عظة الكاردينال بيل لدى افتتاحه يوم الشبيبة العالمي

"تطلعوا إلى المستقبل الممتد أمامكم"

 سيدني، أستراليا، الأربعاء 16 يوليو 2008

 ننشر في ما يلي العظة التي ألقاها الكاردينال جورج بيل، رئيس أساقفة سيدني، في القداس الإفتتاحي ليوم الشبيبة العالمي في بارانغارو.

 وكانت القراءات في القداس: نبوءة حزقيال 1:37-14؛ المزمور 23؛ الرسالة إلى غلاطية 16:5-17، 22-25؛ ولوقا 4:8-15.

 ***

نعلم جميعاً أنه كثيراً ما يتم وصف ربنا بالراعي الصالح في مزمور اليوم. ويقال لنا أنه يوردنا إلى مياه الراحة، يرد نفوسنا، ويريحنا بسلام.

 لإيضاح هذه الصورة، شرح يسوع أن راعٍ كهذا كان مستعداً لأن يترك الخراف التسعة والتسعين ليبحث عن الخروف الضال.

 في بعض بلدان اليوم، هناك راعٍ يهتم فقط بعشرين أو ثلاثين خروفاً، أما في أستراليا، ومع وجود حظائر واسعة، وأسراب ضخمة، فإن نصيحة ربنا ليست عملية جداً. إن كان الخروف الضال ثميناً، وربما سليماً، فلا بد من البحث عنه، ولكنه عادةً ما يُترك أو لا تتم حتى ملاحظة غيابه.

 لقد قال يسوع أنه وأباه ليسا كذلك، لأنه يعلم كلاً من خرافه، وكالأب الصالح يذهب للبحث عن الضال الذي يحبه، بخاصة إن كان مريضاً، أو في ورطة، أو غير قادر على مساعدة نفسه.

 في بداية هذا القداس، رحبت بكم جميعاً في أسبوع يوم الشبيبة العالمي، والآن أكرر هذا الترحيب بكم. لكنني لا أبدأ بالخراف التسعة والتسعين السليمة، المنفتحين مسبقاً على الروح، وربما الشهود الثابتين للإيمان والمحبة، لا بل أبدأ بترحيب وتشجيع أياً كان، حيثما كان، والذي يعتبر نفسه ضالاً، في حالة حزن شديد، ورجاء ضئيل، لا بل مستنفد.

 لا يزال المسيح يدعو الذين يعانون للمجيء إليه لكي يشفيهم، كما فعل على مر ألفي سنة، أكانوا شباناً أو شيوخاً، رجالاً أو نساء. أما أسباب الجراح هي ثانوية تماماً، إن كانت مخدرات أو كحول، أو تفكك عائلة، أو شهوة الجسد، أو الوحدة، أو الموت، أو حتى الخلو من النجاح.

 إن دعوة المسيح موجهة إلى جميع الذين يعانون، وليس فقط إلى الكاثوليك، أو إلى المسيحيين الآخرين، وإنما هي موجهة بخاصة إلى من لا دين لهم. إن المسيح يدعوكم إلى البيت، إلى المحبة، والشفاء، والجماعة.

 لقد كانت القراءة الأولى من حزقيال، مع أشعيا وأرميا، أحد الأنبياء العظام الثلاثة لدى اليهود. ما تزال مناطق كثيرة في أستراليا بحالة جفاف، إذاً يفهم جميع الأستراليين وادي العظام اليابسة والهياكل العظمية الهزيلة. ولكن هذه الرؤيا المروعة مقدمة أولاً لأي منكم ولكم جميعاً، أنتم الذين تقولون "ضاع رجاؤنا، نحن أموات".

 هذا ليس صحيحاً أبداً لأنه ما يزال باستطاعتنا الاختيار. في ظل وجود حياة، هناك دوماً خيار الرجاء، ومع الرجاء المسيحي ينشأ الإيمان والمحبة. ونحن قادرون دوماً وحتى النهاية على الاختيار والتصرف.

 إن رؤيا وادي العظام الأكثر دراماتيكية في الكتاب المقدس، أعطيت عندما وضع الله يده على حزقيال عندما كان اليهود أسرى في بابل، ربما في بداية القرن السادس قبل الميلاد. لقد بقيت الأقدار السياسية  للشعب اليهودي طوال مئة وخمسين سنة في انحطاط، أولاً على أيدي الأشوريين، ولاحقاً في سنة 587 قبل الميلاد، حدثت الهزيمة المروعة الأخيرة ونقلوا إلى المنفى. لقد كان الشعب اليهودي يائس، وغير قادر على تغيير وضعه.

 هذا هو الإطار التاريخي لرؤيا حزقيال حيث كان الأموات أمواتاً فعلاً، هياكل عظمية شاحبة، بعد أن أنهت الطيور الضارية عملها المروع في نهش أجسادهم. لقد كانت ساحة قتال كبيرة لغير المدفونين.

 لقد دعا الله حزقيال المتردد والمقاوم، إلى التنبؤ على هذه العظام، فتنبأ وتقاربت العظام كل عظم إلى عظمه محدثة صوتاً قوياً، ومصحوبة بزلزال. ونشأ العصب واللحم عليها، وبسط الجلد عليها.  

 وكانت هناك حاجة إلى مرحلة أخرى، فأتى الروح من أقطار المسكونة الأربعة، "فاستعادوا الحياة، ووقفوا على أرجلهم، جيشاً عظيماً جداً جداً".

 فيما نرى الآن هذه الرؤيا كتصور مسبق لقيامة الأموات، لم يؤمن اليهود في زمن حزقيال بتصور الموت بهذه الطريقة. بالنسبة لهم، كان الجيش الضخم الذي قام من الموت يمثل كل الشعب اليهودي، من المملكة الشمالية الذين أٌخذوا إلى أشور، وهؤلاء الذين في البلاد، وفي بابل. كان يجب إعادة جمعهم كشعب في أرضهم، فيعلمون أن من فعل ذلك هو الله الأوحد وحده. فكان ذلك.

 لقد استخدم المسيحيون هذا النص على مر القرون، في زمن الفصح، وبخاصة لعماد الموعوظين الجدد يوم السبت المقدس، مما يشكل بالطبع صورة قوية لقدرة الله الواحد الحق على تجديد الحياة والأزل.

 إن الحكمة الدنيوية تطلب من الناس عدم تغيير طباعهم، ولكننا نحن المسيحيون، نؤمن بقوة الروح  لتحويل وتغيير الأشخاص من الشر إلى الخير، ومن الخوف والشك إلى الإيمان والرجاء.

 وتشدد رؤيا حزقيال عزيمة المؤمنين، لأننا نعلم قوة مغفرة الله، قدرة المسيح، والعادات الكاثوليكية لإحداث حياة جديدة تزدهر حتى في ظروف بعيدة الاحتمال.

 هذه القوة المماثلة التي نلمحها في رؤيا حزقيال تُقدَم لنا اليوم، لنا جميعاً من دون استثناء. أنتم، أيها الحجاج الشباب، بإمكانكم أن تتطلعوا إلى المستقبل الممتد أمامكم، المليء بالوعود. إن مثل الزارع والبزرة في الإنجيل يذكركم بالفرصة العظيمة التي تملكونها من أجل قبول دعوتكم وإنتاج حصاد وفير، ومحصول ضخم.

 لقد وضع متى، ومرقس، ولوقا مثل الزارع في بداية مجموعة أمثال يسوع. وهذا المثل يشرح بعض الحقائق الأساسية عن التحديات التي تواجه التلمذة المسيحية، وتعدد البدائل من أجل حياة مسيحية مثمرة. فالإيمان ليس أوتوماتيكياً أو محتوماً.

 إن تفصيلاً واحداً يجعل من هذا المثل أكثر قبولاً، وهو أن اليهود في زمن ربنا كانوا يرمون البذار على الأرض قبل حرثها، وللتفسير بشكل أفضل، لقد رُميت البذار في أماكن غير محتملة بدلاً من وجودها في الأثلام.

 هل نحن من هؤلاء الأشخاص الذين خطف منهم الشرير الإيمان، كما فسر ربنا صورة طيور السماء التي التهمت البذار؟ لا أحد في هذه الذبيحة الإلهية من هذه المجموعة. من الممكن أن يكون بعضكم مثل البذار على الأرض الصخرية التي لا أصل لها. من المحتمل أن يكون الأشخاص في هذه المجموعة الثانية يناضلون للبدء من جديد في الحياة الروحية، أو على الأقل ينظرون في إمكانية القيام بذلك. ولكننا، بمعظمنا، في المجوعتين الثالثة والرابعة، حيث وقعت البذار في الأرض الجيدة، وهي تنبت وتثمر، أو أننا في خطر الاختناق بهموم الزمان. يجب علينا جميعاً، بما فينا الذين لم يعودوا شباباً، أن نصلي من أجل الحكمة والمثابرة.

 لا أجد أي مشكلة في الإيمان بأن ربنا فسر معنى هذا المثل إلى أقرب أتباعه، وأنهم كانوا ليسألوه دوماً عن ذلك. ولكن أسئلة التلاميذ أحدثت جواباً مربكاً، عندما قسم ربنا السامعين إلى مجموعتين؛ أولئك الذين تُعطى لهم أسرار الملكوت، والآخرين الذين يٌقدم لهم كل شيء بالأمثال. ويصف النبي أشعيا هذه المجموعة الثانية بأولئك الذين "ينظرون ولا يبصرون، يسمعون ولا يفهمون". لربما يكون إطار هذا الأمر انذهال تلاميذ ربنا بالعدد الكبير الذي لم يقبل بتعاليمه.

 لماذا ما تزال الأمور على حالها؟ ماذا يجب أن نفعل لكي نكون بين هؤلاء الذين تُعطى لهم أسرار الملكوت؟

 ما تزال دعوة الله الواحد الحق غامضة، وبخاصة في زماننا الحاضر عندما يجد الكثير من الناس صعوبةً في الإيمان بها. حتى في زمن الأنبياء، بقي العديد من سامعيهم صماً وعمياناً روحياً، فيما أُعجب الكثير على مر الزمان بتعاليم يسوع، ولكنهم لم يتحركوا لتلبية ندائه.

 تكمن مهمتنا في الانفتاح على قوة الروح، والسماح لرب المفاجآت بالعمل من خلالنا. إن تحفيز الإنسان معقد وغامض، لأن بعض الكاثوليك الأشداء، وبعض المسيحيين الأشداء الآخرين، يقومون أحياناً بالصلاة والعمل الجيد، ولكنهم يكونون أيضاً مصممين على عدم اتخاذ أي خطوة إلى الأمام. ومن جهة أخرى، يكون بعض أتباع المسيح الأقل حماساً وإيماناً، منفتحين على التقدم، والتغيير للأفضل لأنهم يدركون عدم استحقاقهم، وجهلهم. أين أنتم من هذين الفريقين؟

 مهما كان وضعنا، يجب أن نصلي من أجل انفتاح القلب، ومن أجل إرادة اتخاذ الخطوة التالية، حتى إن كنا نخاف أن نغامر كثيراً. إن أخذنا بيد الرب، سيقوم هو بالباقي. الثقة هي المفتاح. والله لن يخذلنا.

 كيف لنا أن نعمل على تجنب الانزلاق من المجموعة الأخيرة والأفضل لحاملي الثمار إلى مجموعة "المختنقين بهموم الحياة، وثرواتها، وملذاتها" الذين لا ينتجون أي ثمار؟

 إن القراءة الثانية من رسالة بولس إلى غلاطية تدلنا على الطريق الصحيح، مذكرة إيانا بأنه يجب على كل شخص أن يعلن نفسه في الصراع القديم بين الخير والشر، بين ما يسميه بولس الجسد والروح. ليس من الجيد أن نكون مسافرين، وأن نحاول العيش في "أرض خالية من البشر" بين الأطراف المتصارعة. فالحياة تجبرنا على الاختيار، وبالتالي تدمر أي احتمال حياد.

 سوف ننتج المزيد من الثمار الجيدة بتعلم لغة الصليب ونقشها في قلوبنا. فإن لغة الصليب تؤتينا بثمار الروح التي يعددها بولس، وتسمح لنا بعيش تجربة السلام والفرح، وبالشعور بالحنان والسخاء تجاه الآخرين. إن اتباع المسيح ليس مجانياً، ولا سهلاً على الدوام، لأنه يتطلب الصراع ضد ما يسميه القديس بولس "بالجسد"، وغرورنا القاسي، وأنانيتنا الباطلة. إنها معركة مستمرة، حتى بالنسبة للأشخاص أمثالي!

 لا تمضوا حياتكم في البقاء على حدة، والحفاظ على تعدد الخيارات، لأن الالتزامات وحدها قادرة على الإنجاز. إن السعادة تنشأ عن القيام بواجباتنا، بخاصة في المسائل الصغيرة وبانتظام، لكيما نسمو لمواجهة التحديات الأكثر صعوبة. وقد وجد الكثير من الأشخاص دعوة حياتهم في أيام الشبيبة العالمية.

 إن المطلوب منا هو الانضباط من أجل أن نصبح رسل يسوع، وبخاصة ضبط النفس، أي ما يسميه القديس بولس تمالك النفس. إن ممارسة تمالك النفس لا تجعل منك كاملاً (إذ لم تجعلني كذلك)، ولكن تمالك النفس ضروري لتطوير وحماية المحبة في قلوبنا، وتجنيب الآخرين، بخاصة عائلتنا وأصدقائنا، الأذى من جراء زلاتنا في الشر أو الكسل.

 أصلي من أجل أن تنضموا جميعاً، من خلال قوة الروح، إلى هذا الجيش الضخم من القديسين، والمعافين، والمولودين من جديد، الذي تم إيحاؤه لحزقيال، مُغنياً تاريخ البشرية لأجيال عديدة، والذي ستتم مكافأته ما بعد الحياة، في الفردوس.

 دعوني أختتم بتكييف إحدى العظات الأقوى للقديس أغسطينوس، اللاهوتي الأكثر براعةً في الألفية الأولى، والأسقف في هيبو، البلدة الصغيرة في شمال إفريقيا، منذ حوالي 1600 سنة.

 أتوقع أن ترتفع أرواحكم خلال أيام الصلاة الخمسة القادمة، كما يحدث معي دوماً، في حماس يوم الشبيبة العالمي. وأطلب من الله أن يمنحنا جميعاً السعادة لأننا شاركنا على الرغم من التكاليف، والتعقيدات، والمسافات. خلال هذا الأسبوع، لنا كل الحق في الابتهاج والاحتفال بتحرر توبتنا، وتجديد إيماننا. ونحن مدعوون لأن نفتح قلوبنا لقوة الروح. وأذكر الشباب بأنه لا يجب نسيان الإصغاء والصلاة حتى في الحماسة والفرح!

 لقد سافر البعض منكم لمسافات طويلة، حتى أنهم باتوا يعتقدون أنهم وصلوا إلى أقاصي المسكونة! في هذه الحالة، هذا أمر جيد فعلاً، لأن ربنا قال لتلاميذه الأولين أنهم سيكونون شهوداً له في أورشليم وفي أقاصي الأرض. وقد تحققت هذه النبوءة في شهادة العديد من المرسلين إلى هذه القارة الجنوبية الفسيحة، وتحققت مجدداً بوجودكم هنا.

 ولكن هذه الأيام سوف تمر بسرعة جداً، وسوف نعود في الأسبوع القادم مجدداً إلى الأرض. ولوقت معين، سوف يكتشف البعض منكم العالم الحقيقي الفاتر والمخيب للبيت والرعية، للعمل والدراسة.

 قريباً جداً، سوف تذهبون جميعاً. باختصار، نحن الآن هنا في سيدني، في مركز العالم الكاثوليكي،  ولكن الأب الأقدس سوف يعود الأسبوع القادم إلى روما، ونحن في سيدني سوف نعود إلى أبرشياتنا، فيما تعودون أنتم الحجاج الزوار، إلى منازلكم القريبة والبعيدة.

 بمعنى آخر، سوف نفترق في الأسبوع الآخر، عن بعضنا البعض. ولكن عند افتراقنا بعد هذه الأيام السعيدة، دعونا لا نفترق أبداً عن الله المحب وابنه يسوع المسيح. ولتثبتنا في هذا القرار مريم أم الله التي نطلب شفاعتها في يوم الشبيبة العالمي هذا كسيدة الصليب الجنوبي.

 كما أصلي لأن يأتي روح الله من الجهات الأربع، من جميع أمم وشعوب الأرض، ويبارك بالروح القدس أرضنا الجنوبية العظيمة.

 واجعلنا أيضاً أن نكون جيشاً عظيماً جداً جداً من الخدام المتواضعين، والشهود المؤمنين.

 ونتلو هذه الصلاة لله أبينا، باسم المسيح ابنه. آمين. آمين.

 
الكاردينال جورج بيل

رئيس أساقفة سيدني

 

نقلته من الانكليزية الى العربية غرة معيط