صفحات مجهولة في تاريخ طائفة الأقباط الكاثوليك

الإحياء الأول للكرسي الإسكندري 1824

 

 

في مقالاتنا السابقة عن الدور الذي لعبه البابا ليون الثالث عشر في نهضة طائفة الأقباط الكاثوليك، كنا قد استعرضنا الأحداث والخطوات التي أدّت إلى إحياء الكرسي الإسكندري للطائفة المذكورة. وأتينا في معرض حديثنا عن هذا الموضوع في مقالنا الثالث الوارد في عدد أبريل سنة 2005 ص 134 من هذه المجلة "صديق الكاهن"، عن قرار سابق بإحياء الكرسي الإسكندري للأقباط الكاثوليك، أصدره بابا آخر باسم ليون هو ليون الثاني عشر (1823-1929) في 15 أغسطس 1824. ما هو الإطار التاريخي الذي اتُخذ أثناءه هذا القرار؟ ما هي دوافعه، ما هي مراحل تنفيذه؟ ما هي المعوقات التي وقفت في طريق تنفيذه؟ عن هذه الأسئلة سنحاول في مقالنا هذا أن نجد إجابات عليها.

تدور الأحداث في عهد الأنبا مكسيموس جويد النائب الرسولي على طائفة الأقباط الكاثوليك، الذي خلف النائب الرسولي متى الرقيطي بعد موته في 21 يوليو 1821، وكان عمر مكسيموس جويد آنذاك ثلاثة وأربعين عاماً.

كان الأب متى الرقيطى قد سعى جاهداً في تطوير طائفة الأقباط الكاثوليك، وأن يحصل لها على اعتراف السلطات العثمانية ووالي مصر محمد علي باشا الكبير بها. وبالفعل فقد حاز عدد من رجالها على مكانة كبيرة ومنهم: المعلم غالي وأبناؤه وأخوه فرنسيس وغيرهم، الذين كانوا موضع ثقة الوالي المذكور، مكانة كانت مصدر حسد لخصومهم.

للأسف في الشهور الأخيرة من حياة متى الرقيطي، حدثت بعض الأمور السلبية، والتي كان على خليفته مكسيموس جويد أن يعالج نتائجها السلبية. فقد كان هناك جدل بين الإكليروس القبطي شارك فيه الرقيطي نفسه حول قرار مجمع انتشار الإيمان بروما بتعيين الأب تاوضروس (تيودوروس) أبو كريم مساعداً لمتى الرقيطي مع حق خلافته كنائب رسولي على الطائفة. كان الأب متى ومعه عدد كبير من كهنة الطائفة يفضّلون مكسيموس جويد، وأفصح عن رغبته هذه لمجمع انتشار الإيمان، الذي لم يجد في النهاية إلا الرضوخ وتعيين مكسيموس جويد مكان أبو كريم.

في بداية عهد مكسيموس جويد كان عدد أفراد الطائفة يربو على حوالي 2500 مؤمن تتركّز غالبيتهم في رعايا: القاهرة، فرشوط، جرجا، أخميم وطهطا، بالإضافة إلى أعداد قليلة في مناطق الإسكندرية، رشيد، دمياط وبني سويف. كانت غالبية عائلات الطائفة تعيش في حالة من الفقر المدقع، إذ كان غالبية الرجال من المزارعين الذين يعملون في حقول الأغنياء بأجر، والقليلون منهم يعملون في حرف التجارة، ونسج الحرير، والصباغة، وصياغ، والبعض كتّاب في دواوين الحكومة. وكان كهنة الأقباط الكاثوليك الذين عددهم يتراوح ما بين عشرة وخمسة عشر، يحصلون على إعانة شهرية من مجمع انتشار الإيمان بروما، ومساعدات من قبل الرهبان الفرنسيسكان من طائفة المجددين Riformati، حيث كانوا يصلّون في كنائس هؤلاء الرهبان.

المشكلة الكبرى التي كانت تؤرق مكسيموس جويد، هي موضوع زواج المعلم فرنسيس غالي أخ المعلم غالي الشهير، من ابنة خاله قطورة ابنة منقورة، وكان هذا الزواج لا يحظى بموافقة العائلة. المشكلة أن فرنسيس أقام معها قبل انعقاد الزواج (هناك احتمال أن يكون فرنسيس قد عقد زواجه على قطورة هذه بعيداً عن الكنيسة الكاثوليكية). وأراد فرنسيس أن يكسب ثقة النائب الرسولي الجديد مكسيوس جويد كي يساعده في الحصول على تفسيح كنسي كاثوليكي لهذا الزواج. فبدأ يعمل على التقريب بين جويد وبعض الكهنة المعارضين له أمثال تاوضروس أبو كريم، وكللت مساعيه بالنجاح، فأراد مكسيموس جويد أن يكافأه على هذا الصنيع فكتب إلى مجمع انتشار الإيمان بتاريخ 4 أكتوبر 1821يطلب تفسيحاً كنسياً لهذا الزواج، ولكنه سرعان ما أدرك أنه أوقع نفسه في صدام مع غالبية أفراد عائلة المعلم غالي ذوي المكانة المرموقة الرافضين لهذا الزواج.

وشهدت المشكلة مزيداً من التعقيد بعدما عيّن الوالي محمد علي باشا الكبير المعلم فرنسيس خلفاً لأخيه المعلم سرجيوس غالي (المعلم غالي نفسه)، بعد أن قُتل هذا الأخير بأمر الوالي نفسه على يد ابنه إبراهيم باشا. الحقيقة أن الوالي كان قد شعر بالجرم الذي اقترفه في حق صديقه ومعاونه الأول المعلم غالي، بعدما اكتشف براءة الفقيد من الاتهامات التي كالها له خصومه، ولذلك أراد أن يكفّر عن هذا الذنب الذي اقترفه ويعوّض عائلة الفقيد، فاحتضن أولاده وأنعم عليهم بلقب بك- وهم أول المسيحيون المصريون الذين حظوا بهذا اللقب– وأولاهم وظائف عالية في الدولة. كما عيّن المعلم فرنسيس ليحل محل أخيه المغدور.

عندما اكتشف أبناء المعلم غالي: باسيليوس، وغريغوريوس وطوبيا، بالإضافة إلى ابن فرنسيس نفسه أرمانيوس أن النائب الرسولي مكسيموس جويد، كتب إلى مجمع انتشار الإيمان يطلب الموافقة على زواج فرنسيس؛ كتبوا هم من جهتهم إلى نفس المجمع يطلبون عدم منح أي تفسيح لزواج فرنسيس. فكتب الكاردينال رئيس مجمع انتشار الإيمان إلى مكسيموس جويد بتاريخ 12 أبريل 1832، يخبره بأنه لا يحبّذ شخصياً أن يطلب من البابا الموافقة على هذا الزواج. وبتاريخ 17 مايو من نفس العام كتب إليه ثانية أنه تلقى رسائل كثيرة يعارض أصحابها هذا الزواج، ويطلب إليه ألا يفتح موضوع الزواج هذا مجدداً. وقد أراد مجمع انتشار الإيمان أن يطمئن عائلة فرنسيس المعارضة لزواجه بأنه لن يمنح أي موافقة عليه، فأرسل إليها خطاباً بتاريخ 20 سبتمبر 1823.

عندما وصل إلى علم فرنسيس أن مجمع انتشار الإيمان لن يمنحه الموافقة على زواجه من ابنة خاله، لم يستسلم وكتب إلى المجمع يبلغه بالمكانة السياسية العالية التي وصل إليها، وأن هذه المكانة لا تسمح له بالتراجع عن زواجه من ابنة خاله، وأنه إذا تخلّى عنها سيقوم أهلها بإحراقها حية، بالإضافة أنه وزوجته لن يتحملا أن يُحرما من تناول الأسرار المقدسة، وأوضح فرنسيس أن لهذه الأسباب نفسها كتب النائب الرسولي مكسيموس جويد إلى المجمع يطلب تفسيحاً لهذا الزواج.

على كل حال يبدو أن رسالة فرنسيس هذه كانت عاملاً مهماً في تغيير رأي مجمع انتشار الإيمان في موضوع زواجه، إذ إن المجمع المذكور رفع الأمر إلى البابا ليون الثاني عشر، فوافق البابا على أن يمنح التفسيح للنائب الرسولي مكسيموس جويد، وترك له الحرية في تفعيل هذا التفسيح من عدمه. ونظراً للمعارضة الشديدة لهذا الزواج من جانب عائلة غالي، فإن النائب الرسولي فضّل أن يتأنّى في إعلان فرنسيس بهذا التفسيح. وقد نما إلى علم فرنسيس أن الكرسي الرسولي قد فوّض مكسيموس جويد في أمر منح الموافقة على الزواج، وأن النائب الرسولي ربما كان يخشى رد فعل الأسرة إن أعلن الموافقة، فشعر فرنسيس بالحزن والأسف على هذا الموقف. 

كان بعض كهنة الأقباط الكاثوليك ومن بينهم الأب تاوضروس أبو كريم، والأب بسخي كاهن كنيسة المعلم غالي الخاصّة، بالإضافة إلى اثنين من الرهبان الفرنسيسكان المجدّدين هم الأب فرنشيسكو جوتزا، والأب أناستاسيوس يقفون إلى جانب فرنسيس ويساندونه في طلبه التفسيح المطلوب. وقد شاركهم الرأي الأب حارس إقليم الأراضي المقدسة للآباء الفرنسيسكان الذي كان في زيارة دير القاهرة في أواخر سنة 1823. وقد أعلن كل هؤلاء عن رأيهم هذا للنائب الرسولي، بالإضافة إلى أنهم كتبوا إلى مجمع انتشار الإيمان يبلغونه برأيهم هذا، حيث أشاروا إلى المكانة الرفيعة التي يحتلها فرنسيس في المجتمع، خاصّة بعد ترقيته من جانب الوالي محمد على باشا، وأن هذه المكانة قد تتعرّض للضرر إن هو تخلّى عن ابنة خاله، بعد أن أقام معها هذه السنين.

لهذا السبب كتب سكرتير مجمع انتشار الإيمان المونسنيور بطرس كابرانو Pietro Caprano إلى النائب الرسولي مكسيموس جويد، يوصيه بأن يكون رؤوفاً تجاه فرنسيس. كما أنه كتب إلى فرنسيس يشكره على مشاعره الصادقة ككاثوليكي مخلص، وعلى الخدمات التي يقدمها لطائفته وللكثلكة عموماً انطلاقاً من المكانة الرفيعة التي يحتلها، وينصحه بأن يبدي الخضوع والطاعة للنائب الرسولي كابن مخلص للكنيسة الكاثوليكية.

هذه الرسالة للأسف لم تصل أبداً إلى فرنسيس، إذ كان قد توفي في 27 يونيو 1824، بعد مرض قصير، وعندما وصل إلى سماع النائب مكسيموس جويد عن طريق الأب تاوضروس أبو كريم باحتضار فرنسيس، أسرع إليه كي يبلغه قبل موته بالموافقة على زواجه، وكي يصلحه مع الكنيسة، للأسف وصل مكسيموس جويد متأخراً فقد كان فرنسيس قد أسلم الروح. وعموما فقد علم فرنسيس بهذه الموافقة على الزواج من الأب فرنشيسكو جوتزا الفرنسيسكاني، الذي كان قد علم بها من مصادر مقرّبة إليه، والذي كان إلى جواره أثناء ساعة احتضاره، بالإضافة إلى أن الأب المذكور قد صالحه مع الكنيسة بمسحه المسحة الأخيرة وتزويده بالأسرار المقدسة.

وقد شعر النائب الرسولي مكسيموس جويد بالحزن الشديد على موت فرنسيس، خاصة بعد استلامه رسالة سكرتير مجمع انتشار الإيمان بروما التي وصلته متأخرة، والتي تتضمن توصية السكرتير بأن يكون رؤوفاً تجاه فرنسيس.

منح الدرجة الأسقفية لمكسيموس جويد

تلقّى مجمع انتشار الإيمان رسائل كثيرة من أعيان الأقباط الكاثوليك، وخاصّة من باسيليوس بك الابن الأكبر للمعلم غالي، يلتمسون فيها منح الدرجة الأسقفية للنائب الرسولى، ويوضحون للمجمع المكاسب الكثيرة التي ستعود على الطائفة والكثلكة عموماً بوجود أسقف للأقباط الكاثوليك، حيث سيزيد هذا الأمر من مكانتها في المجتمع المصري عموماً، كما وأنه سيساعد على جذب المزيد من الأقباط المنفصلين إلى الإيمان الكاثوليكي.

في الواقع كانت الطائفة من خلال أبناء المعلم غالي المقرّبين من الوالي محمد على باشا تحظى برضاه. وكانت قد مرّت عشر سنوات على الترقية الأسقفية للأب متى الرقيطي سلف الأب مكسيموس جويد، تلك الترقية التي لم تنفذ عملياً، إذ تعرّض الأب متى لمؤامرة من جانب أشخاص لم يكونوا راضين عن أن ينال رئيس الأقباط الكاثوليك الدرجة الأسقفية، فاختطف وهو في طريقه إلى لبنان كي يسيم أسقفاً، وتعرّض للتعذيب الشديد، ثم أُطلق سراحه وهو في حالة صحية منهكة.

طمأن باسيليوس بك مجمع انتشار الإيمان بأن الظروف تغيّرت، وأن ما كان يحدث من عشر سنوات لا يمكن حدوثه الآن، فقد استقرت الأوضاع الأمنية، بالإضافة إلى أن خصوم الرقيطي لم يعودوا موجودين. ولكي يطمئن باسيليوس مجمع انتشار الإيمان، بألا يتكرّر مع مكسيموس جويد ما حدث مع متى الرقيطي، فإنه تعهّد شخصياً بأن يرسل حماية أمنية مع مكسيموس وهو في طريقه إلى لبنان ليسيم أسقفأ. وتعهّد أيضاً أن يتكفّل بكل مصروفات الأسقف الجديد من ماله الخاص، وأنه في حال تأجيل السيامة الأسقفية له، طلب أن يتمتع جويد قبل السيامة بكل الامتيازات الأسقفية، أثناء الاحتفالات الطقسية التي لا تستلزم الأسقف المرسوم، وذلك حتى يعتاد الجميع على وجود أسقف على رأس الطائفة الكاثوليكية.

وقد قبل مجمع انتشار الإيمان طلب باسيليوس بك، إذ أثناء انعقاد مجمع الكرادلة السرّي برئاسة البابا ليون الثاني عشر في 8 فبراير 1824 وافق البابا على منح الدرجة الأسقفية لمكسيموس جويد، وأعطي لقب أسقف أوتينا الفخري، وسمح له قبل سيامته الأسقفية أن يلبس الملابس الأسقفية في الاحتفالات الطقسية، وشدّد الكاردينال رئيس مجمع انتشار الإيمان حتى لا يتكرّر ما حدث مع متى الرقيطي، أن يتفق مكسيموس مع باسيليوس بك على الخطوات الضرورية لتأمين سيامته الأسقفية.

وإلى لقاء مع الجزء الثاني