الصداقة: ظروفها وخواصها

مقدمة: [1]

في حياتنا اليومية يعتاد الإنسان على الالتقاء بالآخرين، فمثلا في مجال العمل هناك بعض الأمور التي تحتم عليه الالتقاء بالآخرين و التحدث معهم في أمور مشتركة، وأيضاً في أوقات الفراغ، ومن هنا تنمو الصداقة بينهم، فكل منهم مهتم بما للآخر ولتقدمه لقد أصبح من الصعب النظر إلى الصداقة كفضيلة .. فكيف تكون عادة جيدة بناءة فيما بينهم؟

وعن أقوال القديس توما الأكويني:" الصداقة من الفضائل لأنها عاده نابعة من داخل الإنسان وتندرج تحت مظلة العدالة حيث أنها علامة على المشاركة بين الآخرين، ولكنها تختلف عن العدالة في أن العدالة تنظر إلى الصداقة على أنها استقرار قانوني و لكن أساسها أخلاقي وللصالح العام دائماً وبالتالي فنحن نناقش هنا العاطفة غير الهادفة للجميع " .

فقبل النظر إلى كيفية تعليم الصداقة يجب أن نوضّح شيئاً هاماً، ففي وصفنا للصداقة في البداية أشرنا إلى بعض الأمثلة للالتقاء بالآخرين و التي هي روتينية تحدث يومياً بين الناس. ولكننا لم نستوضح  هل هذه الأمثلة هي الطريقة الوحيدة للالتقاء بالآخرين أم الشخص الذي ينشغل في هذه اللقاءات لا يحتاج إلى خواص اجتماعية أخرى؟! بمعني آخر، هل تنشأ الصداقة بين اثنين  ذوي تصرف غير أخلاقي؟ فالصداقة تنشأ من الصلاح وتنمو كما ينمو الصلاح داخل الإنسان. فهذا النمو بالتالي يجعل الإنسان محبوباً أكثر ولديه قدرة أكبر على العطاء والحب. وهكذا فغير الصالحين ليسوا فقط أشرار و يجتمعون لأنهم أشرار بل لأن بداخل كل واحد فيهم هناك الصلاح والذي يستجيب إليه الآخرون. وبالتالي لا توجد الصداقة حيث لا يوجد صلاح.

يجب آلا ننسى أن الصداقة في مفهومها تعني ارتباطاً شديداً أو علاقة وثيقة. وبالتالي فالإنسان العادي  لا يمكن أن تكون لديه صداقة وثيقة إلا إذا أكتشف مدى المحبة وتعلّم كيف يُشارك الآخرين. ومن هذا المنظور يجب أن نُفرّق بين الصداقة وبعض الأشياء الأخرى التي قد تكون مرتبطة بها:" فالروح الاجتماعية تمتد لكل الناس، المحبة بين الجار والجار، للناس المحيطين بنا، والصداقة بين الصديق والآخر". ولكن في الحياة العملية من الصعب أن تنشأ الصداقة إلا إذا تدّخل الشخص في مصالح عامّة مع الآخرين،  فالمقصود هنا هو اكتساب فضيلتي المحبة و الصداقة و تطبيقها على جميع الناس حسب الصلاح المسيحي، لأن هذه هي الطريقة الوحيدة التي تجعل قلوب الناس تحرّك مشاعرهم  وبالتالي تتطور إلى صداقه. 

 

1. الصداقة : ظروفها و خواصها

في حياتنا اليومية نجد أن الكبار يشتركون في كل أنواع العلاقات الإنسانية  المرتكزة على العمل أو النشاطات المختلفة في أوقات الفراغ  والتي قد ينتج عنها استمرار العلاقات أو إيقافها. فعلي سبيل المثال يمكننا  دعوة زوجين قد سكنا بالقرب مؤخراً، ومن خلال المحادثة نحاول معرفة ما هي الموضوعات المشتركة فيما بيننا وبالتالي نتبادل الآراء والانطباعات، فيمكننا التحدث عن الأطفال ومدارسهم،  وبعض المناطق المختلفة في البلد الخ. و يبدو أيضاً أنه من الطبيعي اكتشاف ما يعجب الآخرين وما عملهم ( مع العلم بأن بعض الناس ليس لديهم مصلحة في معرفة الآخرين أو حتى الالتقاء بهم وقد يرجع ذلك إلى الكبرياء أو الخجل ) وبالتالي فمن الشروط الأساسية لأي علاقة صداقة وجود شئٌ مشترك بين الأفراد والذي يتضمن وجود بعض الصفات أو الطباع مشتركة بينهم بالإضافة إلى القبول المتبادل بين الطرفين، وإذا نتج عن ذلك نمو لعلاقة أعمق وانضج، إذا فُهم على استعداد تام للمشاركة في الخبرات، والمشاعر، والأفكار وأيضاً آمالهم في الحياة.

 

فأبنائنا يصادفون مواقف من هذا القبيل، في المنزل، في المدرسة وفي الأندية بالنسبة لصغار السن، فليس كل معارفهم هم أصدقائهم، حتى ولو اشتركوا معهم في العديد من الأنشطة .هكذا عندما نضع مسألة السن في الاعتبار، نجد أن العلاقات ستتفاوت في مدى عمقها أو مفهومها وذلك عندما نأتي لتنظر إليها على أنها مجرد صداقه ‍‍‍‍‍! فهل يمكننا مثلاً أن نطلق كلمة صداقة على العلاقة بين الأباء والأبناء، أو حتى بين الصبية و الفتيات الصغار؟!

هنا سوف يختلف المفهوم الأساسي للصداقة، فهي لم تعد مجرد مشاركة في بعض الأنشطة  أو التعرّف على أحد وعلاقة لمدة طويلة .. فالصداقة تحتم بعض الاتصال والذي قد ينتج عن عمل طويل أو اجتماع مدته نصف ساعة . فهي ارتباط روحي حرّ يجمع كل المشاعر القوية الخلاّقة و المتبادلة للمحبة لدى الإنسان، فهي اتصال خالٍ من أي جنس، أو غريزة أو اشتهاء للجسد .

 

وبالتالي نجد أنه من الممكن تكوين علاقة صداقة بين الأباء وأبنائهم، بل بالأحرى تتعدى العلاقة أكثر من الصداقة والمشاعر المرتبطة بها. فكلّما كان هناك اتصالٌ دائمُ بين أفراد الأسرة بحيث يحاول كل فرد فيها مساعدة الآخرين على النمو، هنا تنشا الصداقة. ولكن يجب الأخذ في الاعتبار ببعض الأباء الذين يعملون على معرفة أخبار أبنائهم و مساعدتهم ومساندتهم بدون اعتبار لرد فعل للابن إلا أن ذلك لا يندرج تحت الصداقة. ففي الغالب يتّفق الجميع، أنه من المهم أن يكون الأباء أصدقاء لأبنائهم بحيث يقدر الأبناء على الإدلاء بأدق تفاصيل حياتهم مع حفظ السرية، ذلك سوف يُنشأ جواً من الثقة المتبادلة والاتصال فيما بينهم. وهكذا لا يقدر الأباء أن يفرضوا الصداقة على أبنائهم، بل يقدرون أن يصادقوهم في حالة وجود رد فعل أو بإرادة أبنائهم، وأيضاً عن طريق محاولة الحصول على تجاوب منهم،  ولهذا يجب أن يرى الأبناء الأشياء الجيدة في الأبوين لكي يستطيعوا أن يستجيبوا لهم. فعندما يبدأ الابن بالاهتمام بشخص والده،  يمكنه أن يفعل ذلك كابن أو كصديق. فكلا الطريقتين تكملان بعضهما البعض، ولكن يلزم أن نؤكد أن فكرة البنّوة قائمة بين الأب و الابن حتى ولو لم ينجحوا كأصدقاء.

 

أما عن العلاقة بين الولد والبنت، فهي تُشكّل نوعاً آخر من المشاكل. فمن مراجعة تعريف الصداقة الذي تحدثنا عنه في البداية، نجد أنه من الطبيعي أن تنشأ علاقة صداقة بين الولد والبنت، فهو على اتصال دائم، كما يمكنهم أن يتبادلا الإعجاب بصفات بعضهم البعض ومن هنا تنشأ العلاقة.ولكن يحدونا أن نُشير إلى أنه عندما يأتي الموضوع في حدود جنسين مختلفين، تطرأ بعض الأمور الأخرى، فقد تحملهم مشاعرهم ( مشاعر الإعجاب والانجذاب والميل للجنس الآخر ) إلى حدوث التقاء جسدي فيما بينهم، وبالتالي إن لم يتمكنوا من ضبط أنفسهما فليتزوجا[2]، وإلاّ فيتشبهون بالحيوانات التي تمارس الجنس فيما بينها بشكل غريزي محض ولا حكمة لديها أو إرادة في التحكم في مثل هذه الأمور، فهم يمارسون الجنس كغريزة عمياء بدون أي حدود أو روابط اجتماعية. وهكذا يمنع الزواج من وجود أي علاقة غير سوية أو قانونية اجتماعيا، فهو يحترم الارتباط بين أي أثنين ويعطيهم الحق في أي ارتباط صحيح يحدوه الصرامة، والاحترام المتبادل بينهم بل واحترام المجتمع لهم ويضمن لهم  العفة والطهارة.

The whole Raison of Being of man and woman is obvious from ( Gen.

1: 27 – 28) "God created man in the image of himself, in the image of God he created him, male and female. and God blessed then and said unto them,Be Fruitful and multiply and replies the earth ".

 

 
وبالتالي تُلزم العلاقة الشخصية مع إنسان من الجنس الأخر في سن صغير إلزام  نفسه كلياً وجسدياً وروحياً. فالشاب الذي لديه المبادئ الصحيحة يستطيع أن يُفرّق بين النقيضين وقد يعي إنه قد يقدم على علاقة خاطئة لها عواقب سيئة أو مخاطر. ولذلك فعندما يشعر الشاب إنه قد توافق مع فتاة  يريد حقاً الارتباط بها، لابد أن يكون ذلك على أساس أنه يفكر فيها كشريكة حياته، وبالتالي يُعاملها بكل احترام لأنها ستكون شريكه له في مؤسسه الزواج التي يباركها الله. وبالتالي إن لم يسمُ بعلاقته بها فوق مستوى الغريزة فسيُؤدي ذلك للخطأ و لن يدفعه ذلك إلى ممارسه الجنس قبل الزواج، بل ستكون أفكاره أنقي وأكثر احتراما بكثير فيما يخص شريكة حياته.

 

وعلى النحو الآخر، نرى أن كلا الجنسين يُمكنهم أن يتلاقوا في بعض الأنشطة، وذلك إذا كانت موضوعات هذه الأنشطة بنّاءة، مثل المذاكرة من أجل الامتحان، فهذه ليست صداقة ولكنها زمالة، وكل ما يجب عليهم فعله هو أن يضعوا في فكرهم الحدود اللائقة في هذه العلاقة بينهما .ولعل سوء فهم العلاقة بين الجنسين يرجع إلى تنشئة الأطفال من خلال جنس واحد، وبالتالي عندما يصطدموا بواقع وجود جنس آخر يجب التعامل معه، وقد يسيئوا فهم هذه العلاقة، وذلك لسبب بسيط جداً وهو إنهما لم يُوجهوا  من البداية من ذويهم، ومن مدرسيهم. ولهذا يجب أن يتدرّب  الأطفال على كيفية استخدام عقولهم وإرادتهم لأن الكبت المُسبب من الأهالي

قد يُؤدي بهم إلى فهم خاطئ للأمور وخاصة من الجنسين ولهذا تصير العلاقة بين الرجل والمرآة في أي مجتمع علاقة مريضة وليست علاقة طبيعية مثلما بين الأخ وأُخته أو الزميل وزميلته. 

 

2. الصداقة في مختلف الأعمار

         لا أقصد بذلك البحث في سيكولوجية وتكوين العلاقات الإنسانية في مراحل العمر المختلة، ولكني أريد أن أتعامل مع بعض العوامل الأساسية من وجهه نظر الأباء.فعندما يأتي الأباء لكي يسألوا عن أبنائهم وعن مدى تفاعلهم بين زملائهم ، نلاحظ هنا أنهم لا يسألون في هذه المرحلة عن الصداقة بشكل أساسي، وإنما مدى تفاعل الطفل/ الطفلة مع الآخرين، فهل هناك علاقة أخذ وعطاء ومحبة في لعب مع بعضهم مع البعض. ففي هذه المرحلة يبدأ الطفل في تكوين علاقته بالآخرين وبالتالي يتعرّف على شخصيته ودوره من خلالهم ويبدأ في إطاعة قواعد العب، وهكذا فهو يتعلم كيف يكون إنسان اجتماعي. وبالتالي فأهم شئ في هذه المرحلة هو أن يتعّلم كيف يندمج مع جماعة من الأصدقاء ! فهناك بعض الأطفال الذين يشتركون في لعب كرة القدم، التحدث، واللعب بالبلي،ّ لهذا فهم يطلقون على أنفسهم أصدقاء، حيث يجمعهم عمل واحد أو نشاط واحد.

 

لكن أصعب التعاملات تكون مع الأطفال ذوي الصفات الخاصة، فهناك  الخجول الإنطوائي، والذي لا يُحب مشاركة الآخرين، والمدلل، والذي لا يجد من يخضع لأفكاره أو حتى يُشاركه اهتماماته وبمرور السنين نجد أن الجماعة التي كانت تشترك في نشاط واحد، تجمعهم اهتمامات واحدة، يبحثون عن أصدقاء أكثر قرباً والذين يثقون فيهم في مرحلة ما قبل المراهقة. وبالتالي تصبح للجماعة أهميتُها، ولكن الطفل يقدر الآن أن يُميّز بين من هم زملاؤه وأصدقاءه. فهو لم يتعلم بعد كيف يكون له دور إيجابي في العلاقات التي حوله وفي بعض الأحيان تكون الصداقة ما هي إلا فرصة للتعبير عمّا بداخله من مشاعر. بعد ذلك نأتي لمرحلة الاعتماد على النفس والاستقلال عن الأباء، فالشاب يحاول التعرّف على العديد من الناس والذين تجمعهم مصالح واهتمامات مشتركة، والذين يطلق عليهم أصدقاء، فهم يجتمعون للمذاكرة، والذهاب في رحلات استكشافية. وبمرور الوقت يستطيع أن ينتقي أكثر ويكون اختياره أكثر نضجاً، حيث يفرق بين العلاقات العامة والعلاقات المرتبطة بأصدقائه المحدودين والذين هو ملتزم نحوهم من جانبه. فليس من العادة أن يكون للمرء العديد من الأصدقاء. فالطبيعي أن يكون لديه بعض المعارف وبعض الصداقات القائمة معهم والتي من خلالها يُشاركهم في بعض جوانب الحياة

3. الصداقة و فضائل الإنسان الأخرى

لقد اتفقنا إنه حيث لا توجد فضائل، لا توجد صداقة. وبالتالي فالنمو الكلي للفضائل الإنسانية هام جداً بالنسبة للصداقة، فعلي سبيل المثال:

        · الوفاء فضيلة من الفضائل التي تُساعد الإنسان على قبول الروابط المختفية وراء علاقة الصداقة نحو صديقه، مع مرور الوقت تعمل على تقويمه وحماية الفضائل الأخرى التي تبني الصداقة. العطاء والسخاء يُساعدان كثيراً في تقديم المعونة لصديق يحتاج للنمو.

        · التواضع سوف يتحكم في مدى علاقته وقربه من صديقه،

        · التفاهم سوف يُساعده على تفهّم العوامل الأخرى التي تؤثر على موقفه.

        · الثقة والاحترام قد يؤديان به إلى إظهار بعض الاهتمام بصديقه، يُظهر له ثقته فيه، وفي قابليته للتحسّن.

 
ولكن المشكلة الوحيدة هنا هي كيفية تحميل أبنائنا على أخذ هذا النوع من الشخصيات كأصدقاء واستمرارية الصداقة !ومن جهة أخرى، قد تكون المشكلة فيما يُسمّى " التأثير الخطأ " وذلك  يعني أننا لابدّ أن نكون واقعيين ونعرف انه ليس هناك فائدة من الاستمرار في حماية الطفل من التأثيرات الخارجية لأن في مرحلة من المراحل سوف يضطر لمواجهتها بنفسه ولكنها في هذا الحين سوف تكون أشد وأكثر ضرراً و ذلك لأنه لم يكن على استعداد تام لها أو لديه أدنى خبرة بها، ولكننا هنا لا نُشجّع على ترك الأطفال تماماً دون توجيههم، ظناً إننا لن نقدر أو لا يجدر بنا أن نُساعدهم.

 

فمن الصعب أن يُؤثر أحدٌ أو أي شئ على إنسان له شخصية ذات مزايا وفضائل صحيحة. وإنما أسوأ تأثير هو الذي ُيحدث تغييراً جذرياً في مبادئه وينتج عنه دمار وبُعد كامل عن الحقيقة، أو بمعني أخر التأثير السيئ يساعد على نمو الرذائل عن الفضائل، بالتالي فالتأثير المُؤقّت يُحدث تغيراً طفيفاً ولا يُحدث تغيراً كبيرا في شخصية الطفل، وبالتالي إذا تقبّل الطفل مثلاً مسألة الإجهاض وهو مقتنع بها، لن يكون لذلك أساس ولكنه بمرور الوقت سوف يعرف ويختبر هذه الآراء التي أتخذها وذلك لأن هذه الموضوعات تحتاج إلى احتكاك بالعالم الخارجي وهو لن تُتاح له ذلك إلا عندما يكبر. ولكن في نفس الوقت انتقلت إليه هذه الفكرة وبالتالي سوف يؤثر ذلك على أسلوبه وتصرفاته وهنا تكمن خطورة الموقف. لذا نجد أن أخطر أنواع الصداقة هي التي يُمارس فيها أحد الصديقين تأثيره على الأخر واعتماده عليه، والأخر لا يفعل سوى قبول هذه التأثيرات دون استخدام  لمبادئه وما نشأ عليه. و لهذا يجب أن يبقى الأباء على علم دائماً لما يحدث لأبنائهم وعلى علاقة الصداقة التي تنشأ بينهم وبين الآخرين، فهم لم ينضجوا بعد، ويتظاهرون بأنهم واثقون من أنفسهم مع أن كل مبادئهم خاطئة.  كما يجب معرفة نوع الأنشطة التي تجذب أبنائهم في الصداقة مع الآخرين.

 

وأخيراً، يجب على الأباء أن يُراعوا أبنائهم المراهقين والذين لا يعرفون كيف يدخلون في علاقات، والذين يُغيّرون أصدقائهم بصورة متكررة دون سبب محدد، و الذين لا يهتمون بمعرفة ما يريدون أو ينتظرون مما يصادقونهم منفعة ما، فالصداقة تتطلب الخدمة، والطفل الذي لم يتعلّم كيف يخدم أو يساعد الآخرين، سوف يجد صعوبة في إنشاء أي صداقات تعتمد على النمو المتبادل.

 

ولكننا إلى الآن لم نجب على التساؤلات التي طرحناها في البداية وهي:" كيف يمكننا أن نجعل أبنائنا  يختارون الصديق المناسب؟ فالطفل يختار من يجده جذاباً لديه، وهذه الجاذبية تعتمد أساساً على الفضائل التي ربّى  الأباء أبنائهم عليها في المراحل الأولى من حياتهم. فإذا كانت لديهم حياة هادئة، ناعمة، ساعين دائماً وراء لذات سطحية، فسيبحث عن صديق يلبي لديه هذه الملذات. والعكس إذا قامت المعاملة على العطاء والمحبة، فسنجد أن الأطفال سيأخذونها في الاعتبار عند اختيارهم  لأصدقائهم. فيجب على الأباء توجيه أبنائهم فيما يختص بأنواع الأنشطة التي يشتركون فيها ، وهم على وعي كامل بأن أي نشاط يشتركون فيه أو أي مجموعة ينضمون إليها، أن أغلبية المشتركين يصلحون أو لا يصلحون للصداقة، ويجب لفت أنظارهم إلى بعض السلوكيات غير اللائقة التي يسلكها بعض الطلبة للتأثير على زملائهم بالتدخين أو مغازلة الفتيات وجرح حيائهن. وعلى الرغم من ذلك فأن المجموعة التي تبدو الأفضل، تبدو معظم الوقت مملة ولا تُطاق، وهنا يأتي دور الأباء في تجهيز وترتيب النشاطات المختلفة التي تُبهر وتُثير اهتمام أبنائهم، والتي قد تخضع لحاجاتهم بالإحساس بروح المغامرة واهتماماتهم الفنية واهتمامهم ببعضهم.وبهذه الطريقة نستطيع أن نضمن للشباب أن اختيارهم لأصدقائهم سيتم على أسس سليمة، كما يجب على الأباء إرشاد أبنائهم لأن يكونوا أصدقاء مهتمّين بالآخرين، كزيارة الصديق إذا كان مريضاً، وإسعاده إذا كان حزيناً، ومساعدته في أعماله إذا أحتاج لذلك، ومشاركته في أسراره والبقاء معه لفترات طويلة، وليس التقرّب للصديق وقت الدراسة فقط إنما أيضاً في الإجازات، فإذا كان بعيداً، نرسل له بطاقات معايدة أو نتصل  به فهذا التواصل هو الذي يساعد على استمرارية الصداقة طوال الحياة حتى النهاية. 

4. دور العائلة تجاه ذلك

في بعض الأحيان تحول الحياة العائلية دون تكوين أي صداقات، وقد يظن الأهل إنه من الأفضل أن يمكث الابن والابنة معهم بدلاً من الخروج مع الأصدقاء و الذهاب معهم في رحلات، ولكن ذلك خطأ.فمن المفيد أن نقُم بعمل رحلات عائلية أو نشاطات عائلية لكن يجب أن يكون للطفل أو الشاب ذوقه الخاص في اختيار أصدقاءه الذين يحبهم ورفقاءه إلى جانب الحياة العائلية. ولكن المسئولية تقع هنا على الأباء، فهم يُريدون لأبنائهم أصدقاء ولكن في نفس الوقت يُريدون التأكد من صحة هذه الصداقات، من خلال استعدادهم لقبول فرد أخر في العائلة من أصدقاء وزملاء. فليس من حق الأباء التدخل في شئون أبنائهم الخاصة وعلاقاتهم بأصدقائهم، ولكن يجب عليهم تهيئة الجو الملائم والمناسب لكي يتعرّفوا على أصدقاء أبنائهم. وهنا يجب ألا يحكموا عليهم بمظاهرهم الخارجية فقط أو ما يرتادون. وإذا لاحظ الأباء شيئا خاطئا أو معيبا في الصديق فكلمة " لا " ليست الحل دائماً فهي تؤدي إلى التمرّد ولكن بالهدوء والإقناع،  ‍‍‍‍وإن لم يحدث الفض بالاقتناع سوف يؤدي بالأبناء إلى الانحراف عن المعنى الحقيقي للصداقة و عن جوانبها و أسسها الحقيقية و هكذا يصلون إلى حقيقة الأمور و على نحو أخر ، فالمنزل هو المكان الوحيد الذي يشعر فيه الأبناء بالأمان ، فقد يختبرون علاقات مع الآخرين قد تؤدي بهم إلى خيبة أمل و لكنهم سوف يعيدون ذلك باستعداد أحسن فيما بعد المجتمع لعلهم إنهم مقبولون في بيتهم من الأساس . و لهذا يجب على الأباء أن يفتحوا أحضانهم دائماً لأولادهم مرحبين بهم في أي وقت ، فالعلاقة بين الأب و الابن / الابنة هي أعمق من الصداقة و لهذا يكون الأباء أكثر تفهماً لأبنائهم من أي أحد أخر . ولكن يجب التلميح في أن الأب و الأم لا يمكنهم إبدال الأصدقاء بعلاقاتهم مع أبنائهم فهم مجرد أباء و أمهات فقط

5. الأباء والأمهات كمثال للصداقة  

يُركّز بعض المتزوجين على حياتهم الاجتماعية كأسرة فقط، ولكن هناك البعض الذي يرتبط بالنوادي

والأصدقاء، والبعض الأخر لا يفكر حتى في الأصدقاء ظناً منهم إنه لا يوجد وقت لذلك. وآخرون يتقابلون بالناس من خلال العمل فقط. وقد تكون هناك مشكلة بين الزوجين، فربّما الصديق التي تميل إليه الزوجة لا يقبله الزوج، والعكس صحيح، وهنا يجب علينا أن نميّز بين الصداقة وبين علاقة الزوجين بعضهم ببعض، فالصداقة بين أثنين تختلف تماماً عن الارتباط بين اثنين. وهكذا يجب أن يري الصغار والديهم في تمام الإستعداد للارتباط أو لمساعدة الغير، أو للعطاء حتى ولو تطلّب ذلك بعض المجهود، لأن هذه الأشياء تجعل للصداقة معنى كبيراً. فالأباء الذين يُكونون  صداقاتهم من خلال أنشطة  اجتماعية سطحية، يُؤثرون على أبنائهم تأثيراً خاطئاً بحيث يظنون أن الأصدقاء مجرد أدوات نستخدمها [3]لكي نحصل من خلالها على لذات شخصية. كما أن دعوة الآخرين إلى المنزل، والتعامل معهم بلطف، ومن خلف ظهورهم ننتقدهم  فيؤثر ذلك على الأطفال ويتخذون نفس الطريقة الخاطئة في التعامل مع أصدقائهم.

 

وبمعنى أخر، نحن نطلب من الأباء أن يكون لديهم إحترام كبير للأشخاص الذين يتعاملون معهم، وان يكونوا متوازنين في آرائهم والمواقف التي تشكل آرائهم، بدلا من انتقادهم. كما يجب عليهم أيضاً أن يُلزموا أنفسهم تجاه العديد من الأشخاص حتى تتكون لديهم المعاني الحقيقية للصداقة والتي بتواجدها تعني الجانبين، الفردي والعائلي.

6. الاستنتاجات

تستلزم الصداقة شروطاً خاصة، فهي التقاء بين الأفكار، والمشاعر، والشهوات وبالتالي تكون مُشاركة للمبادئ الأساسية، مع أنه في بعض الأحيان يكون للبعض وجهة نظر جذرية مختلفة. ولكن إذا كان هناك احترام، ومرونة، وتعطش حقيقي من كلا الجانبين لمعرفة الحقيقة، فسوف تنشأ بينهم صداقة قوية. وأن لم يكن هكذا الحال، فستتعرض العلاقة إلى العديد من العوائق، وستختفي المشاعر المتبادلة بسهولة وتتحول إلى علاقة إمتلاكية يستخدم فيها أحد الطرفين الآخر كوسيلة للذّة، وهكذا تصبح صداقة هشة ! والعكس صحيح، فالصداقة تنشأ قوية عندما يبذل كلا الطرفين مجهوداً مضاعفا لكي تتحسن وتقوي، على الأقل في الفضائل الإنسانية. فالصديق الطيب يطلب بعض الأمور من صديقه وعليه أن يتفهمها معه، ويكون مثالاً له ويخدم احتياجاته، و يجد بعض الوقت لكي يقضيه معه. ففي هذه الأيام نجد أنفسنا بخلاء في الوقت الذي نُكرّسُه للأصدقاء، ولكن ذلك لا يُعطى معنى للحياة، وفي نفس الوقت لاإنساني بالمرّة

 

 

 

 

 

 

    

     



[1] David Isaac, Character Building, Friends of the book foundation,Secound Edition, Nairobi 1996, P.230

[2] هذا الكتاب مُخصص للشباب في كينيا، وهذه النقطة لا تتوافق مع حالة الشباب المصري، والكتاب مُترجم من كتاب فرنسي بعنوان "تربية القيم والفضائل الإنسانية"، الجزء الأول، الطبعة الخامسة لسنة 1981.

 

[3] كلمة "استخدم" :استخدام موضوع عمل كوسيلة لبلوغ هدف ما، وتوحي الكلمة بتبعية العلاقة بين الوسيلة والذات الفاعلة، وهي علاقة تناهز الاستعباد: إذ إن الوسيلة تخدم الهدف والفاعل معا. (من كتاب حب ومسئولية للبابا يوحنا بولس الثاني ص17 ).