راهب يسوعى يتحدى صراعات الأديان ويوحد البشر

 

 

 

حاوره يوسف رامز

لم أكن أعرفه بشكل وثيق، لكن كلمات بسيطة من صديقة محجبة دفعتنى لأن أقترب منه وبسرعة، فقد قالت :"ممكن نكون مع بعض فى الجنة، أنا حافرح إنى أكون هناك مع أبونا كرستيان". فى الحقيقة اندهشت مما قالته فمثل هذه الكلمات المنادية بوحدة الإنسانية رغم تعدد أديانها، لم أعتد أن أسمعها إلا فى المناسبات والمجاملات الرسمية المشكوك فى صدق أغلبها، لكن أن تصدر بصدق عن زميلة شابة فى حوار شخصى، فإن ما تقوله يصبح مدعاة للتأمل.

الأب "كرستيان فان نيسبن" اليسوعى، رجل يحمل عشرات المتناقضات فى تكامل غريب، فهو كاهن راهب يحمل درجة الدكتوراه من السربون فى "تفسير المنار" للشيخ محمد عبده ومحمد رشيد رضا، وهو فى نفس الوقت مدرس الحضارة الإسلامية بمعهد اللاهوت، هولندى يتكلم العربية بطلاقة، ويعيش فى مصر منذ 40 عاماً، ويرى فى شيخ أزهرى أباً له. هو راهب احتفل باليوبيل الذهبى لرهبنته، ومع ذلك فإن ابتسامة الطفل لا تفارق وجهه أبداً.

وجهه المتواضع الباسم بقسمات السنين، صوته العميق، بالإضافة إلى أجواء دير الابتداء للآباء اليسوعيين بشبرا الدافئة، فرضت على اللقاء سحراً خاصاً. سألناه عن صدام الحضارات، وتقاتل الأديان، وعن الفيلم الهولندى المسىء، وعن مواقف بابا روما المثيرة للجدل تجاه الإسلام، وعن الإخوان المسلمين وجماعتهم وحزبهم المنتظر، وعن الأقباط وهمومهم وما يعانونه، وعن رسالته وسبب حبه لمصر، وعن الإنسان والحقيقة والله…فأجاب..

كيف تفسر ما نراه الآن فى كل مكان من العالم من صدامات وحروب.. هل تعتقد أن الصراع ضرورة؟
"زى ما الناس عاوزين، لو عايزين صراع يبقى فيه صراع، ولو عاوزين تكامل يبقى فيه تكامل"، أنا لا أؤمن بحتمية صدام الحضارات عامة وصدام الأديان خاصة، فمن سمات الحضارة ـ أى حضارة ـ أنها مساحة لالتقاء الناس، الحضارة الإسلامية مثلاً تعد نموذجاً يحتذى فى التقاء الإبداع الإنسانى العميق من كل جنس ودين، عرب وغير عرب، مسلمين ومسيحيين ويهود، هذه الحضارة نتاج عمل وخدمة مشتركة للإنسان والمجتمع، وعلى عكس ما يقال الآن فإن وجود صدام معناه وجود أزمة فى بناء الحضارة وليس وجود صدام بين أكثر من حضارة.

أما أن نقول إن الأديان تتصادم فهذا تناقض ضخم، فالدين هو سلوك إيمانى، والإيمان انفتاح القلب على الله وبالتالى على الآخر (الإنسان)، وأنا شخصياً لم أشعر أبداً أن مسيحيتى تضعنى فى تناقض مع الآخرين.
بمعنى أن القول بوجود "مؤمن متعصب" يساوى مثلاً مقولة هزلية مثل "دائرة مربعة"، إما أن أكون مؤمناً أو أن أكون متعصباً، "لكن الاثنين مع بعض" مستحيل، فالتعصب سلوك غير إيمانى.

لكن ذلك لا يمنع أن هناك واقعاً يقول بأن البشر يتقاتلون كل يوم باسم الله والدين؟
"الأزمات" لحظات صعبة تمر بحياة الإنسان أو بحياة البشرية، لكن هذه الأزمات لا تملك أبداً الكلمة الأخيرة، فقد تنشأ منها أشياء عظيمة أو لا لكنها بطبيعتها مجرد نقاط تحول لا أكثر. وكما أن تطور العلم أتاح لنا أن نلغى المسافات والوقت، بحيث أن ما كان يستهلك قديماً سنوات أصبح أمراً سهلاً يمكن إتمامه فى لحظات ، كذلك تطورت الحضارات بحيث أصبح ممكناً أن يظهر "الصدام" بشكل أسرع من أى وقت مضى، وفى الآن نفسه أصبح ممكناً أيضاً أن نتجاوز الصدام بشكل أسرع كثيراً من أى وقت مضى.
أضخم الصدامات والكوارث فى تاريخ العالم ولدت أكبر الإنجازات وأهم الحضارات، بداية من الإسكندر الأكبر الذى احتل العالم كله تقريباً فى تصرف استعمارى كارثى، لكن السنوات حولت هذا السلوك إلى الحضارة الهيلنستية التى كانت بذرة تطور جديد فى فكر البشرية ككل.

أعرف أنك تعيش فى مصر منذ عقود ولا تذهب إلى هولندا إلا نادراً.. لكنى أود أن أعرف رأيك فى الفيلم الهولندى المسئ للإسلام؟
ببساطة هذا الفيلم " مصيبة"، لكن يجب أن نؤكد أن هذا الشاب لا يمثل هولندا فهو برلمانى عن حزب شديد الضعف، قد لا تجد هولندياً يعرف اسم حزبه، بينما المسلمون فى هولندا مليوناً من 16 مليون وهى نسبة كبيرة بالطبع ومؤثرة.
والأمر الذى ينبغى أن نعرفه أن أغلب الجاليات العربية والإسلامية فى أوروبا، أتوا إلى أوربا منذ عقود كعمال بناء، بمعنى أنهم أتوا من شريحة فقيرة جداً من مجتمعاتهم ـ على عكس ما يحدث الآن ـ وبالتالى كانوا فقراء ثقافياً، ومن استقر منهم راح يبحث عن هوية فى مجتمع لا يستطيع أن يدمج أبناء هذه الطبقات، وكان المجال مفتوحاً لأكثر الناس انغلاقاً من الدعاة كى يقدموا إيجابات الهوية للأقليات المسلمة، وبالتالى تجذر المزيد من الجهل بين الطرفين وطبيعى كلما تزيد فجوة التفاهم بين الناس تزداد الصدامات.
وبالنسبة لكونى هولندياً فهذا "مشكوك فيه" فلقد تهت فى شوارع هولندا أثناء آخر زياراتى لها.

على خلاف سابقيه وفى عدة مواقف مثل تعميد الصحفى مجدى علام وغيرها.. ظهر البابا بنديكت معادياً للإسلام ومنافياً للمبادئ التى أقرها المجمع الفاتيكانى الثانى، والتى تعترف بخلاص كل البشر أياً كان دينهم ولاسيما أصحاب الأديان الإبراهيمية.. بما تفسر ذلك؟
مازحاً.. بغض النظر عما إذا كنت مؤمناً بعصمة البابا أم لا، فإنى أتفق مع رسالة وجهها صديقى سفير الجزائر فى مصر "مصطفى شريف" عندما قال للبابا إنه يؤمن تماماً بالحرية الدينية ويعرف أنه كان واجباً على بابا روما أن يستقبل من يأتيه لقبول المسيحية، لكنه ـ وأنا أشاركه القول ـ لم يستطع أن يتفهم سبب تعميد مجدى علام فى ليلة عيد القيامة وأمام أضواء الكاميرات، والمفروض أن علام لو كان قد قبل المسيحية بصدق، فهو إذا ملزم بحب الجميع كأهم وصايا المسيحية، أما أن يقول إنه قبل المسيح ثم يكتب مقالاً به هجوماً على الإسلام فهذا ضد "إيمانه المسيحى"… صحيح أن ما فعله علام فى مقاله لا يتحمل مسئوليته البابا، لكن هذا السلوك الذى فعله البابا خلال تعميد علام يظل محل تساؤلات.
وصحيح أن البابا بنديكت لم يعلن أنه ضد سابقيه (ولاسيما يوحنا بولس الثانى) لكن الكثير من اللقاءات التى يعقدها للقاء بين الأديان، لا تزيد عن لقاءات مجاملات عكس ما كان عليه الحال فى وقت سابق.

من روما والغرب ننتقل إلى مصر وبالتحديد إلى جماعة الإخوان المسلمين والتى يصادر باستمرار حقها فى ممارسة النشاط السياسى، وفى الغالب يكون الأقباط هم الأكثر تخوفاً من هذه الجماعة.. ما رأيك؟
أنا كراهب لا أشترك فى أى تيار سياسى، لكنى كإنسان أحيا فى مصر "من زمان" أؤمن بالطبع بأن للإخوان المسلمين الحق فى الاشتراك فى الحياة السياسية بحرية، حتى لو كان اشتراكهم هذا على أساس بعد دينى، بشرط ألا يكون توجههم يشمل استبعاد الآخر الدينى، أو الآخر المختلف معهم فى نفس الدين.
ومن الممكن جداً أن يكون هناك برنامج سياسى لحزب إسلامى لا يستبعد الآخر، لكن يظل أن تحقيق ذلك أمر "مش سهل"، فى ظل حالة الخطاب الدينى المتردية فى مصر، والتى ـ على عكس المفترض ـ شهدت تراجعاً مستمراً فى السنوات الأخيرة على المستويين الإسلامى والمسيحى.

هل تعتقد أن الأقباط يعانون اضطهاداً. بالفعل وكيف تفسره؟
الأقباط يعانون من التمييز ضدهم بالتأكيد، لكن لابد وأن نلتفت إلى معنى المصطلحات، فالتمييز يختلف عن الاضطهاد وعن التفرقة، لا يمكن أن نعتبر أن هناك "اضطهاداً"، الحقيقة أن هناك أزمة عامة فى المجتمع، بحيث أصبح التفاعل والترابط فى المجتمع أقل كثيراً من الستينيات مثلاً، وبالتالى هناك فرز وتمييز ضد الأقباط، صحيح أن الأقباط والمسلمين لايزالون يعيشون وحدة ثقافية إلى حد بعيد، لكن المسافة بينهما تزداد، هذا فى الوقت الذى تلعب فيه المؤسسات الدينية دوراً سلبياً تغلفه بغطاء يظهر أن دورها إيجابى، فالكنيسة واجهت خوف المسيحيين على بناتهم وأبنائهم بأن تقدم جميع الخدمات الاجتماعية التى تغنى القبطى عن التفاعل والاحتكاك مع المجتمع، وبالتالى عزلت الأقباط، فتفاقم جهل الطرفين ببعضهما البعض فتفاقمت الأزمة، وقامت المساجد بدور مماثل.

يقولون إن الكاثوليك يعانون أكثر من غالبية الأقباط لأنهم ببساطة أقلية داخل أقلية؟
صحيح أن الكاثوليك فى مصر أقلية مذهبية داخل أقلية دينية، لكن هذه العقدة يسهل التخلص منها، فالشاب الكاثوليكى إذا أراد، يستطيع أن يعيش بطريقة صحية وفق مفهوم المواطنة التى ترحب بالتعدد، والأمثلة كثيرة فى هذا الوطن لرجال كاثوليك أو من أقليات مذهبية نجحوا فى تقديم إضافات حقيقية لهذا الوطن، مثل يوسف شاهين والأب جورج قنواتى وفايز فارس.. وآخرين.

الأب كرستيان كيف تعرفت أنت شخصياً على الآخر الدينى؟
منذ كنت صغيراً وأنا‏ ‏مهتم‏ ‏بأن أكتشف الطرق غير المعتادة، وأحببت كثيراً أن أعرف الآخرين، والمعرفة‏ ‏أولى ‏مراحل "الالتقاء"، تلك الكلمات التى كانت تعنى لى الكثير بالإضافة إلى آية تقول "وأعطانا‏ ‏خدمة‏ ‏المصالحة" وهذه‏ ‏الآية‏ ‏كانت‏ ‏هى ‏رسالتى ‏أثناء‏ ‏دعوة‏ ‏الرهبنة.

فى 17/8/ 1962‏ أتيت لمصر لليلة واحدة، كانت فرصتى لأن أتذوق مصر فى أول وأسرع زيارة لها. ثم ذهبت إلى بيروت‏ لتعلم ‏اللغة‏ ‏العربية،‏ وكان معلمى يقول إن هناك من يدرس اللغة لكى يوصل ما يريد أن يقول وحسب، ولكن هناك من يدرس اللغة لكى يسمع ما تريد أن تقوله له اللغة والحضارة التى تقف وراءها عندما يتذوقها.
‏ وسرعان‏ ‏ما‏ ‏عدت‏ ‏إلى ‏مصر‏ لاستكمال‏ ‏الدراسات‏ ‏العليا‏ ‏فى ‏الفلسفة‏ ‏الإسلامية‏ ‏فى ‏كلية‏ ‏الآداب‏ ‏جامعة‏ ‏عين‏ ‏شمس‏ ‏تحت‏ ‏إشراف‏ ‏د‏.‏عبد‏ ‏الرحمن‏ ‏بدوى، ‏وهناك‏ ‏تعرفت‏ ‏على ‏صديقى محمود‏ ‏رجب وكان‏ ‏والده‏ ‏شيخا‏ً ‏أزهرياً جليلا‏ً ‏تبنانى ‏كابن‏ ‏له، ‏وأذكر‏ ‏أنه‏ ‏طلب‏ ‏يوما‏ً ‏من‏ ‏ابنته‏ ‏فاطمة‏ ‏أن‏ ‏ترسم‏ ‏لى ‏صورة‏ ‏للعذراء‏ ‏مريم‏ ‏والطفل‏ ‏يسوع‏ ‏حتى ‏تحمينى ‏أثناء‏ ‏سفرى ‏إلى ‏فرنسا‏، وكانت علاقتى بهذه الأسرة هى مدخلى لمعرفة الآخر الدينى بشكل حقيقى.

الأب كرستيان وأنت مدرس للفلسفة تقول إن المؤمن يستطيع أن يقبل الآخر أكثر من غيره، كيف أعتقد أنى صحيح والآخر صحيح فى نفس الوقت؟
‏‏لدى رد سهل….أتمنى أن يصل كل إنسان ورث الدين إلى شىء من الاقتناع الشخصى ـ فى تجربته الإنسانية الفردية ـ بأنه صحيح عندما،‏ ‏أختبر‏ ‏أننى ‏مسيحى ‏والمسيحية‏ ‏صحيحة‏ ‏أو‏ ‏أننى ‏مسلم‏ ‏والإسلام‏ ‏صحيح‏ ‏سأعرف‏ ‏أن‏ ‏الحقيقة‏ ليست صنماً أو جماداً سابق التجهيز.
الحقيقة ديناميكية…الحقيقة هى التى ‏تمتلكنا‏ وليس نحن نمتلكها .. ‏وفى ‏آخر‏ ‏الأمر‏ "‏الحق‏" ‏هو‏ ‏الله‏ ‏ونحن‏ ‏نبحث‏ ‏فى "حركة" متجهة‏ ‏نحوه‏ ‏عبر‏ ‏الضمير‏… والحمد لله أنه وحده يعرف الضمير ويعرف كيف يحكم عليه.
وأعتقد أن كتابى "مسيحيون‏ ‏ومسلمون‏ ‏إخوة‏ ‏أمام‏ ‏الله" يمكن أن يقدم إجابة على هذا السؤال، فالناس يمكن أن يقتربوا من الحقيقة بأشكال مختلفة، فالحقيقة حركة ديناميكية نحو الله، وبهذا المعنى أعتقد أن المسلمين محقون تماماً فى حياتهم وإيمانهم، وفى نفس الوقت‏ فإننى ‏مقتنع‏ ‏بالحقيقة‏ ‏فى ‏شخص‏ ‏يسوع الذى يدفعنى لأتفهم كل حقيقة عند الآخرين وأفرح بها‏.‏

ما رسالتك فى عيد القيامة؟

القيامة هى الكلمة الأخيرة للرجاء بأن حب الله لنا أقوى من كل قوى الموت، مهما بدت مسيطرة، فمن خلال تحكم الدمار والموت وقوته تظهر محبة الله بقوتها المتزايدة الحقيقية المحيية.

لمعلوماتك..

الرهبنة اليسوعية ( الجيزويت)
هى إحدى حركات الرهبنة الكاثوليكية، نشأت فى القرن الرابع عشر على يد القديس أغناطيوس دى ليولا، وتعتبر الآن من أكبر رهبانيات الرجال المسيحية فى العالم .
فى مصر أسست الرهبنة اليسوعية خمسة مسارح ضخمة كاملة التجهيز فى المنيا والإسكندرية والقاهرة بالإضافة إلى أربع مدارس وعشرات الجمعيات الفنية والتنموية و ثلاثة مراكز ثقافية، ولرهبانها المئات من الكتب المطبوعة بلغات مختلفة على رأسها العربية ثم الفرنسية فى العديد من الموضوعات العامة والعلمية والسياسية والثقافية والدينية.

مجمع الفاتيكان الثانى (1962 – 1965):
الحدث الدينى الأهم فى تاريخ الكنيسة الكاثوليكية الحديث، حيث اجتمع مئات الأساقفة والمطارنة من كل العالم بهدف إرساء قواعد لتجديد الخطاب الدينى الكاثوليكى وفقاً لمتغيرات الزمان والمكان فى القرن العشرين.

عن موقع اليوم السابع

 

الأب كرستيان فان نيسبن..