البابا ليون الثالث عشر (8) والعصر الذهبي لطائفة الأقباط الكاثوليك

(الثامنة والأخيرة)

عزيزي القارئ وصلنا معاً إلى المحطة الأخيرة في مسيرة العطاء والتشجيع والرعاية التي اختصها البابا ليون الثالث عشر طائفة الأقباط الكاثوليك. فبعد أن رسخّت الطائفة أقدامها وبلورت شخصيتها وأصبح لها رئاستها الكنسية، وقوانينها ولوائحها ومحاكمها، ورعاياها التي أخذت في الانتشار بشكل مذهل في جميع أنحاء القطر المصري خاصة في أقاليم الصعيد. وبعد أن أصبح لها بطريركها وأساقفتها. تعرّضت هذه المسيرة للعطب والجمود والتوقف مع بدايات القرن العشرين. إذ توفي رائد هذه النهضة القبطية الكاثوليكية ومعضدها الأول البابا ليون الثالث عشر.

توفي البابا في 20 يوليو سنة  1903 عن اثنين وتسعين عاماً، وسيظل هذا اليوم قائماً في ذاكرة كل قبطي كاثوليكي لا ينمحي. فقد جاء خبر وفاة البابا بمثابة الصاعقة التي حلّت على رأس البطريرك كيرلس مقار، إذ فُقد ليس فقط المعضّد والمساند والمشجع، بل فُقد أيضاً الأب الروحي والمرشد والمعلم، ولم يُنظر إلى وفاة ليون الثالث عشر كخسارة لطائفة الأقباط الكاثوليك فقط ولكنه عدها خسارة شخصية له.

إن الكثير من المؤرخين والدارسين لتاريخ هذه الطائفة اعتبروا وفاة ليون الثالث عشر بمثابة حد فاصل بين عهدين متميزين في تاريخ كنيسة الأقباط الكاثوليك. فمن المعروف أن الفترة التي تلت وفاة هذا البابا العظيم كانت من أحلك وأصعب الفترات التي مرّت بها الطائفة. فقد بدأت الانقسامات والصراعات الداخلية تطفو على السطح، وتعرّض البطريرك مقار لمؤامرات متوالية ووشايات مُغرضة أدّت في النهاية إلى إقالته في سنة 1908 أي بعد خمس سنوات فقط من وفاة البابا ليون، وتعيين مطران المنيا مكسيموس صدفاوي مديراً رسولياً للبطريركية، مما أدى إلى نشوب ما يُشبه الحرب الأهلية داخل الطائفة وانقسامات شديدة وأحزاب متصارعة أدّت إلى وقف مسيرة النهضة التي بدأها البابا الراحل لمدة تزيد عن 40 عاماً.

وساعد على الانحدار الذي أصاب هذه الطائفة أن البابا الجديد بيوس العاشر (1903 – 1914) لم يكن متحمساً كثيراً للمسألة الشرقية كسلفه الراحل. فقد شغلته أموراً كثيرة في العالم الأوروبي كمخاطر الحداثة أو التقدّم على المشاعر الدينية، إذ كان من التيار المحافظ التقليدي المعارض لما يمكن أن يسببه التقدّم والحداثة على مكانة الدين في القلوب، بالإضافة إلى العلاقات المتوترة بين الكنيسة وبعض النظم العلمانية كفرنسا.

في يوم الجمعة الموافق 31 يوليو 1903، أقيمت صلاة جناز على روح البابا الراحل في كاتدرائية القاهرة، وفي هذا الجناز ألقى البطريرك مقار خطبة تأبينية في ذكرى ليون الثالث عشر تحدّث فيها طويلاً عن الدور المحوري الذي قام به البابا والأفضال التي تدين بها كل كنائس الشرق وخاصة كنيسة الأقباط الكاثوليك نحو شخصه ويستطرد مقار في حديثه التأبيني قائلاً:

"بلا ريب فإن ليون الثالث عشر قد فعل الكثير لأجل قضايا البشرية كلها؛ ولكنه فعل أكثر لأجل صالح الكاثوليك عموماً. ولكن ماذا أقول فيما قام به لصالح كنيسة الإسكندرية؟ لقد وجدها في بداية حبريته محرومة من راعي لها، تعيش في حالة من التدهور لا مثيل لها، ليس فقط من بهائها القديم ولكن أيضاً لسقوطها في حالة مذرية من التعاسة وسوء الحظ. لقد سبّب هذا المشهد الأليم حزناً شديداً في قلبه الأبوي، فأخذ على عاتقه أن يعيد للملكة كل بهاء مجدها. أمر أولاً بأن يُقام معهداً إكليريكياً في مدينة القاهرة لتكوين الإكليروس القبطي الكاثوليكي، وحاول بكل جهده أن يقيل أعظم كراسي المشرق من عثرته.

في سنة 1895 ألقى بنظره حول شخصنا الحقير وكلّفنا بقيادة كنيسة آباءنا. وفي نفس السنة أصدر رسالته الرعوية التي تحمل عنوان "إلى الأقباط" والتي ركّز فيها على روابط القربى التي تجمع بين كنيسة الإسكندرية وكنيسة روما، وبعد أن أتى على ذكر أمجاد كرسينا البطريركي، ومدرسة الإسكندرية اللاهوتية، والتراث الرهباني الذي ظهر بيننا، يكتب مشدّداً على مشاعره الصادقة "إننا لمتأثرون جداً ونشعر بضرورة أن نعبر لكم عن عظيم تقديرنا نحوكم جميعاً يا كل من تنتمون إلى الطقس القبطي خاصة المنفصلون عنّا؛ نحن نرغب بحرارة أن تتحدوا جميعكم في أحشاء يسوع المسيح. وتأكدوا أن الأمل من هذه الرغبة الطيبة هو أن نناديكم بأخوة وأبناء."

في نفس هذه السنة والتي لم تمضِ إلا وهو يعيد تأسيس بطريركية الإسكندرية، معلناً بطريقة واضحة" أنه يخص الأمة القبطية من بين كل الأمم الأخرى بمحبة خاصة وأنه سيوجه كل عنايته حتى تستعيد مجدها وعظمتها."

في سنة 1896 عيّن أخوينا الأسقفين اللذين يدبران اليوم بكل حكمة كنائس مصر الوسطى والعليا (يقصد كل من الأسقف مكسيموس صدفاوي أسقف المنيا، والأسقف أغناطيوس برزي أسقف كرسي طيبة).

في سنة 1897 أهدى إلى الكنيسة القبطية المعهد الإكليريكي الوطني في مدينة طهطا. في سنة 1898 انعقد بأمره المجمع البطريركي (المعروف بالمجمع الإسكندري الأول) بهدف تثبيت الرئاسة الكنسية المصرية. في سنة 1899 اعتمد أعمال هذا المجمع ورقّى شخصنا الحقير إلى الرتبة البطريركية. في سنة 1900 ساهم بقوة في إتمام كاتدرائيتنا في موقع المعبد القيصري في الإسكندرية، واتخذ كل التدابير الفعّالة ليؤمّن مستقبل الأبرشيات والمعهد الإكليريكي. نحن أيها الأخوة الأجلاء والأبناء الأحباء ندين له بكل شيء. ندين له إعادة تأسيس كنيسة آباءنا، ندين له قيامة أمجادنا الغابرة؛ ندين له بالمكانة المرموقة التي نحتلها بين الشعوب المسيحية؛ ندين له بمستقبل أكثر إشراقاً…

المؤلف روزاريو اسبوزيتز (Rosario Esposito) علّق على هذه الخطبة التأبينية قائلاً:

"تعبير آخر عن البنوة الصادقة هو ذلك الحديث التأبيني للحبر الأعظم حامي الأقباط الذي ألقاه البطريرك مقار في مناسبة الجناز الذي أقيم على روح البابا في كاتدرائية القاهرة في 13 يوليو."[1]

إن هذا التغيير الذي طرأ على مسيرة طائفة الأقباط الكاثوليك بموت البابا ليون الثالث عشر شدّد عليه كثير من المؤلفين والكتّاب:

يلّح المؤلف تاوفيلوس متى وهو من أعضاء حزب البطريرك في كتابه عن روما والإسكندرية على أن بداية المصاعب للطائفة والبطريرك مقار هو سنة 1903، إذ يكتب في صورة حوار بينه وبين الشيطان ويقول:

"س – في أي حقبة بالضبط بدأت حملتك ضد بطريرك كنيستي؟

 ج – عفواً أنا لم أوجّه حملة ضد شخص البطريرك، ولكن ضد كنيسة الإسكندرية التي أحياها البابا ليون الثالث عشر، واعتقد أن التأثير الناتج عن استقالة البطريرك قد أثبت لكم أن هذه كانت منيتي وأن الأشخاص لا يعنون لي شيئاً؛ إن هذه الحملة بدأت في سنة 1903 بعد أن تمت الإعدادات اللازمة. لقد اخترت هذه السنة لأنني كنت أعرف أن الشخصين اللذين يحميان كنيسة الإسكندرية واللذين يعرفان جيداً كل نشاطاتها سيموتان في نفس السنة، الأول في روما والثاني في الإسكندرية (يقصد كل من البابا ليون وبوغوص باشا غالي عميد الطائفة).[2]

ويشارك المؤلف صالح ميخائيل مقار ابن عم البطريرك في مؤلفه عن الأنبا كيرلس مقار نفس الرأي السابق ويضيف بدلاً من بوغوص باشا غالي المونسنيور جاودنسيو بونفيلي.[3]

يشارك هذا الرأي أيضاً الأنبا أليكسندرس إسكندر أسقف أسيوط، حيث يقول أنه (أي الأنبا مقار) بعد موت البابا ليون الثالث عشر تعرّض للهجوم.[4]

الأنبا يوحنا كابس مقتنع هو الآخر بهذا الرأي وإن كان قد أخطأ في تاريخ موت البابا ليون حيث ذكر أنه سنة 1904[5] .

يذكر هذا الرأي أيضاً الأب جوزيف حجار فيقول:

"أتت بعد ذلك المصاعب المقدّرة لهذه الكنيسة الشابة أثناء حبرية البابا بيوس العاشر. فعلى أثر موت البابا، تمزق حجاب الأوهام الكبيرة واضعاً الرئاسة البطريركية الجديدة والمرسلين المساعدين لها أمام الحقائق القاسية."[6]

ويقاسم الأب موريس مرتان (Maurice Martin) هذه الآراء أيضاً بخصوص أن سنة 1903 هي بداية المصاعب التي عانت منها طائفة الأقباط الكاثوليك ولكن دون أن يتحدّث عن البابا.[7]

وإلى لقاء في موضوع آخر

عن مجلة صديق الكاهن

 




[1] R, ESPOSITO., Leone XIII e l’oriente cristiano, studio storico sistematico, Roma 1960, p. 347.

[2] T. MATTA, Rome et Alexandrie. Ou les Coptes Catholiques après la demission du Patriarche, Alexandrie 1910, p. 32.

3 صالح ميخائيل مقار، الصفحة الخالدة. ترجمة حياة مثلث الرحمات الأنبا كيرلس مقار، القاهرة 1922، ص 27.

4 ألكسندرس إسكندر (الأسقف)، تاريخ الكنيسة القبطية، جـ2، القاهرة 1962، ص 95.

5 يوحنا كابس (الأسقف)، تاريخ حياة الأنبا كيرلس مقار بطريرك الإسكندرية للأقباط الكاثوليك 1899- 1921، القاهرة 1979، ص 125.

[6] J, HAJJAR, Le Vatican – la France et le catholicisme oriental (1878 – 1914). Diplomatie et histoire de l’Eglise, Paria 1979, p. 434. 

[7] M, MARTAIN, Les Coptes catholiques (1880-1920), In “Proche Orient Chrétiens”, Revue d’Etudes et d’Information, Tome XI, Année 1990, p. 50.