صفحات مجهولة في تاريخ طائفة الأقباط الكاثوليك (2)

الإحياء الأول للكرسي الإسكندري 1824 (2)[1]

 

 

في العدد الماضي بدأنا الحديث عن المشاكل التي توجب على الأب مكسيموس جويد أن يواجهها، لحين تعيين نائباً رسولياً على الأقباط الكاثوليك. ومن هذه المشاكل، مشكلة زواج المعلم فرنسيس غالي أخو المعلم سرجيوس غالي الشهير، والتي كانت العائلة تقف بالمرصاد ضد زواجه من ابنة خاله قطورة ابنة منقورة. ويبدو أن المعلم فرنسيس قد اضطر لعقد زواجه هذا خارج الكنيسة الكاثوليكية، ولكنه أخذ يعمل على أن ينال تفسيحاً منها لتصحيح زواجه هذا وقبوله من الكنيسة الكاثوليكية. وذكرنا أن النائب الرسولي كان متحمساً في البداية لمساندة فرنسيس في طلبه، وأرسل يطلب من مجمع انتشار الإيمان بروما هذا التفسيح لزواج فرنسيس، ولكنه أدرك بعد ذلك أنه أوقع نفسه في صدام مع بقية عائلة غالي، ولذلك عندما وصله تفويضاً من البابا ليون الثاني عشر في منح فرنسيس التفسيح المطلوب، بدأ في عرقلته. حتى تغيرت الأمور واستطاع فرنسيس أن يقنع مجمع انتشار الإيمان بموقفه بمساعدة الأب حارس الأراضي المقدسة للأباء الفرنسيسكان وبعض الرهبان الفرنسيسكان من فرع المجددين (Riformati) وآخرين من الإكليروس القبطي الكاثوليكي، الذين رأوا استحالة أن يترك فرنسيس زوجته بعد أن عاش معها سنوات، كما أن وضعه الاجتماعي لم يكن يسمح بهذا، خاصّة بعد أن رقّاه الوالي محمد على باشا الكبير للوظيفة التي كان يحتلها سابقاً أخوه سرجيوس غالي. وعندما وافق مجمع انتشار الإيمان على طلب فرنسيس وبعث يطلب من النائب الرسولي مكسيموس جويد أن يمنح التفسيح لفرنسيس، كان الوقت قد فات وتوفي فرنسيس بعد مرض قصير في 27 يونيو 1824.

بعد مقتل المعلم سرجيوس غالي على يد إبراهيم باشا ابن الوالي محمد علي، أصبح ابنه باسيليوس عميداً للطائفة. وكان الوالي قد عوّض أسرة الفقيد بأن منح أبنائه لقب بك وعينهم في وظائف كبيرة في الدولة. وسعى باسيليوس بك في الحصول على قرار من مجمع انتشار الإيمان بمنح النائب الرسولي للطائفة الدرجة الأسقفية، وتعهّد بعمل اللازم لحمايته أثناء سفره إلى لبنان لكي يسيم هناك أسقفاً، كما تعهّد أن يدبّر من ماله الخاصّ كل ما يلزم من مصروفات هذه الرحلة وجميع احتياجات الأسقف الجديد.

بالفعل في 8 فبراير 1824، منح البابا ليون الثاني عشر الدرجة الأسقفية لجويد، وطلب منه مجمع انتشار الإيمان أن يتفق مع باسيليوس في الخطوات الضرورية في أمر سفره إلى لبنان.

بعد أيام قليلة من تعيين مكسيموس جويد أسقفاً، بدأت ترد إلى مجمع انتشار الإيمان بروما رسائل من مصر، كان مضمونها يحمل مفاجأة حتى لأكثر المتفائلين في ذلك الوقت. الرسالة الأولى كانت مؤرخة في 26 مارس 1824، وتحمل توقيع النائب الرسولي مكسيموس جويد، وقد وصلت إلى مجمع انتشار الإيمان في أواخر شهر مايو 1824.

كان مضمون الرسالة يتحدّث عن إعجاب الوالي محمد علي باشا الكبير بطائفة الأقباط الكاثوليك، ورغبته– أي الوالي– في أن يعيد بابا روما تأسيس الكرسي الإسكندري لهذه الطائفة. وتمضي الرسالة فتقول أن مجمع انتشار الإيمان يجب أن يعيّن إبراهيم كاشور الطالب في كليّة مجمع انتشار الإيمان- الذي أنعم عليه الوالي بنيشان ذهب- مطراناً وترسله إلى مصر في أقرب وقت ليقوم هو بالسيامة الأسقفية لمكسيموس جويد وتجليسه على الكرسي البطريركي.

الحقيقة إن مضمون هذه الرسالة والرسائل التي تلتها أدخلت السعادة والفرح في قلوب رؤساء مجمع انتشار الإيمان؛ خاصة سكرتير المجمع المونسنيور بطرس كابرانو (Pietro Caprano)، الذي بدا أمامه مستقبل الكثلكة في مصر مفعماً بالآمال البراقة. وبدون تمعّن بدءوا في تنفيذ توصيات الرسائل.

في 5 يونيو من نفس العام 1824 أرسل كابرانو إلى النائب الرسولي رسالة جاء فيها:

"إن سعادة مجمع انتشار الإيمان للأخبار المشجّعة التي تضمنتها رسالتكم المحرّرة بتاريخ 26 مارس لهي كبيرة جداً… وقد سُرّ قداسة البابا حالما نقل إليه مضمونها، إذ رأى الآمال المعقودة في أن ينهض كاثوليك مصر من حالتهم المزرية التي استمروا فيها لسنين طوال، بسبب عناد وسوء نية مواطنيهم المنشقين، هذه الآمال بدأت تباشيرها في مستهل حبرية قداسته. وأنه بإمكانهم استعادة المكانة المرموقة المحفوظة لهم بعودة الكرسي الإسكندري والرئاسة الكنسية القبطية… فليتمجد الرب الذي استمال قلب وعقل الوالي نحو كاثوليك مصر… وأن قداسته يرغب في أن تتقدموا أنتم والوزير الأول فرنسيس غالي بالشكر للوالي للاهتمامات الطيبة التي يبديها نحو رعيته من المؤمنين الكاثوليك…."

وقد طلب مجمع انتشار الإيمان من النائب الرسولي مكسيموس جويد أن يتعهّد بإرشاد إبراهيم كاشور حالما يعود بعد تعيينه مطراناً، وأن يعمل على أن يستكمل دروسه اللاهوتية. وأرسل سكرتير المجمع نسخة من هذه الرسالة إلى فرنسيس غالي.

الرسالة الثانية التي وصلت إلى مجمع انتشار الإيمان كانت مؤرّخة في 26 أبريل 1824، وموقّعة أيضاً من النائب الرسولي، وتحمل هي أيضاً أخبار مشجّعة إلى المجمع. ولم يتأخر رد المجمع عليها. ففي 26 يونيو أرسل سكرتير المجمع بالرسالة الآتية إلى النائب الرسولي:

"إن سعادة ورضا هذا المجمع المقدس قد تعاظما بتوالي الأخبار السارة التي وردت في رسالتكم المؤرّخة في 20 أبريل، وبعد وفاة بطريرك الإسكندريّة المنفصل. عليكم أن تؤكدوا للوالي أن المجمع يسعى بكل جهده لتحقيق رغبته في أن يرسل على وجه السرعة الطالب إبراهيم كاشور إلى مصر. وأن قداسة البابا قد سمح له- أي لكاشور– أن يحمل النيشان الذي أُهدي إليه أثناء إقامته القصيرة هنا في كلية انتشار الإيمان. ولتتأكدوا نيافتكم أن المجمع المقدس يبدي عظيم الاهتمام بهذه الشؤون الهامة، التي تخصّ الخير الروحيّ للأمّة القبطيّة. وهو يأمل بمعونة الرب أن تأتي عنايتكم نحو هذه الأمّة بالثمار المرجوّة…"

في 13 يوليو 1824، عُقدت جلسة غير عاديّة لمجمع انتشار الإيمان، لمناقشة الأمور الخاصّة بالبطريركيّة القبطيّة الكاثوليكيّة. وبعد نهاية الجلسة حرّر الكاردينال رئيس مجمع انتشار الإيمان الرسالة الآتية للنائب الرسولي مكسيموس جويد:

"إن أصحاب السعادة زملائي الكرادلة قد عقدوا النية على أن يلتمسوا من قداسة البابا كي يعين نيافتكم بطريركاً على الكرسي الإسكندري للأقباط الكاثوليك، وتعيين وتكريس الطالب إبراهيم كاشور مطراناً على كرسي منف بالرغم من حداثة سنه. في جلسة 8 يوليو 1824 اعتمد البابا هذا القرار. وقبل أن تصل وثيقة عماد إبراهيم كاشور، حصل على الدرجات المقدسة الواحدة بعد الأخرى بما فيها الدرجة الكهنوتية. واعتباراً من منتصف يوليو وبإذن من البابا يمكنه أن يحظى بالشرف الذي رغب فخامة والي مصر في أن يمنح له…"

في يوم الأحد الواقع في أول أغسطس 1824، قام قداسة البابا ليون الثاني عشر، بمساعدة سكرتيره الخاص فيلوناردي (Filonardi)، وسكرتير مجمع انتشار الإيمان بطرس كابرانو بتكريس الكاهن الجديد إبراهيم كاشور مطراناً في كنيسة السكستين. واختتمت الاحتفالات الطقسيّة بتسليم الباليوم رمز الشركة في الإيمان إلى المطران الجديد. وكانت نيّة مجمع انتشار الإيمان أن يرسله بأقصى سرعة إلى مصر حتى يقوم بتكريس مكسيموس جويد أسقفاً وبطريركاً. وكان البابا قد منحه الإذن في أن يقوم وحده بالتكريس الأسقفي لمكسيموس جويد بمساعدة اثنين من الكهنة، نظراً لعدم وجود أساقفة كاثوليك في مصر في ذلك الوقت. وفي تلك الأثناء كان على النائب الرسولي أن يعد ما يلزم بخصوص هذه الاحتفالات.

وقد صدرت الوثيقة البابوية بخصوص إعادة تأسيس الكرسي الإسكندري للأقباط الكاثوليك وتعيين مكسيموس جويد بطريركاً عليه في 15 أغسطس 1824 تحت عنوان "بطرس هامة الرسل" (Petrus Apostolorum Princips).

وعيّن مجمع انتشار الإيمان الأب لويس كانستراي (Luigi Canestrai) مستشار المجمع مرافقاً للمطران الجديد، كما أن البابا منحه امتيازات عديدة في جلسة 26 أغسطس 1824، كما عهد إليه برسالة إلى الوالي محمد علي باشا.

وطلب مجمع انتشار الإيمان من السفير الفرنسي لدى الكرسي الرسولي أن يوصي قنصل فرنسا العام في مصر دروفيتّي (Drovetti) بكاشور ورفيقه.

تأجّلت عودة إبراهيم كاشور إلى مصر بسبب مرضه، وكان هذا التأجيل مدعاة أسف سكرتير المجمع، الذي كان يتعجّل سفر كاشور. في 23 أغسطس 1824، غادر كاشور ورفيقه كانيستراي روما إلى ميناء ليفورنو (Livorno) الإيطالي حيث أبحر منه في 12 سبتمبر إلى الإسكندرية، التي وصلوا إليها بعد 17 يوماً من الإبحار. ماذا حدث حال وصوله إلى الإسكندرية؟ الأمور غير واضحة. فبحسب الشيفالييه أرتود دى مونتور (Il Chevalier Artaud de Montor) الذي ينسب إلى تقارير الممثل الديبلوماسي الفرنسي في القاهرة دروفيتّي؛ أن الوالي أمر باعتقال مطران منف وحكم عليه بالموت. ولكن لتدخل القنصل الفرنسي العام في مصر أمر بنفيه إلى روما. وحسب بعض الكتّاب، أن الوالي محمد علي كان يريد أن يحكم عليه بالإعدام، ولكن لتقديره لشخص البابا ولتدخّل القنصل الفرنسي أعاده إلى إيطاليا.

إن تفسير هذا الانقلاب المأساوي للأحداث يكمن في أن الرسائل التي وردت إلى مجمع انتشار الإيمان والمزيلة بختم النائب الرسولي مكسيموس جويد، وأيضاً بختم الوالي محمد علي باشا كانت كلها مزورة، ولدى وصول كاشور إلى الإسكندرية اكتشفت المؤامرة، لذلك تمّ اعتقاله وحُكم عليه بالموت.

وحسب الكاتبة إيريس حبيب المصري، التي تستشهد بالكاتب محمد فريد وجدي، أن فرنسيس غالي أخي المعلم سرجيوس غالي قد زوّر الرسائل باسم والي مصر ومهرها بختمه. تلك الرسائل التي تتضمن طلب محمد علي من البابا ليون الثاني عشر أن يعيّن إبراهيم كاشور الطالب بكلية انتشار الإيمان مطراناً على منف متعهداً – أي الوالي محمد علي – أن يعمل على أن يقبل الأقباط الأرثوذكس المصريون بسلطة بابا روما.

ويميل الأنبا يوحنا كابس في كتابه "لمحات تاريخية عن النواب الرسوليين لطائفة الأقباط الكاثوليك في القرن التاسع عشر" إلى هذا الرأي، ولا يستبعد أن يكون فرنسيس غالي قد اتفق مع إبراهيم كاشور بعد سيامته الأسقفية أن يمنحه التفسيح الكنسي الذي يرغبه، ليصحّح زواجه من ابنة خاله قطورة ابنة منقورة، وأن فرنسيس استغل وضعه في قصر الوالي محمد علي باشا كي يبعث بهذه الرسائل الممهورة بختم الوالي.

عموماً استطاع النائب الرسولي مكسيموس جويد بحكمته أن يعبر بطائفته من هذه العاصفة الشديدة، وتمكّن باسيليوس بك ابن المعلم سرجيوس غالي أن يستصدر فرماناً من الوالي بسفر النائب الرسولي إلى لبنان، حيث تكرس أسقفاً على يد البطريرك الملكي الكاثوليكي أغناطيوس قطان في 12 مارس 1825.

موقف المطران كاشور بعد عودته إلى روما

يبدو أن حالة كاشور النفسية كانت متأزّمة جداً، إذ حاول أن يلقي برفيقه لويس كانيستراي في الماء أثناء عودته إلى روما. حال وصولهما إلى ميناء تيرّاشينا (Terracina) الإيطالي بالقرب من روما، اعتقل بأمر قداسة البابا ليون الثاني عشر، واقتيد إلى محكمة التفتيش، التي نظرت قضيته وحكمت عليه بالإعدام، ولكن البابا خفّف الحكم إلى السجن المؤبد. وكان بعض زملائه في كليّة انتشار الإيمان حاضرين أثناء تجريده من ثيابه الأسقفية حيث أغمى عليه. وقد ظل إبراهيم كاشور محبوساً في سجن محكمة التفتيش الكنسية حتى اندلاع الثورة الرومانية سنة 1848 ضد الحكم البابوي، وإعلان الجمهورية، حيث اقتحم الثوّار السجن وأطلقوا سراح المسجونين ومن بينهم كاشور- كان البابا بيوس التاسع (1846-1878) قد فرّ من روما ولجأ إلى غايتا (Gaeta)- حينئذ طلب الثوار الرومانيون من إبراهيم كاشور أن يباركهم من شرفة كاتدرائية القديس بطرس، ولكنه رفض. لذلك عندما رجع البابا بيوس إلى عرشه عفا عنه ومنحه معاشاً وبعث به إلى دار القديس سيلفستروس- الذي كانت تديره جمعية المرسلين الريفيين- القريبة من قصر الكويرينالي (Quirinale) (القصر الجمهوري الإيطالي الحالي).

في سنة 1869 أعيد كاشور إلى منصبه وسمح له بالاحتفال بالقداس الإلهي. وفي سنة 1870 وهي السنة التي شهدت سقوط مدينة روما في يد جيش الملكية الإيطالية، خاف كاشور أن يطلب منه مجدداً كما طلب منه سنة 1848 عندما حاول الثوار أن يجبروه على مباركة الثورة ضد البابا، فطلب من البابا بيوس أن يسمح له بالذهاب إلى مكان بعيد عن روما، فأذن له البابا فتوجّه إلى لوريتو (Loreto) حيث ظل هناك بعض الوقت ثم انتقل بعدها إلى مدينة سبوليتو (Spoleto) حيث اعتكف في دير العذراء سيدة النجوم، وهناك توفي سنة 1877، تاركاً ذكرى عطرة لإنسان مفعم بالتقوى والأخلاق المسيحية.

 

وإلى لقاء في موضوع آخر

عن مجلة صديق الكاهن



[1]  راجع في هذا الصدد J. Metzler, Das Apostolische vikariat der Kopten unter Massimo Giuaid (1821-1831), in Euntes Docete, 36-62, n. 14, Roma 1961.؛ راجع أيضاً مؤلف الأنبا يوحنا كابس، لمحات تاريخية عن النواب الرسوليين لطائفة الأقباط الكاثوليك في القرن التاسع عشر، القاهرة 1978.