعات التي تخصّ الإيمان والآداب الكنسية والأسرار المقدسة وكل ما يتعلق بخير المؤمنين، وحقوق الرعاة وواجباتهم نحو رعاياهم.

في 18 يناير 1898 وكان يوافق عيد الغطاس حسب التقويم اليولياني القديم تم افتتاح أعمال المجمع الإسكندري الأول. وبدأ الافتتاح بركب حافل من المقر البطريركي بحي درب الجنينة بالموسكي إلى الكنيسة البطريركية المجاورة له يتقدمه الصليب، وضم الركب رئيس المجمع ومستشاره والأحبار الأقباط الثلاثة وآخرين من الطوائف الكاثوليكية، والجميع متسربلون بملابسهم الطقسية، بالإضافة إلى الرهبانيات المختلفة وفي معيتهم كل من سفير إمبراطورية النمسا والمجر لدي مصر "كارل دي هايدلير اغريغ" (Carl de Heidler Egregg)، والقنصل النمساوي في القاهرة "كارل سونّيلايتينير" Carl Sonneleithner، يليهم أعيان الطائفة القبطية الكاثوليكية وآخرين.

لدى وصول الموكب إلى الكنيسة البطريركية اتخذ رئيس المجمع مكانه على يمين المذبح، وجلس عن يمينه المونسنيور فرنشيسكو سوغارو وعن يساره الخور أسقف إفرام أبيض السرياني بصفة وكيل للرئيس. أما الأنبا مقار النائب البطريركي فجلس في المكان المُعَدْ له على يسار المذبح، وجلس عن يمينه الأنبا مكسيموس صدفاوي أسقف هيرموبوليس (المنيا) وعن يساره الأنبا أغناطيوس برزي أسقف طيبة (الأقصر)، أما بقية الحضور فاتخذ كل منهم المكان المحدد له.

في بداية الجلسة احتفل الأنبا مقار بالذبيحة الإلهية التي اختتمت بتسبحة للروح القدس. بعد ذلك قرأ الأب أثناسيوس سبع الليل باللغة اللاتينية الوثائق البابوية بعقد المجمع وتكليف المونسنيور غاودنسيو بونفيلي برئاسته، والمونسنيور فرنشيسكو سوغارو مستشاره، وتبعه الخور أسقف إفرام أبيض السرياني بقراءة ترجمة هذه الوثائق باللغة العربية. بعد ذلك ألقى المونسنيور بونفيلي كلمة الافتتاح، وتبعه حديث الأنبا مقار.

في ختام الجلسة الافتتاحية للمجمع الإسكندري الأول بعث كل من المونسنيور بونفيلي والأنبا مقار ببرقية إلى البابا ليون الثالث عشر يحيطونه علماً بافتتاح المجمع ويطلبون بركته الرسولية. ورد عليهم البابا ببرقية مماثلة وقعها نيابة عنه الكاردينال "ليدوكوفسكي" (Ledochowschi) رئيس مجمع انتشار الإيمان، يؤكد فيها بركته لآباء المجمع متمنياً لهم كل النجاح لمجد الله وخير الكنيسة.

بخصوص تفاصيل أعمال المجمع نشرت مجلة (Bessarione) التي أتينا على ذكرها عدة مرات في مقالاتنا السابقة تقريراً للمونسنيور فرنشيسكو سوجارو جاء فيه: "إن جدول الأعمال تضمن ثلاث موضوعات: عن الإيمان– عن الرئاسة الكنسية المقدسة– عن الطقوس والعبادات الإلهية. وحتى تنجز الأعمال بسرعة وانتظام تم تشكيل ثلاث لجان على رأس كل منها أسقف قبطي؛ بالإضافة إلى انتخاب ستة لاهوتيين لاتينيين (اثنين من اليسوعيين، واثنين من الفرنسيسكان واثنين من الآباء الأفريكان العاملين في الدلتا (شمال مصر) ومقابلهم ستة من اللاهوتيين الأقباط. وفي جلسات تلك اللجان التي تتابعت حتى 3 يونيو يوم الاختتام الرسمي للمجمع تمت مناقشة الموضوعات السابقة وتركز الحديث حول النقاط التالية:

1- فيما يتعلق بالإيمان. تم التركيز على النقاط التي تفصل بين الأقباط المنشقين والكنيسة الكاثوليكية (وذلك بناءً على توصية مجمع انتشار الإيمان)؛ وهي: أولوية الحبر الروماني، التعليم حول الطبيعتين في المسيح، انبثاق الروح القدس…إلخ.

2- فيما يتعلق بالرئاسة الكنسية والإكليروس تركزت الآراء حول وجوب تكوين كهنة صالحين، مفعمين بالحماس والغيرة، ومثقفين ثقافة عالية حتى يتغلبون على الصعوبات التي يضعها المبشرون البروتستانت والإكليروس القبطي المنشق في طريق الوحدة مع الكنيسة الكاثوليكية، خاصة أثناء المجادلات التي تنشاً أثناء الزيارات الرعوية للمؤمنين البسطاء، وعليه فالكاهن القبطي الكاثوليكي يجب أن يتحلى بفصاحة اللسان التي تمكنه من إفحام المجادلين له. وبعد أن تقرر الأخذ بجميع قرارات المجمع التريدنتيني. تركز الحديث حول عزوبية الكهنة التي يجب أن تؤخذ في الاعتبار بدءا من هذا الوقت فيما عدا بعض الحالات الاستثنائية. فيما يتعلق باختيار الأساقفة تم تبني الأسلوب المعمول به في الكنيسة المارونية، فهي حق للبطريرك المجتمع مع مجلس أساقفته. أما فيما يخص انتخاب البطريرك فقد حفظ هذا الحق للحبر الأعظم، الذي يختار واحداً من ثلاثة أسماء يتفق عليها مجلس الأساقفة، ويشترط ألا تقل سنه عن أربعين عاماً.

3- فيما يتعلق بالطقوس والعبادات قرر الأحبار الأقباط أن يتم الأخذ بكل ما جاء في تقاليد آباءهم الأقدمين، ولهذا الغرض طلبوا مساعدة الكرسي الرسولي في إتمام طباعة الكتب الطقسية التالية:

قطمارس الأناجيل والرسائل، صلوات الساعات أو الأجبية، دليل وقراءات أسبوع الآلام؛ وهي كلها مطبوعات في غاية الأهمية. – ويختم مونسنيور سوغارو تقريره – بأن جميع قرارات المجمع الإسكندري تم إرسالها إلى مجمع انتشار الإيمان ليتم فحصها من قبل اللجان المختصة قبل اعتمادها رسمياً من الكرسي الرسولي…"

عن الجلسة الختامية للمجمع الإسكندري الأول نشرت مجلة "الإرساليات الكاثوليكية" (Les Missions Catholiques) مقالاً بهذا الخصوص جاء في أخره ما يأتي: "بعد هذه الأحاديث الرائعة التي ملكت حواس السامعين – يقصد الأحاديث الختامية لكل من المونسنيور بونفيلي رئيس المجمع والأنبا كيرلس مقار- قام الأنبا مقار في احتفال مهيب بتكريس الأمة القبطية الكاثوليكية كلها لقلب يسوع الأقدس. أخيراً منح المونسنيور بونفيلي البركة الرسولية لكل الحاضرين، وأثناء ذلك أنشد الخورس باللغة العربية بعض الطلبات لنوال النعمة، بعد ذلك اصطف الموكب واتجه في مسيرة نحو الدار البطريركية. وقد امتلأ الفضوليون بالإعجاب لكونهم عاشوا تلك المراسم الجديدة بالنسبة لهم؛ أما المسيحيون الجادون فقد كانوا على قناعة بأنهم كانوا شهوداً على أحداث عظيمة عاشتها كنيستهم وأمتهم القبطية. آملين من خلال صلواتنا أن تتم النهضة التامة والكاملة لكنيسة القديس مرقس، تلك النهضة التي نشهد بشائرها الآن أمام عيوننا".

تعليقات مختلفة حول المجمع الإسكندري الأول

اعتبر العديد من الدارسين والمختصين المجمع الإسكندري الأول 1898 بمثابة مرحلة هامة في مسيرة النهضة التنظيمية للكنيسة القبطية الكاثوليكية، لأنه من خلال المجمع تم تنظيم الهيكل المؤسسي وتطويره كي يستطيع القيام بواجبه فيما يخص الأمور الروحية والمادية والتثقيفية للرعية القبطية الكاثوليكية، بحيث تستكمل تلك الكنيسة مسيرها وهي واثقة من نفسها ومن تعضيد الكرسي الرسولي لها.

وكما ذكرنا سابقاً في معرض حديثنا عن المجمع اهتمام المجلات المتخصصة الشهيرة في ذلك الوقت بالتطور الحاصل للكنيسة القبطية الكاثوليكية أثناء حبرية البابا ليون الثالث عشر، فإن المجمع الإسكندري الأول قد نال درجة كبيرة من ذلك الاهتمام، فقد تسابقت تلك الدوريات العلمية في التعليق عليه وتناوله بالدراسة والنقد؛ سنحاول في هذا المقام أن نقوم بتغطية سريعة لبعض ما قيل في شأن المجمع الإسكندري في بعض تلك الدوريات المطبوعة.

بالإضافة إلى المجلات التي أتينا على ذكرها سابقاً، نذكر أيضاَ مجلة(Katholischen Missionen) الألمانية وهي مجلة متخصصة في مجال الإرساليات الكاثوليكية العاملة في المناطق غير المسيحية وغير الكاثوليكية، فقد نشرت مقالاً بحجم كبير تناولت فيه الهدف من المجمع وما تم في الجلسة الافتتاحية له، والمشاركون فيه، والموضوعات المختلفة التي تتناولها الدراسة والبحث. والآمال المنعقدة عليه خاصة من جانب البابا ليون الثالث عشر، والتأثير الذي أحدثه في داخل الأمة القبطية عامة والكاثوليكية منها بنوع خاص .

وكانت مجلة الإرساليات الكاثوليكية الفرنسية المذكورة سابقاً قد نشرت مقالاً مطولاً بعنوان (Lettre d`un Missionaire) غطّت فيه بطريقة مستفيضة جميع أحداث المجمع.

هذا الموضوع قد تناوله بالتعليق والتحليل المونسنيور (De T`Serclaes) في مؤلفه عن البابا ليون الثالث عشر وختم حديث بقوله: "أن هذا المجمع سيبقى الأساس الثابت للكنيسة القبطية الكاثوليكية الذي سيقوي من حيويتها وتطورها.

الموضوع نفسه تناوله المحامي والسفير القبطي الكاثوليكي الشهير سيزوستريس سيداوس والد مثلث الرحمات البطريرك اسطفانوس الأول بطريرك الأقباط الكاثوليك، وذلك في مؤلفه القانوني عن البطريركيات والبطاركة في الإمبراطورية العثمانية وخاصة في مصر. فهو بعد أن سرد أحداث إعادة إحياء الكرسي الإسكندري في 1896 وتأسيس الإيبارشيات الجديدة تناول موضوع المجمع خاصة من الناحية القانونية. وانطلاقاً من الأبحاث في أرشيف وزارة الخارجية الفرنسية تعرض الأب جوزيف حجار لنفس الموضوع حيث قال: بأن القنصل العام الفرنسي في القاهرة قد أحاط وزير الخارجية الفرنسي "هانوتو"(Hanotaux)، بكل ما دار في المجمع. وقال أيضاً أن الأساقفة الأقباط الكاثوليك الثلاثة كانوا يأملون في أن يديروا هم بأنفسهم أعمال المجمع، وأن الأنبا مقار حاول جاهداً منذ نحو شهر أن يقنع مونسنيور بونفيلي بأن يكون مستشاراً للمجمع، ولكن الكرسي الرسولي رفض هذه التوجهات وكلف بونفيلي برئاسة المجمع وعينت إلى جانبه مونسنيور سوغارو ليعاونه بصفة مستشار للمجمع. وقال أيضاً بأن على الرغم من أن اللجان المختصة المشكلة لدراسة الموضوعات المختلفة كان يرأس كل منها أسقف قبطي كاثوليكي إلا أن أعضاءها كانوا مقسمون بالتساوي بين المرسلين اللاتين من يسوعيين وفرنسيسكان وآباء أفريكان وبين الآباء الأقباط. ويضيف الأب حجار بأن التأثير اللاتيني كان واضحاً في أعمال المجمع إلى الدرجة التي عده فيها أحد المستشرقين بأنه كان بمثابة مجمع لإحدى الإيبارشيات اللاتيني. ويختم حجار تعليقه بقوله ا، الأنبا مقار قام بتكريس الطائفة القبطية الكاثوليكية إلى قلب يسوع الأقدس… وأنه أرسل إلى روما جميع أعمال المجمع كي يتم فحصها قبل أن يعتمدها البابا رسمياً في 12 أبريل 1899، وتم نشرها في العام التالي أي سنة 1900.

هذا الانتقاد الذي وجهه الأب جوزيف حجار حول التأثير اللاتيني في المجمع شاركه فيه الأنبا أليكسندرس إسكندر أسقف أبرشية أسيوط للأقباط الكاثوليك الذي عاب في مؤلفه عن الكنيسة القبطية عدم الأمانة نحو التقاليد القبطية العريقة، وأن هذا يرجع في رأيه إلى نوعية التكوين التي حظي بها الإكليروس القبطي الكاثوليكي، الذي كان متأثراً بالتفكير اللاتيني نتيجة دراسته في الخارج. واتهم المجمع بأنه أدخل عوائد وتقاليد مخالفة للروح القبطية الصميمة، وأن المجمع في رأيه لم يخدم في شيء الكنيسة القبطية الكاثوليكية.

عموماً ورغم التحفظات حول التأثير اللاتيني في المجمع الإسكندري الأول إلا أنه يبقى علامة حضارية وتنظيمية مضيئة في مسيرة الكنيسة القبطية الكاثوليكية نحو الاستقرار والتقدم والتطور.

للمقال بقية

 

عن مجلة صديق الكاهن