البابا ليون الثالث عشر (7) والعصر الذهبي لطائفة الأقباط الكاثوليك

الأب الدكتور/ يعقوب شحاتة

عزيزي القارئ استعرضنا معاً في سلسلة مقالاتنا هذه الدور المحوري، الذي قام به البابا ليون الثالث عشر في حياة طائفة الأقباط الكاثوليك في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. وركّزنا في العدد الثالث على الخطوات التي اتخذها البابا المذكور لإرجاع الرئاسة الكاثوليكية للكرسي الإسكندري، والتي اختتمت بإصدار الوثيقة البابوية التي تحمل عنوان "بطريركية الأقباط الكاثوليك" (De Patriarchatu Alexandrino Coptorum) وتتضمن قرار إعادة تأسيس بطريركية الأقباط الكاثوليك في 26 نوفمبر 1895، وتمتد ولايتها على كل الأقباط الكاثوليك في سائر الكرازة المرقسية. وكان قرار إعادة التأسيس يتمثل في إنشاء إيبارشيتين أخريين باسم هيرموبوليس وطيبة، إلى جانب إيبارشية القاهرة والإسكندرية التي تمتد من القاهرة والجيزة وتغطي الوجه البحري كله. أما إيبارشية هيرموبوليس أو المنيا فحدودها تبدأ بمحافظة بنى سويف الحالية، وتشمل محافظة الفيوم وتنتهي حتى حدود مدينة ملوي التي تتبع حالياً محافظة المنيا. بينما تبدأ ولاية إيبارشية طيبة أو الأقصر من مدينة ملوي المذكورة وتمتد حتى حدود مصر الجنوبية. ولم يتضمن القرار تحديد اسم الشخصية التي ستعتلي كرسي هذه البطريركية، إنما تقرّر أن يديرها الأنبا كيرلس مقار بصفته مديراً رسولياً.

مع نهاية شهر فبراير 1896 أصدر البابا ليون قراراً بتعيين الأب يوسف صدفاوي أسقفاً على إيبارشية هيرموبوليس أو المنيا باسم الأنبا مكسيموس صدفاوي، والأب بولس قلادة أسقفاً على إيبارشية طيبة أو الأقصر ومقرها في مدينة طهطا من أعمال محافظة سوهاج الحالية باسم الأنبا أغناطيوس برزي. وتم تكريس الأسقفين في 29 مارس 1896 في كاتدرائية الأقباط الكاثوليك بمنطقة درب الجنينة في حي الموسكي بالقاهرة على يد الأنبا كيرلس مقار بمعاونة أسقف سرياني وآخر أرمني.

إن موضوع عدم تحديد الشخصية التي ستتولى كرسي البطريركية الناشئة قد أثار العديد من التساؤلات والتعليقات. وفي محاولة لإعطاء إجابة عن هذه التساؤلات ذكر المونسنيور De T\’Serclaes في مؤلفه عن البابا ليون الثالث عشر تفسيراً لهذا التأخير في إعلان اسم البطريرك، أن البابا وضع في حسبانه معارضة بعض أعضاء اللجنة الكاردينالية المهتمة بالعمل على وحدة الكنائس الشرقية المنفصلة مع الكنيسة الكاثوليكية، وأن اختيار البطريرك سيبقى مرهونا للظروف، وبالأخص مرهوناً بازدياد عدد الأقباط الكاثوليك.[1]

أما الأب جوزيف حجار فيذكر بطريقة غير مباشرة أن التأخير في إعلان اسم البطريرك، أخذ في الحسبان موقف فرنسا ومعارضتها الشديدة لوضع الرهبان اليسوعيين العاملين في مصر، تحت ولاية البطريرك القبطي الكاثوليكي، الذي يخضع لحماية إمبراطورية النمسا والمجر؛ ويستطرد الأب حجار قائلاً: " في 9 نوفمبر، أبلغ السفير الفرنسيDe Behaine  الوزير Berthelot على أثر مقابلة مع الكاردينال رامبوللا أن " أن تأسيس بطريركية قبطية هي خطوة وشيكة، ولكن هذه المسؤلية الرفيعة المستوى ستبقى لبعض الوقت شاغرة، وأنه في البداية سيدير الأنبا كيرلس مقار هذه المسؤلية بصفة نائب بطريركي أو مدير رسولي". ولكن بلغ إلى علم الوزير الفرنسي من القاهرة أن الأعيان الأقباط يعولون بإلحاح على قرب إعلان اسم البطريرك. لذلك وبعجالة شديدة عملت الحكومة الفرنسية على أن تتدخل بطريقة رسمية قبل إصدار القرار البابوي بخصوص إعادة تأسيس الكرسي الإسكندري للأقباط الكاثوليك. وعليه في 10 نوفمبر حذر السفير الفرنسي لدي الكرسي الرسولي De Behaine فيما يتعلق باليسوعيين "أنه يجب وبكل الطرق أن يوضع في الحسبان أن اليسوعيين وممتلكاتهم سيبقون تحت الحماية الفرنسية."[2]

إن التخوف الذي أبدته فرنسا نحو الخطر، الذي قد يمس حقوق الحماية الفرنسية للرهبان اليسوعيين، أو رهبان آخرين وراهبات ينتمون إلى مؤسسات رهبانية فرنسية عاملة في مصر، من جراء إعادة تأسيس الكرسي البطريركي الإسكندري، واحتمال خضوعهم لولايته، قد أمكن تهدئته من خلال تأكيد الكرسي الرسولي على عدم التفكير نهائياً في وضع الرهبان اليسوعيين أو أي رهبان أو راهبات أو مؤسسات فرنسية تحت ولاية البطريرك القبطي الكاثوليكي. وأن أية صعوبات قد تنشأ بسبب الممتلكات التي يديرها اليسوعيون بينهم وبين البطريركية القبطية سيتم حلها بمقتضي القوانين الكنسية القائمة، وذلك للمحافظة على الحقوق الشرعية للحماية الفرنسية.[3]

بعد مرور حوالي أربع سنوات على إصدار الوثيقة البابوية بإعادة تأسيس الكرسي الإسكندري للأقباط الكاثوليك، كانت أحداث كثيرة قد تغيرت: فقد نما عدد الأقباط الكاثوليك بصورة ملحوظة، وبنيت كنائس كثيرة وأماكن للعبادة، وتم تنفيذ العديد من المشروعات التي أتينا على ذكرها في العددين الماضيين، ومشروعات آخرها جار تنفيذها، بالإضافة إلى عقد المجمع الإسكندري الأول في سنة 1898، الذي وضع الأسسس والأطر والقوانين الضرورية لتنظيم الكنيسة القبطية الكاثوليكية. لذلك وجد البابا ليون أن الوقت قد حان لإعلان اسم البطريرك، على الرغم من تحفّظ الحكومة الفرنسية التي كانت تؤيد رأي البطريرك الملكي الكاثوليكي غريغوريوي يوسف، بعدم جدوى إعادة تأسيس الكرسي الإسكندري.

فبعد اعتماد أعمال المجمع الإسكندري من قبل البابا في 23 أبريل 1899، ونشرها رسمياً في أول مايو من نفس العام، لم يكن هناك مبررات لاستمرار تأخير إعلان الأنبا كيرلس مقار بطريركاً. وكان موضوع تعيين مقار بطريركاً قد تم طرحه للنقاش في الجلسة السادسة والعشرين للجنة الكاردينالية، للعمل على وحدة الكنائس الشرقية المنفصلة مع الكنيسة الكاثوليكية، المنعقدة بتاريخ 22 مايو 1899 والتي جاء في محضرها ما يأتي: "إن الحبر الأعظم أعلن أنه قد وصله إلتماساً من الأساقفة والإكليروس القبطي بخصوص تعيين البطريرك. وهو يرغب أن يعرف إذا كانت الظروف الراهنة تسمح بتلبية هذا الإلتماس، وهنا سلم البابا هذا الإلتماس إلى فخامة الكاردينال ڤانّوتيللي ليقرأه. في هذا الإلتماس ينتهز الإكليروس القبطي مناسبة عيد ميلاد قداسة البابا ليبعثوا إليه بأصدق التهاني ويقدمون خضوعهم التام للكرسي الرسولي، ويلتمسون أن يعين البطريرك الإسكندري للإقباط الكاثوليك. ويقولون أن هذا التعيين ينتظره الأقباط الكاثوليك بفارغ الصبر، بالإضافة إلى الأقباط المنشقين، إذ تتحدث صحف هؤلاء الأقباط عن الإنهيار والحالة التعسة التي تمر بها الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، وترى هذه الصحف من جانبها نظراً لهذه الحالة حتمية انتصار الكثلكة. وأن الاستمرار في تأخير إعلان اسم البطريرك سيسبب ضرراً بالغاً، وأن الوقت أصبح مناسباً لهذا التعيين. وكان قد تم في وقت قريب تعيين بطريرك ملكي جديد وآخر سريانياً؛ وأنه لمن الصالح أن تؤخذ هذه الخطوة تجاه الأقباط أيضاً… وبعد الانتهاء من قراءة الالتماس، قال الأب الأقدس أنه يعول كثيراً على هذا الاستعداد، الذي يبديه الأقباط للوحدة مع الكنيسة الكاثوليكية، وأن لديه ثقة كبيره في حماس اليسوعيين، والذي يمكن بنتج عنه حصاد كثير. ويقول أن رئيس الرهبانية اليسوعية قد أخذ هذا الالتزام بجدية شديدة، وأنه (أي البابا) سيعمل على مساعدته وسيوفر كل الوسائل الممكنة لتعضيده. ويعود قداسة البابا إلى موضوع التماس الإكليروس القبطي يعلن على الملأ إن إمبراطور النمسا بكرم شديد بعث بمبلغ عشرين ألف فرنك لبناء الكاتدرائية البطريركية في الإسكندرية، وأنه هو الآخر (أي الإمبراطور) وصله التماس مماثل من الأقباط. وهنا يبدي البابا رغبته في التعرف على آراء الآباء الكرادلة، إذا كان يمكن تلبية رغبة الأقباط وتعيين بطريرك لهم…"[4]

وبعد أن استطلع آراء جميع الكرادلة حول الضرورة الملّحة لتعيين بطريرك الأقباط الكاثوليك، وأن الوقت قد حان لهذا التعيين، بالإضافة إلى ضرورة مواجهة انتشار البروتستانتية بين الأقباط. لذلك فقد تقرر ألا يقبل أي تدخل من الدول التي لها حق الحماية (فرنسا والنمسا) في الأمور الكنسية. في هذا الصدد كان هناك تحفّظ من النمسا حول تولي الأنبا مقار كرسي البطريركية، وذلك يعود في رأينا إلى ميل مقار نحو فرنسا نظراً لثقافته الفرنسية.

إن اختيار الأنبا كيرلس مقار بطريركاً، لم يجد هذه المرة معارضة تذكر من جانب أي كاردينال، إذ لم يكن هناك شخص آخر مناسب لهذا المنصب، بالإضافة إلى أن مقار قد أدار البطريركية بصفة مدير رسولي لمدة أربع سنوات بكل غيرة ونشاط وهمة. لذلك فالاختيار الرسمي لمقار كبطريرك تم اتخاذه في الاجتماع السري لمجلس الكرادلة المنعقد في 19 يونيو 1899. وفي هذا الاجتماع نفسه اعتمد البابا الكنيسة الكاتدرائية بالإسكندرية، كرسياً رسمياً للأنبا مقار، الذي تمت ترقيته إلى منصب البطريرك.[5]

تجليس الأنبا مقار على الكرسي البطريركي وتسليمه عصا الرعاية

إن تفاصيل الاحتفال بتجليس الأنبا كيرلس مقار على الكرسي الإسكندري، وتسليمه الصولجان أو عصا الرعاية، سنوردها ليس من مصدر كاثوليكي، ولكن لطرافة الأمر من مصدر قبطي أرثوذكسي؛ فقد نشرت مجلة الشهباء وهي كما جاء في عنوانها (مجلة تبحث عن كل شئ يصدر مرتين في الشهر مؤقتاً) تفاصيل الحفل تحت عنوان (الاحتفال بتسليم الصولجان البطريركي لغبطته) وجاء فيه:

"في الساعة الثامنة من صباح الجمعة الواقع في 12 يوليو (تموز)، بادرت الناس على اختلاف نحلها ومذاهبها، وافدة إلى كنيسة الأقباط الكاثوليك (الدير الصغير)، وبمقدمتهم المونسنيور بونفيلي القاصد الرسولي ومعيته الكريمة، وجلس على الكرسي الأسقفي، وجلس على جانبيه اثنان من قسس الكنيسة بحلتهما الكهنوتية، ثم جئ بالحلة الكهنوتية لنيافته فاتشح بها، وقد وفد على الأثر أكثر كهنة الطوائف الكاثوليكية، ثم حضرة المسيو كالن برج مستشار سفارة الدولة النمسوية حامية هذه الكنيسة، ورجال القنصلية بملابسهم الرسمية، وبعد قليل وصل سعادتلو محمد ماهر باشا محافظ العاصمة بلباسه العادي نائباً عن الحكومة الخديوية، ثم أعيان الطائفة ووجوهها منهم حضرات يوسف بك سليمان رئيس رئيس النيابة العمومية، ومقار بك عبد الشهيد، وطوبيا بك كامل، وكامل بك كامل، والخواجة نصرالله العريف، وغيرهم ممن لم يبق في الذاكرة ذكر أسمائهم الكريمة، ثم جئ بغبطة الأنبا كيرلس إلى أول الكنيسة من جهة الباب العمومي وهو بلباسه العادي، وعلى يمينه الأنبا أغناطيوس برزي أسقف تيبا والصعيد، وعلى بساره نيافة المطران مكسيموس صدفاوي اسقف المنيا بلباسهما الكهنوتي، وكل منهم حامل العصا الرعوية وأمامهم كهنة هذه الطائفة بالحلل الكهنوتية والشمامسة يرتلون وهكذا صلوا الصلوات المعتادة ثم ساروا بغبطته إلى أمام العرش الملوكي، وهناك تلا أحد الآباء الأمر البابوي الصادر بتعيينه بطريركاً على طائفة القبط الكاثوليك وهذا نصه: "بسلطة الله القادر على كل شئ والقديسين الرسولين بطرس وبولس وسلطتنا نرقي ونرفع الأخ المكرم كيرلس مقار من مطرنية (يقصد مطرانية) قيصرية بانياس إلى كرسي بطريركية الإسكندرية على القبط حائزاً كل الامتيازات التي لسائر البطاركة ولا سيما الباليون المقدسة ونقرره وننادي به بطريركاً وراعياً على المؤمنين من الأقباط" وبعد نهاية تلاوة هذا الأمر نودي باسمه بطريركاً على الكرسي الإسكندري وسائر البلاد المصرية والنوبة والحبشة وجميع الكرازة المرقسية ثم ألبسوه الحلة ووضع على رأسه التاج وأخذ بيمينه الصليب المقدس وبيساره العصا الرعائية، ثم تقدم الأسقفان المتقدم ذكرهما وأخذا غبطته وأوقفاه أمام العرش البطريركي الموضوع في الجهة اليسرى من الكنيسة ثم، أخذا في الصلوات والتضرعات وكانا في كل هنيهة يصعدانه درجة من درجات العرش حتى انتهى إليه فجلس وجلس سيادة الأسقفين من عن يمينه ويساره بين أنغام الأرغول والتراتيل الروحية، ثم تقدما مع نيافة القاصد الرسولي إلى تقبيله ووليهم (يقصد وتبعهم) القسس والشمامسة والشعب بتفبيل يديه وقرعت الأجراس فرحاً وابتهاجاً ثم ابتدى (يقصد ابتدأ) بالقداس الإلهي وبعد تلاوة الإنجيل علا (يقصد اعتلى) المنبر خطيباً سيادة الأنبا أغناطيوي ففاه بكلام كالدرر أو أبهى وأبهر شرح فيه شرح جلي حالة الطائفة، ولمح عن ترجمة غبطته وذكر شيئاً من جلائل مآثره الغراء (وقد طبع هذا الخطاب وتوزع) ثم تمم القداس وفي نهايته عاد غبطته إلى البطركخانة حيث استقبل جموع المهنئين بما فطر عليه من الوداعة واللطف وكرم الأخلاق وتلى في حضرته خطب وقصائد التهاني في اللغات العربية والافرنسية (يقصد الفرنسية) والقبطية، وكان البشر بالغاً حد الإعجاز وغاية المنتهى في أفئدة الجميع. و(الشهباء) تبادر بتهنئة غبطته بهذا المنصب الرفيع بل بتهنئة الطائفة بغبطة بطريركها الجليل وتسأل الله  أن يؤازره ويعضده في كلما فيه مجد الله والكنيسة ونفع المؤمنين."[6]

تأثير تعيين الأنبا مقار بطريركاً على الكسي الإسكندري

بالطبع لم يحظَ تعيين الأنبا مقار بطريركاً على رضا وقبول الفرنسيين، والذين عارضوا منذ البداية إعادة تأسيس البطريركية الإسكندرية. وقد أثارت خطوة البابا ليون بتعيين مقار انتقادات الديبلوماسية الفرنسية. وفي هذا الصدد يعلّق الأب جوزيف حجار في مؤلفه السابق ذكره منطلقاً من أبحاثه في أرشيف وزارة الخارجية الفرنسية ويقول: "إن معارضة الدبلوماسية الفرنسية تستند بالإضافة إلى ذلك على رأي البطريرك غريغوريوس يوسف بعدم ضرورة هذا التأسيس داخل الساحة الكنسية في مصر. هل كانت هذه إذاً الأسباب التي دفعت البابا إلى عدم الإلتفات إليها؟ يبدو أنه قد وقع تحت تأثير الآمال البراقة. لكن حسب ملاحظات أحد الشهود الخبراء في الشؤون المصرية، المسيو جوجوردان (Gogordan) القنصل العام لفرنسا في القاهرة، أن إعادة تأسيس البطريركية القبطية ليست إلا مرحلة في مخطط موجه نحو الحكومة النمساوية بهدف تقوية ودعم حمايتها الدينية للأقباط الكاثوليك…"[7]

وعن هذا التعيين يكتب الدكتور مارك حبشي في مؤلفه عن البطريرك كيرلس مقار قائلاً: "أخيراً في عام 1899 وبالتحديد يوم 19 يونيو، كان لنا الحظ في أن نحيا تلك الساعات النادرة التي تتيحها العناية الإلهية، في بعض الأحيان، للإنسانية. لقد استطاع الفاتح المنتصر (يقصد الأنبا مقار) أن يحقق مخططه وها هوذا يجلس على عرش القديس مرقس. تحية لك أيها اليوم المبارك، العزيز على قلوبنا! تحية لك يأرض مصر المباركة العزيزة، إنك تستعيدين اليوم مجد الأزمان الذهبية، شاهدة أمينة على عظمة أجدادنا! تحية لك أيها العرش العظيم للابنة البكر للكنيسة. وتحية أخيرة إليك أنت يا خليفة أثناسيوس وكيرلس."[8]

بعد تجليس الأنبا مقار على الكرسي الإسكندري، بعث في 4 سبتمبر سنة 1899 ببرقية إلى الكاردينال رئيس مجمع انتشار الإيمان، يعلمه فيها بوصوله إلى روما أثناء الشهر الجاري، بصحبة أسقف المنيا وثلاثة من الكهنة وبعض أعيان طائفة ألأقباط الكاثوليك، ويبدي رغبته في رؤية البابا ليون الثالث عشر، ليشكره على قراره بإعادة تأسيس البطريركية القبطية الكاثوليكية.[9]

إن تفاصيل هذه الزيارة التي قام بها البطريرك مقار، بصحبة الوفد القبطي إلى روما قد نشرتها مجلة الأسد المرقسي، في عددها الثاني في شهر ديسمبر سنة 1899. ونظراً لطول المقال لن نستطيع أن نورده، لكننا سنتوقف عند اللفتة الكريمة عندما سمح قداسة البابا ليون الثالث عشر للوفد ولأسرة بوغوص باشا غالي عميد الطائفة، بأن يزوروا القصر البابوي واستقبلهم في حديقته الخاصة وجلس معهم بعض الوقت، وهي لفتة استثنائية غير معهودة في عرف البروتوكول المعمول به في دولة الفاتيكان، وتمثّل هذه اللفتة الإعجاب والتقدير الذين كان البابا يشعر بهما تجاه الأقباط الكاثوليك.

في 26 ديسمبر 1899 بعث القاصد الرسولي في مصر المونسنيور غاودنسيو بونفيلي رسالة إلى رئيس مجمع انتشار الإيمان يبلغه فيها بأنه قام بتسليم الباليوم رمز الشركة في الإيمان مع الكنيسة الكاثوليكية إلى البطريرك مقار، وحضر شخصياً مراسم ارتداء البطريرك لهذا الباليوم حسب الترتيب اللاتيني، نظراً إلى أنه لا يوجد في الطقس القبطي مراسيم مشابهة.

وقد نشرت مجلة الأسد المرقسي في عددها الرابع بتاريخ 8 يناير 1900 تفاصيل ذلك الحفل. وتخبرنا وثائق أرشيف مجمع الكنائس الشرقية أن البطريرك الجديد قد حلف اليمين وحرّر وثيقة الاعتراف بالإيمان الكاثوليكي أمام كل من المونسنيور كوربيللي والأنبا مكسيموس صدفاوي أسقف المنيا، والأنبا أغناطيوس برزي أسقف طيبة الأقصر.

في 22 ديسمبر 1899، أصدر البطريرك كيرلس مقار أولى رسائله الرعوية بصفته الجديدة.

بعد تعيين البطريرك وتجليسه بدأت الإجراءات الرسمية لدى الحكومة الخديوية المصرية للاعتراف به بصفته البطريرك. وكانت الأمور قد تغيرت، فلم يكن من الضروري اللجوء إلى الباب العالي لدى السلطان العثماني للحصول على الاعتماد الرسمي. فقد أصبح يكفي التوجّه إلى الحكومة المصرية للحصول على خطاب الاعتماد. وقد تولى السفير النمساوي بالقاهرة كارل دي هايدلر إغريغ إجراء المباحثات مع وزير الخارجية المصري في ذلك الوقت بطرس باشا غالي في هذا الشأن. وبعد مداولات مستفيضة وبتدخّل من اللورد كرومر المندوب السامي البريطاني، صدر القرار الرسمي للحكومة الخديوية المصرية، موقعاً من الخديوي عباس حلمي الثاني بتاريخ 29 يناير 1900، باعتماد الأنبا كيرلس مقار بطريركاً على الطائفة القبطية الكاثوليكية، ونشر هذا القرار في جريدة الوقائع الرسمية بتاريخ 10 فبراير 1900.

عن مجلة صديق الكاهن



[1] De T\’SERCLAES, Le Pape Léon XIII, sa vie, son action religieuse, politique et social, Tome III, Lille 1906, p. 109.

[2]  HAJJAR, J., Le Vatican-la France et le catholicisme oriental (1878-1914). Diplomatie et histoire de l\’Eglise, Paris 1979, p. 191

3 راجع نفس المرجع السابق للأب جوزيف حجار ص 192.

[4] S. Congregazione per la Chiesa Orientale, Verbali delle conferenze patriarcali sullo stato delle Chiese orientali e delle adunanze della Commissione cardinalizia per promuovere la riunione delle chiese dissidenti, Tipografia poliglotta Vaticana – 1945.

[5]  Bessarione, anno III, vol. V, nn. 35-36, maggio –giugno, 1900, p. 574.

6 راجع مجلة الشهباء (مجلة تبحث عن كل شئ تصدر مرتين في الشهر مؤقتاً)، العدد ال 15 وال 16، السنة الأولى، مصر القاهرة أغسطس (آب) سنة 1899، ص 253- 255.

[7] HAJJAR, J., Le Vatican-la France et le catholicisme oriental (1878-1914). Diplomatie et histoire de l\’Eglise, Paris 1979, p. 195.

[8] Marc HABACHI, L\’Eglise d\’Alexandrie et sa Béatitude le Patriarche Kyrillos Macaire, le Caire 1921, p. 17.

9  راجع أرشيف مجمع الكنائس الشرقية، سجل رقم 4، ملف 4، وثيقة رقم 10206.