الرسالة إلى رومة

أ- كنيسة رومة
ماذا كانت عليه رومة يوم كتب بولس إليها، ولماذا كتب رسالته؟

1- كيف بدت كنيسة رومة
إختلفت روم عن غل. توجّهت غل إلى كنيسة عرفها بولس وأسسّها وأحبّها. أما روم فتوجّهت إلى كنيسة لم يؤسسها ولم يعرفها شخصياً، بل عرف بعض المؤمنين الذين يؤلّفونها.
كانت رومة عاصمة الامبراطورية. عدّ سكانها مليون نسمة، كانت اكثريتهم من الطبقة الشعبية. أن يذهب بولس، رسول الأمم الوثنية، إلى رومة عاصمة العالم الوثني، أمر مهمّ وله معناه بالنسبة إليه (1: 8- 15؛ أع 28: 14- 1 3). يعود تأسيس هذه الكنيسة أقله إلى زمن الامبراطور كلوديوس. هذا يعني أنها كانت كنيسة قديمة. تألّفت في بدايتها من مسيحيين جاؤوا من العالم اليهودي، وقد ساعد وجود "مستوطنة" يهودية هامة في رومة (بين20000 و 50000 حسب التقديرات) على نموّ الكنيسة.
وانضم إلى هذه النواة من المسيحيين من أصل يهودي، مرتدّون جاؤوا من العالم الوثني: هذا يفهمنا لماذا ظلّت الكنيسة حاضرة في رومة يوم أصدر الامبراطور كلوديوس قراره بأن يترك اليهود عاصمة الامبراطورية (49-50).
يوم كتب بولس رسالته، تألّفت الجماعة من مسيحيين جاؤوا من العالم الوثني وآخرين من أصل يهودي. ولكننا لا نستطيع أن نعرف نسبة اليهود بالنسبة إلى الوثنيين. وحين نقرأ الرسالة، نحسّ وكأن جماعة رومة تساوي في الأهمية كنيسة كورنتوس.
هل كان بطرس قد جاء إلى رومة؟ لا شيء يبرهن على ذلك. وبما أن بولس لا يتكلّم عنه، فنظن أنه لم يكن بعد وصل إلى رومة يوم خطّ بولس رسالته. ويبدو في ذلك الوقت أيضاً أن الجماعة لم تكن عرضة للاضطهادات. وحين يتحدّث بولس في ف 13 عن السلطة السياسية، فهو يرى دورها الايجابي. لهذا يقول: "على كلّ إنسان أن يخضع لاصحاب السلطة، فلا سلطة إلا من عند الله ".

2- هدف الرسالة
ما استطاع بولس أن يذهب في القريب العاجل إلى رومة، لهذا كتب إلى المسيحيين هناك ليثبتّهم في الايمان معلناً لهم بدوره انجيل الله. وليهيّىّء مجيئه معرّفاً بكرازته. ماذا أخذنا بعين الاعتبار أزمة المتهودين، وكيف أن بولس يستعيد مسألة الشريعة والتبرير بالايمان، ندرك أن بولس أراد أيضاً أن يزيل كل سوء تفاهم بين المسيحيين الآتين من العالم اليهودي، وأولئك الآتين من العالم الوثني: للتبرير والخلاص ينبوع واحد هو الله الذي يخلّص البشر في يسوع المسيح.

ب- نظرة أولى
اعتبرت روم نصاً صعباً. وقد تحدث القديس بطرس في رسالته الثانية (16:3) عن "أمور غامضة يحرّفها الجهّال وضعفاء النفوس ". سنكتفي بتقديم بعض المعطيات، ثم نورد ثلاث ملاحظات.

1- بعض المعطيات
أولاً: أساس روم
نجد في 1 :16 تأكيداً هو أساس الرسالة كلها: الإنجيل هو "قدرة الله لخلاص كل من آمن، لليهودي أولاً ثم لليوناني ". نحن هنا أمام سلسلة من الأقوال:
انجيل (الخبر السار) المسيح هو قدرة.
يأتي من الله.
جُعل ليخلّص البشر.
نتقبلّه بالايمان.
هو يعني جميع البشر بدون استثناء. كان اليهودي العائش في محيط يوناني يقسم الناس إلى يهود ويونانيين. هاتان هما المجموعتان الدينيتان اللتان تؤلّفان البشرية.
سنعود إلى هذه الافكار فيما بعد

ثانياً: نقطتان هامتان في الإنجيل
كيف يؤلّف بولس؟ يطرح موضوعه ثم يتركه. ويعود إليه من جديد ليتوسّع فيه. وهو يعلن نفطتين هامتين في الإنجيل ويفسرّهما ويتوسّع فيهما.

* برّ الله، غضب الله
يعلن في 1: 17 برّ الله. ثم يعالج تجاهه غضب الله (18:1- 3: 20). بعدها، يستعيد موضوع بز الله ويتوسّع فيه حتى نهاية ف 3.

* حب الله
ويقدّم في 5: 1- 11 موضوع حبّ الله الذي به يرتبط موضوع السلام وعطيّة الروح القدس. وبعد توسّعات طويلة، يصوّر بولس في ف 8 حياة المسيحيين في الروح، وهي حياة في الرجاء يتأسّس على حب الله لهم.

ثالثاً: يسوع ربّنا
يستعمل بولس في نهاية ف 4 عبارة. "يسوع ربنا" (آ 24). وسيستعمل العبارة نفسها (يسوع المسيح ربنا) في نهاية الفصول الاربعة التالية (5: 21؛ 23:6؛ 7: 25؛ 8: 39). لقد استعاد بولس هذه العبارة ليدلّ على توسّعات فكره المتتالية.

رابعاٌ : من العهد القديم إلى العهد الجديد
إهتمّ بولس في رسالته بأن يبيّن التواصل بين العهد القديم والعهد الجديد: لقد وعد الانبياء بالإنجيل في الكتب المقدسة (1: 2). الشريعة وكتب الانبياء تشهد لبرّ الله الذي ظهر الآن (3: 21)… وهذا يظهر في مقطعين اثنين:
في ف 4 الذي دوّن ليبين أن إبراهيم، أب المؤمنين، صار باراً لانه آمن بالله، وأنّ "التبرير بالايمان " بدأ في العهد القديم.
في ف 9- 11 التي دوّنت لتفهمنا أن لا أمانة إسرائيل لا تلغي أمانة الله، كما لا تلغي مواعيد العهد القديم.

خامساً: لوحات متعارضة
حين نقرأ روم نلاحظ حالاً أن بولس قال ما قاله في لوحات متعارضة: لوحة مظلمة تبرز لوحة مضيئة ترتبط بعمل الله الخلاصي. مثلاً، لوحة العالم الخاطىء (وثنيون ويهود) في ف 1- 3 تعارض اعلان برّ الله الذي ظهر في يسوع المسيح (3: 21 ي). ثم لِوحة آدم ويسوع المسيح في 5: 12- 21. لا يهدف هذا العرض بأن يجعل آدم على مستوى المسيح، بل أن يبرز عظمة عمل الخلاص الذي تحقّق بالمسيح. ونقول الشيء عينه عن ف 7- 8: إن لوحة الإنسان الذي تسحقه الشريعة وقبل أن تصل إليه نعمة المسيح، تُبرز عمل خلاص المسيح وتُلقي نوراً لامعاً على صورة حياة المسيحيين في المسيح.

2- ثلاث ملاحظات
الأولى: لا يعالج بولس مسألة منٍ المسائل من كل وجهاتها، ولا يعالج في الوقت نفسه كل وجهاتها. مثلاً، في ف 1، ينظر إلى العالم من وجهة الخطيئة. لا نطلب منه في ذلك الوقت أن يتحدّث عن واقع سيتطرّق إليه في 2: 10 ي وهو: الخير الذي في الناس الذين لا يعرفون الشريعة مع أنهم يعيشون متطلّباتها. وكذلك، حين يتكلّم بولس عن الشريعة، فهو ينظر إليها كوصيّة خارجية، وذلك بسبب الجدال مع المتهوّدين. فلا نستنتج بعد ذلك أن اليهود الحقيقيين يحوّلون الشريعة إلى قاعدة تحدّدها سلطة الله من الخارج، أو أنهم ينسون أن محبة الله هي في أصل الوعد والعهد. كان بولس من عائلة فريسية، فعرف أن الأمور ليست هكذا. ولكن موضوع الجدال جعله يركز على وجهة محدّدة ويترك وجهات أخرى.
الثانية: نحس "أن بولس هو قريب منّا في وجهات عديدة. ومع ذلك علينا أن نقبل بالمسافة الحضارية التي تفصلنا عنه (عقلية مختلفة، خبرة العالم ونظرة إلى العالم تختلفان عن خبرتنا ونظرتنا، طريقة التعبير). ماذا يعني كل هذا؟ نشأ بولس خلال سنوات الدراسة على طريقة يهودية في تفسير التوراة وخاصة في ف 9- 11. هذا يعني أننا نحاول أن نكتشف فكره دون أن نفرض عليه فكرنا وتصحيحاً من عندنا.
الثالثة: تعليم بولس هو قبل كل شيء بشرى وخبر سعيد. انه انجيل الخلاص الذي هو فرح ومحبة ورجاء وسلام في يسوع المسيح. لقد لاحظنا طريقة بولس في عرض اللوحات المتعارضة. ونقول أيضاً إن هذه اللوحات لا توضع على المستوى الواحد. وإن دور اللوحات المظلمة هو بأن يجعلنا ندرك حاجتنا المطلقة إلى الخلاص، وبأن يلقي الضوء الساطع على عمل المسيح الخلاصي.
ونلاحظ أيضاً أن بولس لا يضع البشر أمام ضعفهم أو خطيئتهم لكي يفقدهم الشجاعة والأمل. هو لا يتكلّم عنهما إلا ساعة يبشر بالمسيح ويدعونا للتوجّه إليه. وأخيراً، إذا كانت رسالة بولس قد جعلت أزمة المتهودّين في مكانها الصحيح، فهي أيضاً اعلان خبر سعيد: خبر عطية الحياة في المسيح، خبر الرجاء، خبر الخلاص الذي يحمله الله إلينا في ابنه يسوع المسيح.

ج- مسيرة فكر بولس
حين يعرض بولس انجيل الله، حين يحمل إلينا خبراً سعيداً فحواه أن الله يخلّص البشر في يسوع المسيح، فهو يلفت انتباهنا (وانتباه أهل رومة) إلى اربع نقاط:
الاولى: بشرى الإنجيل هي أن إله يسوع المسيح هو إله أمين لوعده.
ويبين لنا مجيء المسيح أن الله وعد ووفى فخلّص. وكل الذين يؤمنون بالمسيح، مهما كان أصلهم، ينالون موهبة الله بأنهّم يحيون من المسيح وفي المسيح (7:1-25:4).
الثانية: بشرى الإنجيل هي أن الله يحبّنا حباً قوياً جداً. فبعد أن أعطانا نحن الخطأة (والموتى) أن نصير أحياء في يسوع المسيح، أدخلنا في مجده معه: هذا هو الحب الذي يجعل رجاءنا أكيداً (5: 1- 39:8).
الثالثة: ولكن، لماذا لم يقبل إسرائيل الإنجيل؟ لماذا لم يدخل شعب العهد القديم كله في الشعب الجديد؟ ألمَ يكن الله أميناً لمواعيده؟ أجاب بولس: رغم الظواهر، ظل الله أميناً لوعده كل الأمانة، وحبّه ظل هو هو (ف 9-11).
الرابعة: الحياة المسيحية هي أن نقدّم لله عبادة روحية، أن نقدّم له حياتنا بما فيها من الحب والأمانة للروح القدس. بهذه الطريقة يتفتّح الإنجيل في قلب العالم (12: 1- 13:15).
أشارت النقطتان الاوليان إلى الإنجيل وإلى نتائجه فينا. البشرى تعني أن الله يخلّصنا في يسوع المسيح. فالتبرير (النقطة الأولى) يجعلنا ننتقل من الخطيئة إلى الحياة في المسيح. والخلاص (النقطة الثانية) يدلّ على عمل المسيح الذي يحوّلنا بكلّيتنا ويجعلنا شركاء كاملين بالسعادة معه في المجد.
وحاولت النقطة الثالثة أن تجيب على اعتراض يتوجّه إلى الإنجيل: أين أمانة الله ومحبته تجاه اليهود الذين رفضوا الإنجيل ولم يقبلوه؟ والنقطة الأخيرة تتعلّق بدخول الإنجيل إلى حياتنا: كيف يتفتّح الإنجيل في حياة مسيحية في قلب العالم وحسب أبعاد حياة البشر ودعوتهم.

د- قراءة متواصلة
1- العالم خاطىء ويحتاج الى الخلاص (18:1- 3: 20)
أولاً: بولس المربيّ
قبل أن يعلن بولس ما صنعه الله في المسيح، لامس حاجتنا إلى الخلاص بيد الله. فبدون عمل المسيح نحن كلّنا خطأة. ويأخذ الرسول عدداً من الخطايا التي تميّز العالم الروماني واليوناني المنحطّ، وعدداً من الرذائل المعروفة في العالم اليهودي في عصره. إنطلق من كل هذا، وأفهمنا أننا كلنا خطأة، وأنه يجب علينا أن نلجأ إلى رحمة الله وأن نؤمن بالإنجيل لنتقبّل عطيّة الله.

ثانياً: معنى الصور
يجب أن نفهم الصور ولا نحجزها. إذا كان بولس قد تحدّث عن غضب الله، فهو لا يعني أن الله يغضب كالناس الذين نعارضهم أو نقلّل الاحترام تجاههم. بل يريد أن يفهمنا أن الله الذي هو قدوّس لا يقبل المساومة مع الخطيئة والشر. الله يحبّ الخاطئين ولكنّه لا يتحمّل الخطيئة.
ونقول الشيء عينه عن عبارة "أسلمهم " (1: 24، 26، 28). لا نأخذها على حرفيّتها: ليس الله هو الذي يجعل الناس عبيداً لشهواتهم. ولكن هناك علاقة بين رفض الإنسان لله وانحطاط هذا الإنسان. حين ينفصل الإنسان عن الله، يرفض العون الذي يساعده على التفلّت من هذا الانحطاط.

ثالثاً: معرفة الله
إحتلت الديانة مكانة أساسية في حياة البشر في القرن الأول المسيحي. لهذا لم يرَ بولس في خطيئة الوثنيين شيئاً يمنعهم من معرفة الله. بل رأى أناساً يعرفون الله، ولكنهم لم يكونوا منطقيين مع هذه المعرفة. بدل أن يشكروا الله ويمدحوه، وثقوا بنفوسهم وبعقولهم، وبالتالي خسروا معرفة الله الحقّة وأخذوا يعبدون الأصنام. إذن، هناك تسلسل في نظر بولس: رفض الله الحي، إرادة الاكتفاء بالذات، خسران حس الله، إنحطاط الإنسان.
رابعاً: صوّر بولس الخطيئة كشّر يصيب الإنسان: في نفسه (1: 24). في علاقة الرجل بالمرأة (1: 26- 27)، في مجمل العلاقات بين البشر (29:1-30). وهذا يعني في النهاية أننا نحتاج إلى الله لنجد نفوسنا.

خامساً: قيمة هده اللوحة
لا يهتم بولس هنا إلا بوجهات الخطيئة ليجعلنا نحسّ أننا- خارجاً عن المسيح وعمل روحه- كلّنا خطأة ونحتاج إلى الخلاص. إنطلق بولس من العالم الروماني والعالم اليهودي كما رآهما في أيامه، وشدّد على حاجتنا إلى الخلاص. أبرز هنا الخطيئة وفي 2: 14- 16 سيتحدّث عن الضمير الذي يجعل شريعة الله مكتوبة في ضمير الإنسان وفكره.

2- وظهر برّ الله (3: 21- 30)
نستطيع أن نقرأ هذا النص فنرى في الله دياناً يعاقب، ومتسلّطاً يفرض موت ابنه لقاء غفران خطايانا. إن نظرنا إلى الأمور بهذا الشكل، كنا خائنين لفكر بولس الذي قال لنا في 8:5 إن المسيح مات بسبب حب الله لنا، لا بسبب غضبه علينا. "ولكن الله برهن عن محّبته لنا بأن المسيح مات من اجلنا".
أولاً: نفهم برّ الله على ضوء العهد القديم. فقد تحدثت الشريعة والانبياء عن هذا البرّ. نقرأ في أش 13:46: "جئت ببري، ليس بعيداً، وخلاصي فلا يبطئ". وقال صاحب المزامير (40: 10): "قد بشّرت ببرّك في الجماعة العظيمة". فبرّ الله هو أمانته لمواعيد الخلاص: وعمل الخلاص الذي يتمّه الله في المسيح يتجذّر في مواعيده ويدلّ على أن الله أمين.
ثانياً: يظهر هذا البر في فداء يتمّ في يسوع المسيح. لن نفهم الفداء بالمعنى اليوناني: يحرَّر أسير أو عبد لقاء فدية، لقاء كمية من المال. بل نعود إلى الكتاب المقدّس: تحرّر من مصر، تحرّر من أسر بابل، تحرّر يحقّقه المسيح المنتظر، نداء يتمّه الله بصورة مجانية فيكوّن لنفسه شعباً يدخله (أو يجذّره عميقاً) في عهده. هذا هو معنى موت المسيح: إنه يحرّر من الخطيئة ويكوّن الشعب الجديد ويحقق الميثاق (العهد) الجديد.
ثالثاً: يقول لنا بولس في 3: 25 إن الله أعدّ المسيح ليكون كفّارة في دمه. ترتبط هذه العبارة بتذكرات بيبلية وعادات ليتورجية في إسرائيل. حين ختم موسى العهد في سيناء، رشّ نصف دم الذبائح على المذبح (الذي يمثل الله) والنصف الثاني على الشعب (خر 24: 4- 8: الدم يمثل الحياة). وهذا الاحتفال بالعهد يعني أنه منذ الآن ستكون حياة واحدة، ستكون علاقة قرابة بين الله وشعبه.
وحين خُتم العهد، إلتزم الشعب بأن يعيش حسب الشريعة، ولكنه أخطأ مراراً: فخيانات إسرائيل للشريعة التي أعطاها الرب قد تقطع الرباط الذي أقامه العهد بين الله وشعبه. هنا وُلدت طقوس التكفير وخصوصاً عيد التكفير العظيم (يوم كيبور أو التكفير). في ذلك اليوم يأخذ الكاهن الاعظم دم الذبيحة ويدخل إلى قدس الاقداس، إلى المكان السري في الهيكل ويرشّ عليه من هذا الدم الذي يرمز إلى حياة الشعب. يرش على الكفّارة التي هي غطاء مصنوع من الذهب وموضوع على تابوت العهد. فالكفارة هي المكان الذي منه يكلّم الله موسى والشعب (خر 17:25- 22؛ لا 3:16- 16). ما كان هدف هذا الطقس؟ أن يعيد رباط القرابة الذي يوّحد الشعب بربه، وأن يمحو خطيئة الشعب.
إذن، حين يقول بولس إن المسيح هو "كفّارة في دمه " (بعد أن صوّر خطيئة العالم)، يعلن أن يسوع سفك دمه فحقّق الذبيحة الحقيقية والنهائية التي تحرّر البشر من الخطيئة وتوحّدهم حياتياً بالله في شعب العهد الجديد.
رابعاً: بينّ الله برّه "حين برّر ذاك الذي يؤمن بيسوع " (3: 26): إذا كان يسوع هو الموضع الحي الذي فيه يصالح الله البشر معه ليكوّن شعبه، إذا كان هذا "برّ" الله الذي يظهر بصورة مجانية في فدائنا، حينئذ نفهم أن الايمان ليس عملاً بشرياً، ليس عملا به نربح الحياة في المسيح. بالايمان نسلّم ذواتنا الى الله، نستسلم إلى نعمة الله فيكون استسلامنا جواباً لعمله.
خامساً: يبرّر الله بالايمان، لا بالأعمال، لا بالعمل البشري. ما هي نتائج هذا الوضع؟ يشير بولس إلى نتيجتين. الاولى: لا يستطيع الإنسان ان يفتخر أمام الله مثل فريسي الإنجيل (لو 9:18- 14)، لأن الإنسان لا يتبرّر بمجهوده الشخصي بل بعطية من الله لم يستحقها. الثانية: إن مخطّط الله الخلاصي هو مخطّط شامل: الله هو إله الجميع. فاليهود واليونان هم متساوون أمامه بالنسبة إلى غفران الخطايا والدخول في الحياة مع المسيح (27:3- 30).

3- حب الله لنا يقين رجائنا (5: 1- 11).
هنا، لن يعود بولس بطريقة مباشرة إلى مسألة تبريرنا، أي عبورنا من حالة الخطيئة إلى الحياة في المسيح. بل يتحدّث عن وضعنا كمسيحيّين مبرّرين، عائشين الآن في المسيح، ومنتظرين السعادة النهائية التي سيشركنا فيها معه: حياتنا في يسوع المسيح في رجاء مجد الله، مؤسّس على حب الله لنا.
أولاً: كتب بولس: "محبة الله سُكبت في قلوبنا بالروح القدس الذي أعطي لنا " (آ 5).
* "
حب الله " هو قبل كل شيء الحب الذي يكنّه الله لنا (آ 8). والايمان لا يعني أولاً أن نحب الله، بل أن نؤمن أنه يحبّنا، وأنه في حبّه، يدعونا لنصير علامات حيّة لحبّه في العالم. و"حبّ الله " هو أيضاً الحب الذي نكنّه لله. ولكن هذا الحب يأتي في الدرجة الثانية. إنه نتيجة حب الله لنا.
*
ما هي العلاقة بين الحب الذي يحبّنا به الله و"الروح القدس الذي أعطي لنا" ؟ نستطيع القول إن الروح القدس هو حب الله الشخصي لنا. فحضور الروح القدس فينا ليس مجرّد حضور. إنه حضور فاعل نحيا من حبّه ونشارك فيه، وحضور الله هذا فينا يجعلنا نحيا في رجاء أكيد.
ثانياً: أعلن بولس مرتين (5: 6- 9؛ 5: 10) أن حب الله هو أساس رجائنا. الحركة هي هي في كل مرة؟ عملَ حب الله ما هو صعب (آ 8: "مات المسيح من أجلنا ونحن بعد خاطئون "؛ آ 10: "حين كنّا أعداء الله"). ونحن متأكدون أنّه يتم عمله فيخلّصنا. في آ 9 يبرز الخلاص في وجهه السلبي: "ننجو من الغضب ". وفي آ 10 يبرز في وجهه الايجابي: "نخلص بحياته".

4- الحياة المسيحية (6: 1- 23)
الحياة المسيحية هي حياة أبناء الله الذين ماتوا وقاموا مع المسيح.
أولاً: "تعمدّنا في يسوع المسيح، فتغمدنا في موته " (آ 3). يفكّر بولس في المعمودية كما عرفها: معمودية بالغين يرتدوّن إلى المسيح. معمودية يحتفلون بها بتغطيس المعمّد في الماء.
الحياة في المسيح هي حياة جماعية. نحن تعمّدنا، لا أنا تعمّدت.
نرتبط بعلاقة شخصيّة مع المسيح.
المعموّدية تدخلنا في ديناميّة السر الفصحي، سر يسوع المائت والقائم. تعمدنا في موته أي اعتمدنا (إرتبطنا) بالمسيح القائم الذي يحمل في شخصه ثمار موته.
في آ 5 نقرأ "اتحدنا به كلياً". هذا يعني: وُلدنا معه ونمينا معه. اذن، هناك بفضل العماد، اتحاد وثيق وحيوي مع المسيح الذي يحوّل كياننا.
ثانياً: "حين مات، مات عن الخطيئة مرة واحدة" (آ 10). حين قال بولس هذا الكلام عن المسيح، لم يعنِ فقط أن يسوع مات بسبب خطايانا، ولا أن يسوع تحرّر من خطيئة اقترفها (لا سمح الله. يقول عكس ذلك في 2 كور 5: 21: "ذاك الذي لم يعرف الخطيئة"). بل يعني: حين تجسّد يسوع فينا تضامن مع بشريتنا الخاطئة. كان قد أخذ بشرية تقدر أن تتألم وتموت مثل بشريتنا، فوجدت نفسها قبل الموت، في شكل من الأشكال، تحت سلطان الخطيئة: وحين مات يسوع حرّرنا من الخطيئة، ولم يعد هو تحت تأثيرها بصورة نهائية. حين قام صار كلّه لله.
ثالثاً: والنتائج التي تفرض نفسها على المؤمن ليست شرائع وفرائض تأتيه من الخارج. إذا كنا بالمعمودية في وحدة حية مع المسيح المائت والقائم، فهذا يعني بالنسبة إلينا طريقة حياة خاصة، وأخلاقية الكائن المسيحي.

5- حياة المسيحيين (8: 1- 39)
حياة المسيحيين هي حياة ينشّطها الروح القدس ويوّجهها نحو المجد.
نص رفيع جداً له مكانته مع التطويبات (مت 5: 1- 12) ونشيد المحبة (1 كور 13) في حياة المؤمنين وفي تاريخ الكنيسة.
أولاً: تُعتبر الحياة المسيحية في واقعها الحاضر، وفي الوقت عينه في اتجاهها نحو المجد: إن انتظار السعادة الكاملة مع المسيح يؤثّر تأثيراً عميقاً على عقليتنا وطريقة عيشنا.
ثانياً: في ف 7 رأينا الإنسان الذي تسحقه الشريعة والذي لا يعود إلى عمل المسيح، رأيناه يتكلّم في المتكلّم المفرد (أنا). أما هنا فنجد من جديد صيغة المتكلم الجمع (نحن أي: المسيحيون) التي تترجم البعد الجماعي في الايمان وفي الحياة في المسيح: لم يُلغِ بولس البعد الشخصي في علاقة الإنسان بالله وبالقريب، ولكنه قالَ مشددّاً: النظرة الفردية إلى الايمان والحياة المسيحية تبقى غير كافية.
ثالثاً: يتكلّم بولس عن حضور الروح الشخصي بقربنا وفينا. قال: "روح الله يسكن فيكم" (آ 9). إن حضور الروح القدس الناشط يميّز حياة كل مسيحي كما يميّز الجماعة المسيحية. وهو يفتحنا على حياة شخصية وجماعية، يفتحنا على حياة حميمة وعميقة مع الله. وهو يوجّه حياتنا إلى القيامة الأخيرة. "فالذي أقام يسوع المسيح من بين الأموات يعطي أيضاً الحياة لأجسادكم المائتة بروحه الذي يسكن فيكم" (آ 11).
رابعاً: "هؤلاء هم أبناء الله: الذين يقودهم روح الله" (آ 14). تجاه حياة يكون فيها الإنسان عبداً للأنانية (البدن، البشرية)، تبدو الحياة المسيحية حياة فيها يترك المؤمنون الروح الساكن فيهم يقودهم ويحرّكهم: إذن الروح هو ذاك الذي يحرّك المسيحيين، وينعش حياتهم من الداخل. وحياة المؤمنين مع الله ليست حياة عبيد خائفين، بل حياة ابناء الله، تتيح لهم أن يقولوا لله حقاً: "باَّ، أيها الآب".
خامساً: "فالخليقة تنتظر بفارغ الصبر ظهور أبناء الله" (آ 19). في هذه الآية يجعلنا بولس نستشف وسع خلاص الله: هذا الخلاص يدرك الإنسان في ذاته، في علاقته بالله، في علاقته باخوته، وحتى في علاقته بالخليقة تحيط به ويتجذّر فيها. يشير بولس الى الإنسان الذي أوكله الله بأن يسود الأرض ويعيش في صداقته. غير أن الإنسان سقط في الخطيئة. لهذا ضاعت الخليقة التي كاظما سترُبط بالله برباط البشرية المتجذّرة في صداقة الله. إنطبعت بوضع البشرية الحالي، فهي "تتوق" إلى وقت تتحوّل فيه وتتركّز كلها على الله بعد أن تتحوّل البشرية.
كل هذا يلقي ضوءاً على معنى العمل والتنظيم الاقتصادي والسياسي في العالم. فإن كان البشر الذين تنعشهم نعمة المسيح، سواء عرفوا أم لم يعرفوا بها، ينظّمون الكون ليصير في خدمة الناس، هذا يعني أن مشروع الله يسير مسيرته. وهكذا يتحقّق في تاريخنا بعض مصير الخليقة النهائي، فتظهر أمامنا صورة بعيدة عن هذا العالم الذي يحوّله الله تحويلاً كاملاً.
سادساً: "ويجيء الروح لنجدة ضعفنا. فنحن لا نعرف أن نصلّي كما يجب" (آ 26). نلاحظ هنا عمل الروح القدس في صلاتنا. وهو يساعدنا لكي نصلّي حسب مشيئة الله (آ 27). إن صلاة المسيحي الحقيقية هي: "لتكن مشئتك" (مت 10:6).
سابعاً: مشروع الله هو أن يمجدّنا مع ابنه. ولهذا ينتهي ف 8 بنشيد نرفعه إلى الله الذي يحبّنا، وقد كتب بولس عن هذا الحب: "الله يعمل كل شيء لخير الذين يحبّونه" (آ 28). آية مدهشة، كم يجب أن نتعمّق فيها في صلاتنا وفي حياة ايماننا.

6- رفض إسرائيل للمسيح (9: 1- 11: 36).
رفض إسرائيل المسيح بشكل موقت، ولكن هذا الرفض لا يعارض الإنجيل الذي بشَّر به بولس.
أولاً: السؤال الذي يطرحه رفض إسرائيل للمسيح: ما الذي حدث ليجد الشعب المختار (الذي نال المواعيد) نفسه خارج شعب العهد الجديد ساعة حقّق الله مواعيده (9: 1- 5)؟
ثانياً: أجاب بولس (نمسك معاً كل عناصر إجابته) جاعلاً نفسه على التوالي في ثلاث زوايا متكاملة:
من جهة الله، عدم أمانة إسرائيل لا تنفي المواعيد وليست ظالمة: الله حرّ في رحمته وفي مجانية حبّه (6:9- 29).
من جهة إسرائيل، ترجح عدم الامانة هذه إلى عدم فهم مخطط الله والإنجيل. لم يشأ إسرائيل أن يفهم فكان مسؤولاً عن تصرّفه (9: 30- 21:10).
من جهة مسيرة الله في تاريخ. هي لا أمانة جزئية وموقتة، وتهدف إلى تحريك ارتداد سائر الشعوب. بعد هذا يدخل إسرائيل في الشعب الجديد (11: 1- 32).
ثالثاً: وأنشد بولس نشيد مديح واعجاب أمام طرق الله السرية، أمام رحمته وحكمته (11: 33- 36).
7-
الحياة فعل عبادة لله (12: 1- 2)
الحياة هي فعل عبادة نؤدّيه لله في الروح القدس. نحن هنا أمام نظرة إلى وجود المسيحيين وحياتهم: يدعونا بولس لكي نؤدي عبادة لله بكل ما يكون حياتنا، وليس بصلاتنا فقط.
أولاً: يدعونا بولس "باسم رحمة الله". هذا يعني أن الروح والطريقة اللتين بهما نؤّدي هذه العبادة لله، تقعان في خط المحبّة التي أظهرها الله برحمته للبشر الذين يريد أن يخلّصهم.
ثانيا: يدعونا بولس أن نقدّم ذواتنا ذبيحة (6: 13، 16- 19)، أن نقدّم حياتنا كلها. أن نقدّم حياتنا الواقعية كما نعيشها كل يوم: إذن، يجب أن نكتشف إرادة الله، ونجنّد نشاطنا كله في كل الميادين ليكون عالمنا كما يريده الله. علينا أن نعمل في الوقت عينه لخير البشر ولمجد الله الذي يحبّهم.
ثالثاً: تقع هذه "العبادة" في خطّ حيث الله، فتبدو عبادة نؤدّيها لله في الروح القدس الذي أعطي لنا. يتحدّث بولس عن عبادة روحية (عقلية، في خط كلمة الله) أي عبادة موافقة لما في الله ولما في البشر. ولكنه حدّثنا طوال رسالته عن إله الرحمة والحب الذي خلّصنا في يسوع المسيح ويحيينا في المسيح منذ الآن. وأعلن أن الله جعل منّا أبناءه، وأفاض حبّه فينا، وأعطانا روحه الساكن فينا. اذن، لن تكون عبادتنا روحية إلا إذا تركنا الروح القدس يحوّل حياتنا لتكون كلها مملوءة بالله وبحبّه للبشر جميعاً.
رابعاً: والطواعية لهذا الروح تساعدنا لنحيا حياة نشيطة وسط البشر حسب إرادة إله الرحمة. نتحدّ مع اخوتنا في الايمان، ونبحث في واقع وجودنا عما يسير بنا في خطّ نداء الله.

عن موقع الأب بولس الفغالي