ليس من المعقول أن يتبرع قبطي لمسلم

 

جريدة الغد الأردنية

 

هذا العنوان "المستفز" ليس من عندي، ولكنه لنقيب الأطباء المصريين الدكتور حمدي السيد، في معرض دفاعه عن قرار غريب و"مريب" أصدره بحظر نقل الأعضاء بين المسلمين والأقباط.

 

وبحسب ما تنص عليه عبارة النقيب فإن المعقول أن يتباغض الأقباط والمسلمون، وأن يتبادلوا الكراهية والتوجُّس والحقد، وأن من الجنون (عكس العقل والمعقول) أن نتصور قبطياً يتبرع بعضو من أعضائه لمسلم، أو العكس، وكأن كل المسلمين وكل الأقباط قد تخلوا عن شعورهم بالإنسان كإنسان، وأن الكراهية قد تمكنت من النفوس إلى الدرجة التي تمثل فيها العودة إلى الفطرة النقية والإحساس الإنساني النبيل نوعا من السلوك "اللامعقول"!

في مصر (وفي بلاد عربية أخرى) كانوا يسمون الطبيب "الحكيم"، ومن يشاهد أفلام الأبيض والأسود يجد أن مصطلح "الحكيم" شائع بين فئات الطبقة الوسطى والمتعلمين، وهي إشارة إلى امتلاك الطبيب ألواناً من المعرفة والخبرة الإنسانية والنظر العقلي والتأمل، تجعل آراءه صادرة عن مخزون من الحكمة وتدبر الأمور. ولكن يبدو أن هذا الفهم ينتمي إلى زمن مضى، فحكيم الحكماء (نقيب الأطباء) يُعمل مبضعاً ملوثاً في جرح مفتوح، ويقدم عذراً يفوق الذنب قبحاً، ويدافع عن الخطأ بالخطأ، حين يفسر قرار (أو توصية) حظر نقل الأعضاء بين المسلمين والمسيحيين بأنه "ليس من المعقول أن يتبرع قبطي لمسلم أو العكس".

 

في رواية الأديب المصري مكاوي سعيد المهمة "تغريدة البجعة" مشهد جدير بالتأمل، فالراوي المصري ينقل لصديقته الأميركية مارشا تفاصيل حياة "أطفال الشوارع" المرعبة بكل ما فيها، ويوثق بالقلم والصورة مشاهد الاغتصاب والشذوذ والإدمان والسرقة والحمل السفاح والولادات في الخرائب. ويشاهد الراوي مجموعة من أطفال الشوارع تطارد طفلاً بشراسة، مصممة على تنفيذ هدف مجهول، يكتشف الراوي بعد ذلك أنه محاولة من الأطفال الغاضبين لإزالة وشم للصليب من على يد الطفل باستخدام ماء النار. ويقول الراوي إنه لم يخبر مارشا الأميركية بالقصة على الإطلاق، على كثرة وفداحة ما نقله لها عن الأطفال المشردين.

 

لماذا أخفى الراوي هذه القصة وحدها، وهو الذي لم يخف شيئاً من القبح والبشاعة؟ أتصوَّر أنه وعي المثقف وبصيرته التي تدرك أن هذا الحدث "عارٌ" حقيقي أكثر قبحاً وبشاعة من كل ما سبق، إلى الدرجة التي تستدعي إخفاءه وستره. وعي المثقف الذي يدرك أن كل الأمراض والأدواء يمكن المجاهرة بها وعلاجها أو التعامل معها، خلافاً لذلك الداء المرعب الذي يضرب جسد الوطن في الصميم، وإلى جانب الوعي هناك شيء من المسؤولية وشيء من "ضمير المثقف" الذي ظل يقظاً في نفس بطل الرواية، يقاوم عوامل التفسخ والانهيار.

 

قال نقيب الأطباء إن قراره يسعى إلى إيقاف تجارة الأعضاء، وإنه لا يحمل بعداً طائفياً، وهو أمر نتمنى لو نصدقه، لكن "الطائفية" البغيضة تطل كأفعى بمئات الرؤوس من كل الأركان والزوايا. ففضلا عن القرار الذي يجافي كل تفكير سليم، فإن بياناً أصدره النقيب كان حافلاً بـ"التحريض" وجاء فيه أن "48 متبرعاً مسلماً من فقراء المسلمين وليسوا من متوسطي الحال أو المنتفعين أو من المتحدثين عن حقوق الإنسان أو الداعين للوحدة الوطنية تبرعوا لمرضى من الأقباط الأثرياء، وأن هناك خمسة من فقراء الأقباط، وليسوا من المتحدثين باسم الكنيسة أو أصحاب الياقات البيضاء، تبرَّعوا لأثرياء المسلمين". هذا التذكير بـ"فقر المسلمين" وثراء الأقباط وشراء الأجسام، بم يمكن أن يسمَّى غير أنه تحريض على الكراهية، وإلقاء للحطب في نار الطائفية التي يراها مشتعلة كل ذي عقل ورشد؟

 

كذلك فإن الإشارة غير اللائقة إلى "المتحدثين باسم الكنيسة" تليها إشارة أخرى في البيان إلى أن النقيب كان يتمنى "أن يعلن أي من المتحدثين عن استعداه للتبرع بعضو حال حياته" وأن لديه "تبرعاً واحداً من فضيلة الإمام الأكبر بقرنيته بعد الوفاة". وهذا الزج باسم الإمام الأكبر مصحوباً بتقدير مفتعل، ومقروناً بالإشارة السلبية إلى الكنيسة، هو فعل لا يليق بعقلاء الناس ولا بكبارهم الذين يتصدرون واجهة العمل العام. إن هذا البيان المتهالك استمرار للخطأ وإصرار على الاستمرار فيه. (قد يكون من المهم الإشارة إلى أن الأخطاء الإملائية والنحوية في البيان المنشور على موقع نقابة الأطباء <A href="http://www.ems.org.eg/akhpar_hama/1-17-808.htm">http://www.ems.org.eg/akhpar_hama/1-17-8-08.htm</A> كانت فادحة وفاضحة، إلى درجة أن البيان تضمن أن فضيلة الإمام الأكبر تبرع "بقرينته" وليس بقرنيته. ويبدو أن بين رداءة الكتابة وتهافتها ورداءة الفكرة وتهافتها صلة وثيقة).

 

عادة ما تكون الفتاوى الدينية أميل إلى المنع والتحريم، ولكن الأمر انقلب هذه المرة، فقد رفض الفقهاء وشيوخ الدين المسلمون قرار نقيب الأطباء، ومن بينهم من عرف بتشدده أو محافظته، مثل الدكتور عبدالمعطي بيومي عضو مجمع البحوث الإسلامية المصري، والشيخ جمال قطب رئيس لجنة الفتوى السابق في مصر، الذي قال إن الإسلام لا يمنع التبرع للآخر مسلماً كان أو غير مسلم. ومن هنا فإن رفض القرار الغريب ليس "مسيحي الطابع"، بل رفض أوسع نطاقاً وأكبر من أن تحدَّه هذه الدائرة الطائفية الضيقة التي تحاول بعض الجهات حصر المعارضة للقرار فيها.

 

الغريب في هذه الحالة أن العالم الكبير والنقابي العريق ونائب الشعب والناشط السياسي يتخذ مواقف تشير إلى ضيق الأفق السياسي والإنساني وقصر النظر، في حين أن رجال الدين الذين تحكمهم النصوص والتفسيرات الموروثة غالباً يبدون أكثر رحابة وانفتاحاً على القيم الإنسانية الراقية التي تتجاوز الفروق بين الديانات والمذاهب. إنها حالة من اختلال الموازين والمقاييس نجد نظائر كثيرة لها في العالم العربي، وهي تهدد بمصير مجهول نمضي إليه، يهون بجانبه واقعنا الذي لا يُرضي أحداً.

 

نقابة الأطباء في مصر واقعة تحت سيطرة أصحاب الميول الإسلامية، ولعل ذلك وحده كان كافياً لتجنب الخوض في هذا المستنقع اتقاء الشبهات، لكن مثل هذا النوع من التفكير الرشيد يبدو أنه يتلاشى، إما بدافع من سوء الرأي والتدبير إذا افترضنا حسن النية، وإما بدافع سيطرة الأيديولوجيا وسطوة جناح المتطرفين أو المتشددين وقدرتهم على تمرير أجنداتهم وفرض رؤيتهم على معتدليهم وعقلائهم.

 

ليس خفياً أن الجسد الوطني في مصر منهك، وأن مناعته في أسوأ حالاتها، وأن المواجهات الطائفية تشتعل لأدنى سبب ودون سبب في كثير من الأحيان، وأنه لا يفيق من حفرة ذات طابع طائفي إلا ليقع في حفرة أعمق منها، وهذا هو الوقت الذي اختار فيه نقيب الأطباء أن يهاجم الجسد المنهك بجرثومة فتاكة تزيد من إنهاكه. وإذا كان النقيب يعلم بما تجنيه يداه فتلك مصيبة، وإذا لم يكن يعلم فالمصيبة أعظم.