الرسائل الرعائية

ضعفت الحيويّة في هذه الجماعات التي أسّسها بولس، على المستوى الأخلاقي وعلى المستوى الديني، فلا بدّ من إعادة تفسير الإنجيل بالنظر إلى الظروف التي تغيرّت. وبالنظر إلى حاجات العصر.

1- إلى من كتبت هذه الرسائل
كُتبت إلى تيموتاوس وتيطس. الأول هو المعاون الأمين لبولس ورفيقه في العمل الرسولي. كان مسؤولاً عن كنيسة أفسس وقد عُرف بخوفه بعض الشيء وتحفظه. كانت صحته ضعيفة، وكان متردداً في تصرفاته مرّات عديدة. ولكنه كان شخصاً يُمكن الاعتماد عليه.
والثاني هو رجل ذات طبع قوي. تسلّم مهمّات دقيقة فنجح فيها. إهتمّ بصورة خاصة بجماعات كريت، وهي جزيرة في الجنوب اليوناني.
إتسعت رقعة الإنجيل. فوصلت إلى طبقات جديدة في المجتمع. مثلاً، هناك أشخاص ميسورون حقاً يضعون مواردهم بتصرف الآخرين. "هكذا يخزنون لأنفسهم كنزاً يكون أساساً جيّداً للمستقبل، فينالون الحياة الأبدية" (1 تم 6: 19).
ثم إن الذين في الخارج يتطلّعون إلى هذه الجماعة. هل ستكون نوراً لهم؟ لهذا يُوضع على رأس هذه الجماعات اشخاص ينعمون بصيت حسن. يكون الاسقف "منزّهاً عن اللوم، يقظاً رصيناً محتشماً مضيافاً، صالحاً للتعليم… يحسن تدبير بيته فيعرف أن يعتني بكنيسة الله" (1 تم 3: 2- 5).
يعيش المسيحيون الصعوبات. وهم يتألّمون من أجل إيمانهم. وقد يقعون في تجربة التمرّد على السلطات. لهذا يوصيهم بولس بالولاء لهذه السلطات. نقرأ في 1 تم 2: 1- 2: "أطلب أن تقيموا الصلاة من أجل جميع الناس، ومن أجل الملوك وأصحاب السلطة، حتى نحيا حياة مطمئنة هاديّة". وينبّه بولس تيطس قائلاً: "ذكّر المؤمنين أن يخضعوا للحكام وأصحاب السلطة ويطيعوهم ويكونوا مستعدّين لكل عمل صالح" (تي 1:3).

2- لماذا كتبت هذه الرسائل
هناك نداءات عديدة إلى التوبة؟ وهذا ما يدفعنا إلى القول إن الحالة الاخلاقية في هذه الكنائس لم تكن على ما يرام. لهذا، تعالج كلمة الله وكأنها قاعدة سلوك يتبعها المؤمنون. قال بولس لتيموتاوس: "علِّم هذا وعظ به. فإن علّم أحد غير ذلك فهو رجل أعمته الكبرياء ولا يفهم شيئاً، به هوس بالمناقشات التي يصدر عنها الحسد والشقاق والشتائم والظنون السّيئة، والمنازعات بين قوم فسدت عقولهـم وأضاعوا الحق وحسبوا التقوى سبيلاً إلى الربح" (1 تم 3:6- 5).
جاء معلّمون كذبة وتأثّروا بتعاليم يهودية مشوّهة، فتحدّثوا عن السطر (أخبار في صور على مثال ما في الميتولوجيا)، وعن أنساب لا نهاية لها. وشدَّدوا على محرّمات تتعلّق بالطعام، ومنعوا الناس من الزواج (1 تم 1: 3– 7): زاغوا و"انحرفوا إلى الكلام الباطل مدّعين أنهم من معلمي الشريعة وهم لا يفهمون ما يقولون".
نحن هنا أمام تيارات، لا أمام مجموعات منظمّة في الكنيسة. لهذا يبقى الموضوع الأساسي في هذه الرسائل الثلاث (1 تم، 2 تم، تي): كيف نوجّه الكنيسة، كيف نقودها في خطّ الإنجيل رغم الصعوبات التي تحيط بها؟ وسميّت هذه الرسائل "رعائية" لأنها تتوجّه بصورة خاصة إلى الرعاة أي الذين يتحمّلون مسؤولية الإنجيل في الجماعات المحليّة.
تقدّم هذه الرسائل قواعد الحياة والعمل للذين طُلب إليهم أن يسندوا الجماعات ويوجّهوها. قال بولس لتيموتاوس: "عليك أن تعرف كيف تتصّرف في بيت الله، أي كنيسة الله الحي، عمود الحق ودعامته" (1 تم 15:3).

3- ماذا تعلمنا الرسائل الرعائية عن حياة الجماعات
* كان لهذه المراكز الدينية القديمة حياة ليتورجية خاصة نكتشفها خاصة في الأناشيد الواردة في هذه الرسائل. في 1 تم 1: 17: "لملك الدهور، الاله الواحد الخالد غير المنظور، كل إكرام ومجد الى أبد الأبدين. آمين". نحن هنا أمام مجدلة أي نشيد يُرفع لمجد الله، وهناك فعل ايمان تتلوه الجماعة خصوصاً في عيد الفصح: "لأن الله واحد، والوسيط بين الله والناس واحد هو المسيح يسوع الذي ضحّى بنفسه فدى لجميع الناس" (1 تم 2: 5- 6). وهناك نشيد يُرفع لمجد المسيح في 1 تم 16:3: "ظهر الله في الجسد وتبرّر في الروح (أو بالروح تلميح، إلى القيامة، رج روم 1: 4)، شاهدته الملائكة، أُعلن لدى الوثنيين، آمن به العالم وارتفع في المجد" (أي رفعه الله في المجد).
*
تحدّثت هذه الرسائل عن "الخرافات وذكر الانساب" (1 تم 1: 4) التي يحملها الخصوم. ولكن هناك تعليماً سلِّم إلى الكنيسة هو "الوديعة" التي يحافظ عليها الرسول ويتعلّق بها (1 تم 6: 20). فعلى الكنيسة أن تتمسّك بهذه الوديعة وتنقلها دون أن تحوّر فيها.
لا تحاول هذه الرسائل أن تقنع الناس، ولكنها تكتفي بتحذير المؤمنين من التعاليم الكاذبة. على الكنيسة أن تدافع عن نفسها ضدّ البدع، فتذكّر بالتعاليم في تعابير صارت تقليدية. مثلاً، نقرأ في تي 2: 11- 14: "نعمة الله، ينبوع الخلاص، قد ظهرت لجميع البشر. وهي تعلّمنا أن نمتنع عن الكفر وشهوات هذه الدنيا لنعيش بتعقّل وصلاح وتقوى في العالم الحاضر، منتظرين اليوم المبارك الذي نرجوه، يوم ظهور مجد إلهنا العظيم ومخلّصنا يسوع المسيح (نحن هنا أمام أعلان لألوهيّة المسيح) الذي ضحّى بنفسه لأجلنا حتى يفتدينا من كل شر".
*
واستخرج الكاتب من هذا الايمان النتائج العملية. نحن نترجم هذا الايمان أفعالاً تبرز في لاهوت خلقي متوازن لا يعرف التطرّف. فلقد ظهر حنان الله مخلّصنا… وخلصّنا "بغسل الميلاد الثاني لحياة جديدة بالروح القدس" (تي 3: 4-7). أُعطيت الحقيقة (أعطاها الله) للمؤمنين والروح القدس يحفظها (2 تم 1: 14: "إحفظ الوديعة الصالحة بعون الروح القدس". ويشدّد النص على حياة التقوى أي على أمانة للتعليم ولمتطلّبات البر، على المحبة والصبر والثبات.
*
للكنيسة ماضيها، ويجب علينا أن نبقى أمناء لهذا الماضي الذي اسمه التقليد. والتوصيات المعطاة في كل هذه الرسائل تدلّ على اهتمام باعطاء هذه الجماعات بنية تؤمّن التواصل والاستمرارية. هناك تنظيم مهمّ وخدم داخل هذه الجماعات. هناك الاساقفة الذين يرئسون الجماعة، يردّون على التعاليم الكاذبة، ويعلّمون التعليم الصحيح. وهناك الشمامسة "الذين يحافظون على سر الايمان في ضمير طاهر" (1 تم 3: 9). وهناك الأرامل اللواتي يقمن بعمل الخدمة في الكنيسة (1 تم 9:5-10). ويذكر بولس الشيوخ (القسوس، الكهنة) الذين عُرفوا بصورة خاصة في كنيسة أورشليم (1 تم 5: 17 ي).
*
وأخيراً نعرف بعض الشيء عن نشاط بولس بعد سجنه الاول في رومة سنة 61– 63. حسب 1 تم 1: 23 ذهب إلى مكدونية، وترك تيموتاوس هناك ليهتم بكنيسة افسس. أما 2 تم فتحدّثنا عن سجن قاسٍ عاناه بولس. "حمل القيود كمجرم" (2: 9). وهو عارف كيف ستنتهي محاكمته. عرف أن ساعة رحيله اقتربت (4: 6). وقد أحسّ بالوحدة بعد أن تركه ديماس "حبّاً بهذه الدنيا". سافر كرسكاس إلى غلاطية، وتيطس إلى دلماطية. ولم يبق مع بولس إلا لوقا وحده (4: 10- 11). فعلى تيموتاوس أن يجيء إليه بسرعة.

4- نظرة إلى الوراء وتطلّع إلى المستقبل (2 تم 6:4- 18).
* يُسّر الينا بولس في هذا المقطع بآخر مكنونات قلبه. هو في السجن وهو يواجه الموت القريب ويعطينا معلومات عن الذين شاركوه في العمل: ديماس، كرسكاس، لوقا
*
جاءت ساعة الرحيل. استعمل صورة الملاّح الذي سحب المرساة وسار في عرض البحر. وصورة الجندي الذي يطوي خيمته وينطلق (فل 1: 23). واستعمل أيضاً صورة الذبيحة: يُسكب الدم على الذبيحة (خر 29: 40؛ عد 7:28) قبل أن تقدّم لتحرق. وهكذا يسكب دمه (فل 2: 17). في روم 12: 1- 2 رأى بولس في حياة المعمّد احتفالاً بذبيحة روحيّة. هذا هو المعنى الذي يعطيه لحياته ولموته.
*
ماذا تضمّنت هذه الحياة؟ كانت ملآنة. لقد أتمّ بولس المهمّة. جاهد كما يجاهد المصارع في الألعاب الاولمبية، وثبت حتى النهاية، وحافظ على الالتزامات التي أخذها على عاتقه. ماذا يحفظ له المستقبل (آ 8)؟ يقف بولس موقف الثقة ويرجو من الدّيان العادل "إكليل البر"، عطيّة البر الأخيرة المحفوظة للذين اشتاقوا إلى مجيء الرب في المجد.
*
وبعد أن تحدّث عن معاونيه (آ 9- 15) قال لنا (آ 16) إنه أحسّ نفسه متروكاً كيسوع على الجلجلة. ولكنه يغفر مثل يسوع (لو 34:23) هذا العقوق الذي يؤلمه في الصميم. لم يلفظ القضاء بعد حكمه: نجا بولس من هذا الخطر الجدي (نجوت من فم الأسد) وعرف وقتاً من الراحة. واستفاد من وقوفه أمام محكمة الامبراطور المؤلّفة من وثنيين، ليعلن الإنجيل بجرأته المعهودة: كان الرب له النور والقوّة: نجّاني الرب وحفظني لملكوته السماوي.
*
ولكن بولس واعٍ للنهاية التي تنتظره. سيُحكم عليه بلا شكّ. ولكن الله ينتزعه من يد الذين يريدون هلاكه، ليدخله بصورة نهائية في ملكوته ويشركه في ليتورجية السماء (آ 18). لا نجاة من موت الجسد، بل نجاة من الموت الثاني كما يقول سفر الرؤيا (2: 11).
*
نحن هنا أمام الصفحة الأخيرة التي أملاها بولس على "سكرتيره"، نحن أمام وصيته. يكشف لنا فيها حقيقة حياته: حبه ليسوع المسيح حتى الجنون، حب وصل به إلى بذل حياته. ولكن المهمّة التي بدأ بها الرسول سيتابعها معاونوه، "رعاة" هذه الجماعات. في هذه المهمّة، ساعة يحسّ الإنسان أن الجميع تركوه وأن الملكوت صار قريباً لا محالة، وانه لم يبق شيء، فهو ينهي حياته في الفرح والرجاء لأنه حافظ على الايمان. إن هدوء هذا الشيخ الذي عرف بمن آمن، يساعد على النظر إلى سيرة حياة حاول فيها أن يُعطي حياته للرب وللآخرين. هذا هو هدوء يسوع المسيح الذي سلّم نفسه من أعلى صليبه للآب كما يفعل الطفل عند المساء. قال: "يا أبت في يديك أستودع روحي" (لو 46:23). وهذا ما فعله بولس رسول المسيح.

عن موقع الأب بولس الفغالي