لنتأمل مع بندكتس 22- 23- 24 – 25 /26 من مايو

الثاني والعشرون من مايو

روما، الخميس 22 مايو 2008 (zenit.org). – ننشر في ما يلي تأمل اليوم الثاني والعشرين من مايو للبابا بندكتس السادس عشر، من كتاب “بندكتس“.

الطابع الكهنوتي

يمكننا أن نقول أن “الطابع” يعني خاصية هي من جوهر وجود الشخص. لدرجة أن صورة الطابع” تعبر بدورها عن “واقع الانتماء إلى”. وبالواقع، لا يمكننا أن نغيّر شيئًا في طابع الانتماء هذا؛ فالمبادرة هنا تأتي من صاحب هذا الطابع – من المسيح. من هنا، تضحي طبيعة السر جلية: لا يمكنني أن أعلن انتمائي ببساطة إلى الرب بهذا الشكل. عليه هو أن يقبلني أولاً كواحد من خاصته، ومن ثم يمكنني أن أدخل في هذا القبول وأن أقبله كقسمتي وأن أتعلم أن أعيشه. إن تعبير “الطابع” يصف جوهر طبيعة خدمة المسيح المتضمنة في الكهنوت كأمر يرتبط بالكينونة؛ وفي الوقت عينه يوضح الطابعُ المعنى الأسراريالانتماء إلى الرب الذي صار خادمًا هو انتماء من أجل خاصته. هذا يعني أن الخادم يستطيع أن يمنح، بالرمز المقدس، ما لا يمكنه أن يمنحه انطلاقًا من مقدراته الذاتية: إنه يمنح الروح القدس؛ إنه يحل الناس من خطاياهم؛ إنه يجعل ذبيحة المسيح والمسيح عينه حاضرين، في جسده ودمه المقدسين – وكل هذه هي امتيازات محفوظة لله، ولا يستطيع أي كائن بشري أن يستأثر بها لذاته ولا أية جماعة أن توكله بذلك. إذا كان “الطابعإذَا تعبيرًا عن الشركة في الخدمة من ناحية، فهو يشير، من ناحية أخرى، كيف أن الرب هو الفاعل في العمق، وكيف أنه رغم ذلك يعمل في الكنيسة المرئية عبر البشر.

 

الثالث والعشرون من مايو

غسل الأرجل

 

في حدث غسل أرجل التلاميذ يلخص الإنجيلي، بشكل ما، كامل رسالة يسوع، وحياته وآلامه. وكأننا نعاين في رؤية الحقيقة بالكامل. يمثل لنا غسل أقدام التلاميذ كل ما يفعله يسوع وكل ما هو بالذات. هو، الرب، ينحدر إلينا؛ يضع جانبًا وشاح مجده ويضحي عبدًا، يقف على الباب ويقوم بعمل العبيد المتمثل بغسل الأرجل. إن هذا هو معنى حياته وآلامه بأسرها: أي أنه ينحني نحو أقدامنا القذرة، إلى وسخ البشرية، وبحبه العظيم يغسلنا ويطهرنا. كانت الغاية من غسل العبيد للأقدام إعداد النديم بشكل لائق للجلوس على المائدة، وتهيئته للصحبة، حتى يستطيع الكل أن يجلسوا سوية لتناول الطعام. وكأن يسوع المسيح يُعِدّنا للوقوف بحضرة الله ولرفقة بعضنا البعض، حتى نستطيع أن نجلس سوية على الوليمة. إنه يقوم باستقبالنا وقبولنا، نحن الذين نختبر بشكل متكرر أننا لا نحتمل بعضنا البعض، ونشعر بأننا غير أهل لنقف أمام الله. ننال الغسل بقبولنا أن نستسلم لحبه. معنى هذا الحب أن الله يقبلنا دون شروط مسبقة، حتى عندما لا نكون مستحقين لحبه، وغير قادرين أن ندخل في علاقة معه، لأنه يسوع المسيح يحولنا ويضحي أخًا لنا.

 

 

الرابع والعشرون من مايو

 الاشتراك في الليتورجية

العمل الليتورجي الحق، وجوهر الليتورجية هو ما يعرف بالـoratio، وهي الصلاة التي تشكل لبّ الاحتفال الافخارستي، الذي كان الآباء يسمونه بمجمله: “oratio“. وهذه الكلمة لم تكن أصلاً تعني “الصلاة” (فالكلمة التي تعبر عن هذه الأخيرة كانت prex)، بل الخطاب العام الرسمي. وهذا الخطاب ينال قيمته الكبرى عندما يتوجه إلى الله بوعي كامل بأنه يأتي منه تعالى، ويضحي ممكنًا بفضلههذه الـoratio”  – الصلاة الافخارستية، “النافور” – هي بالحقيقة أكثر من خطاب؛ إنها عمل (actio) بأعمق ما في الكلمة من معنى. لأن ما يحدث فيها هو أن العمل البشري (كما يقوم به حتى الآن الكهنة في مختلف أديان العالم) يتنحى ويفسح المجال للعمل الإلهي (action divina). في هذه الـoratioيتحدث الكاهن مستعملاً أنا الرب – “هذا هو جسدي”، “هذا هو دمي”. هو يعي جيدًا أنه لا يتحدث الآن انطلاقًا من مؤهلاته الشخصية، بل بفضل السر الذي قبله، صار صوت آخر، وهذا الآخر هو يتكلم ويعمل الآن. إن عمل الله الذي يتم في خطاب بشري، هو “العملالحق الذي تنتظره الخليقة بأسرها. يتحول جوهر العناصر الأرضية، وتنتزع من ارتكازها المخلوق، وتُلمَس في أعمق أرضية من كيانها، وتتحول إلى جسد ودم الرب. يتم هنا استباق السماء الجديدة والأرض الجديدة. “العمل” الحق في الليتورجية، والذي يجب علينا جميعنا أن نشترك فيه، هو عمل الله بالذات.

 

السادس والعشرون من مايو

الروح القدس هو الحب

هبة الله هي الروح القدس. هبة الله هي الحب – الله يشارك نفسه بالروح القدس كحُب… يكشف حضور الروح القدس عن ذاته عبر الحب. الحب هو مقياس الروح القدس في وجه كل الأرواح التي ليست مقدسة؛ بالواقع، الحب هو حضور الروح القدس بالذات، وبهذا المعنى هو حضور الله. المفهوم المحوري والأساسي الذي يجمع ماهية الروح القدس ومفاعيله، هو في المقام الأخير، الحب لا “الفهم”… يمكن القول أن معيار الحب الأساسي، و “عمله الخاص”، – وبالتالي “العمل الخاص” بالروح القدس – هو هذا: أن يضحي حضورًا دائمًا. الحب يكشف عن نفسه عبر الثبات. لا يمكن التعرف إليه في لحظة ما وفي تلك اللحظة وحسب؛ بل عبر الاستمرارية، حيث يتخلص من الحيرة، ويحمل الأبدية في أحشائه. ولذا، بنظري، العلاقة بين الحب والحقيقة هي معروضة هنا: الحب، بمعناه الكامل، يمكن أن يكون حاضرًا فقط عندما تدوم الأشياء، وعندما تستمر. وبما أنه أمر يتعلق بالاستمرارية، فهو لا يستطيع أن يحدث أينما كان، بل فقط حيث هناك الأبدية.

 

الخامس والعشرون من مايو

–العطش البشري والروح القدس

إن العطش البشري الأعمق يصرخ طالبًا الروح القدس. فهو، وهو وحده، في العمق، الماء العذب الذي لا حياة دونه. في صورة الينبوع، والماء الذي يروي ويحول القفر، يجد الإنسان وعدًا سريًا، سر الروح القدس الذي يضحي مرئيًا بشكل لا يوصف، يعجز أي تأمل فكري عن استيعابه. في عطش الإنسان، وفي انتعاشه بفضل الماء، يرتسم ذلك العطش المطلق والأكثر جذرية الذي لا يستطيع أي ماء أن يرويه… الروح القدس هو منذ الأزل، وبطبيعته الذاتية، هبة الله، الله كهبة ذات كلية، كهدية. بهذا المعنى، يتجسد المعنى الداخلي وركيزة تاريخ الخلق والفداء في طبيعة كينونة الروح القدس كهبة (donum) وواقع (datum)… إنه الله، الله الذي لا يهب شيئًا سوى الله؛ يهب نفسه وبهذا يهب كل شيء. لهذا السبب بالذات، لا تطلب الصلاة المسيحية أي شيء كان؛ لا إنها تطلب هبة الله التي هي الله ذاته، تطلبه هو