الخدمة لغبطة ابينا البطريرك الأنبا أنطونيوس

 

" ابن الإنسان جاء لا ليخدمه الناس ، بل ليخدمهم ويفدى بحياته كثيرا منهم "

 

( متى 20 : 28 )

 

– يسعدنى أن ألتقى بكم اليوم ، فى رعية السيدة العذراء والقديس اسطفانوس بشبرا الخيمة ، فى الذكرى الثانية لتكريسى للخدمة البطريركية . ولذلك أردت أن أخصّص لقاءنا هذا المساء للتأمل فى موضوع الخدمة .

 

– الخدمة هى رسالة الكنيسة : فى أى شىء تقوم رسالة الكنيسة ؟ إنها تقوم فى الخدمة : خدمة الله ، وخدمة الإنسان ، وخدمة المجتمع … إنجيل المسيح يدعونا إلى أن نكون فى خدمة كل أبناء الله ، بدون تمييز … نخدم الله بأن نخدم أبناءه . نخدم الناس لأن الله خدمهم ويخدمهم . نخدم الآب فى الأبناء … نخدم مثلما قال لنا الابن ، ومثلما أعطانا هو المَثل ، عندما غسل أرجل تلاميذه … فى مدرسة المسيح السيد خادم . وبما أن المسيح ملك وكاهن ، فالخدمة مهمة ملكية وكهنوتية .

 

– من المدعو إلى الخدمة ؟ : كل مسيحى مدعو إلى الخدمة . فى العماد نقبل صليب المسيح ، وننال مسحة مقدّسة تدمجنا فى شخص المسيح ، وتشركنا فى مهمته الملوكية والكهنوتية … : " أنتم نسل مختار ، وكهنوت ملوكى ، وأمة مقدسة ، وشعب اقتناه الله لإعلان فضائله " ( 1 بطرس 4 : 9 ) … وعلينا أن نكون أمناء لهذه الدعوة ، بأن نشترك فى ذبيحة المسيح ، وأن نقتدى به : أن نخدم مثله … كلنا مدعوون إلى الخدمة . هذه هى رسالتنا كمسيحيين … يريدنا المسيح أن نكون خدّاما . هذا ما يطلبه منا : أن نخدم الإنجيل ، نخدم الكنيسة ، نخدم الناس ، وأولهم أقرب الناس إلينا ، أهل بيتنا .

 

– ستكون دينونتنا على الخدمة : الخدمة هى ميزان الدينونة …" كل مرة عملتم هذا لواحد من إخوتى هؤلاء الصغار ، فلى عملتموه … وكل مرة ما عملتم هذا لواحد من إخوتى هؤلاء الصغار ، فلى ما عملتموه " ( متى 25 : 40 و 45 ) … الخدمة هى اختبار نوع النظرة إلى الآخرين ، التى ستكون أساس التمييز بين المقبولين والمرذولين . متى رأينا شخص يسوع فى احتياجات وآلام الآخرين ، وقمنا بخدمتهم ، يكون لنا نصيب معه .

 

 

– كنيسة يسوع كنيسة خادمة : إن خدمة مَن سمّاهم يسوع إخوته الصغار ، أى الفقراء والمحتاجين والمتألمين والمتروكين ، هى العلامة والدليل على أن كنيسة يسوع أمينة له ، لأنها كنيسة خادمة … البشرية هى جسد المسيح السرى والروحى . وهو يعانى ويتألم إلى اليوم الأخير ، يحتاج إلى أن نكسيه، ونطعمه ونسقيه ، ونزوره ، ونضمّد جراحه … الكلمة والنظرة والابتسامة قد تشفى آلاما كثيرة … أعطانا الله الكثير ، لذلك نحن مطالبون بالكثير : "مَن أُعطِى كثيرا ، يُطلب منه الكثير . ومن ائتـُمِن على كثير ، يُطالـَب بأكثر منه " ( لوقا 12 : 32 – 48 ) .

 

– العظيم هو مَن يخدم : وفى كنيسة يسوع ، العظيم هو مَن يخدم : " تعلمون أن رؤساء الأمم يسودونها ، وأن عظماءها يتسلطون عليها . فلا يكن هذا فيكم . بل مَن أراد أن يكون عظيما فيكم ، فليكن لكم خادما . ومن أراد أن يكون الأول فيكم ، فليكن لكم عبدا . هكذا ابن الإنسان جاء لا ليخدمه الناس ، بل ليخدمهم ويفدى بحياته كثيرا منهم " (متى 20 : 25 – 28 ) … يطلب منا يسوع أن نغيّر عقليتنا . يرفض عقلية تلاميذه البشرية والأرضية . ويرسم أسلوبا جديدا من الحياة والسلوك لمن يريد أن يتبعه … ولم يكتف بذلك ، وإنما أعطانا المثل ، وأروع مثل : " إذا كنت أنا السيد والمعلم غسلت أرجلكم ، فيجب عليكم أنتم أيضا أن يغسل بعضكم أرجل بعض . وأنا أعطيتم ما تقتدون به ، فتعملوا ما عملت لكم " ( يوحنا 13 : 14 – 15 ) .

 

– فلتكن الخدمة شعارنا : نريد أن نكون عظماء فى أعين الله ، ومتقدّمين فى ملكوته، فلتكن الخدمة شعارنا ، ولنكن خداما للآخرين … تحملنا أميالنا الطبيعية إلى أن نتسلط على الأشياء والأشخاص ، إلى أن نأمر ونحكم ، ليعمل الناس ما يعجبنا ويرضى كبرياءنا وغرورنا … ويسوع يطلب منا أن نكون خداما وعبيدا . كم من مرة سمعنا كلمات يسوع هذه . علينا أن نجعلها قاعدة لمشاعرنا وسلوكنا وتصرفاتنا ، بأن نخدم على مثال المسيح .

 

– الخدمة ممارسة عملية للمحبة : بالخدمة يصير الإنسان عظيما فى نظر الله … وإنما يجب أن يفهم هذه الخدمة على انها الممارسة العملية للمحبة … يدعونا المسيح إلى الخدمة على مثاله ، لأنه يتـّكل على كل واحد وكل واحدة منا لننير العالم كله بنور الإنجيل : " أنتم نور العالم .. فليضىء نوركم هكذا قدّام الناس ، ليشاهدوا أعمالكم الصالحة ، ويمجّدوا أباكم الذى فى السماوات " (متى 5 : 14 – 16 ) … لا نتردد إذا فى الجواب السخى على هذا النداء الذى يوجّهه لنا ، لنثبت حبنا له ، بأن نحب إخوتنا .

                                                               

– الخدمة على مثال المسيح : والخدمة على مثال المسيح هى الخدمة على طريق المحبة ، ولا سيما محبة القريب … هى أن نكون مستعدين أن نضحّى بذاتنا من أجل الآخرين ، مثلما ضحّى المسيح بحياته ليخلـّصنا ويخلـّص البشرية كلها … وهذا يتطلب أولا التجرد عن الذات ، إخلاء الذات على مثال المسيح : " هو فى صورة الله .. أخلى ذاته ، واتخذ صورة العبد .. تواضع ، أطاع حتى الموت ، الموت على الصليب " ( فيلبى 2 : 6 – 8 ) … كما يتطلب أن نحطـّم فينا حواجز الكراهية والخصام ، التى أقمناها فينا وحولنا ، والتى تمنعنا من أن نقبل الآخر ونحبه ونخدمه .

 

– مجالات التطبيق : ومجالات الجواب على نداء المسيح واسعة وعديدة . إنها تغطـّى تعاملاتنا فى الأسرة ، والمدرسة ، والكنيسة ، والعمل ، والمجتمع بكل أشكاله وألوانه … الطفل ينتظر خدمتنا ، وكذلك المريض ، والسجين ، والوحيد ، والشيخ ، والعاجز ،  والمعاق ،  واليتيم ، والغريب ، وغيرهم وغيرهم . يكفى أن نفتح أعين قلبنا وسنرى حولنا مَن دعاهم يسوع إخوته … قال أحد الحكماء : الإنسان الذى لا يعيش ليخدم ، لا ينفع  أن يعيش .

 

يسوع فى خدمة الآب وفى خدمة الناس : أراد يسوع أن يكرّس ذاته كاملا فى خدمة الآب ، وفى خدمة الإنسان . يخدم الآب بخدمة الإنسان ، ويخدم الإنسان بخدمة الآب … لا يحتفظ لنفسه بشىء . إنما يبذل ذاته ليبيّن حبه العظيم : " ما من حبّ أعظم من هذا : أن يضحّى الإنسان بنفسه فى سبيل أحبّائه " ( يوحنا 15 : 13 ) … ويطلب منا يسوع أن نعمل مثله : " وأنتم أحبّائى إذا عملتم ما أوصيكم به .. أن يحبّ بعضكم بعضا " ( يوحنا 15 : 13 و 17 ) … يطلب يسوع من تلاميذه ، من كنيسته ، من كل واحد وكل واحدة منا أن نحب مثلما أحب هو ، أن نخدم مثلما خدم هو ، أن نرتدى زى الخادم ، أى نتحلى بروح الخدمة ، خدمة الآب وخدمة الناس .

 

– الكاهن خادم الخدمة : وأقام لنا يسوع فى كنيسته المقدّسة أشخاصا مكلـّفين بأن يساعدونا على أن نعيش بروح المسيح وعلى مثاله ، وهم الكهنة المكرّسون. إنهم فى خدمة الخدمة … هم فى خدمة الكنيسة ، لتكون خادمة مثل معلمها . إنهم لا يحتكرون الخدمة . وإنما يسهرون على أن يشترك فيها كل أعضاء المسيح والكنيسة … إنهم هنا ليذكـّرونا أولا أن الاستعداد الأول للخدمة هو التجرد عن الذات . فمن السهل أن يخطىء الشخص فى تقييم ذاته ، فيعتقد أنه يخدم الآخرين ، بينما هو فى الواقع متمركز على نفسه ، وعلى سلطته ، وعلى مسئوليته ، وعلى شخصه … قد أظن أننى أخدم الله ، بينما أنا لا أبحث إلا عن نفسى ، ولا أطلب إلا إرضاء ذاتى … وأعتقد أننى ضرورى ولا غِنى عنى ، وأنه لا يوجد أحد يستطيع  أن يحلّ مكانى . بينما يرى الآخرون أننى استحوذت على كل شىء ، فانسحب كثيرون من الخدمة .

 

  كونوا على فكر المسيح : يوصى بولس الرسول : " كونوا على رأى واحد ، ومحبة واحدة ، وقلب واحد ، وفكر واحد ، منزَّهين عن التحزّب والتباهى ، متواضعين فى تفضيل الآخرين على أنفسكم ، ناظرين لا إلى منفعتكم ، بل إلى منفعة غيركم . فكونوا على فكر المسيح يسوع " ( فيلبى 2 : 2 – 5 ) … تتطلب الخدمة إذا  تفتـّح القلب على الآخرين ، والاصغاء المجانى والمتجرد عن كل منفعة ومصلحة ، والبساطة ، والتواضع ، وتوسيع مساحة المشاركة فى المسئولية والعمل … وبالمثل ، الكنيسة الخادمة كنيسة متفتـّحة على الآخرين واحتياجاتهم . إنها تقدّم محبة المسيح للجميع ، وبالأخص للفقراء ، والمتألمين ، وصغار المجتمع ، والمهمَّشين . تبحث عن البعيدين ، وتسهر على ضمهم إلى رعية يسوع وإلى حبّه الرحيم .

 

– الله وحده هو ينبوع قوّة الخادم : من أين نستمد القوّة لنقوم بهذه الرسالة : الخدمة على مثال المسيح ؟ من الله وحده . الله هو قوّتنا … لا نستطيع أن نتكل على مصدر آخر : لا الثروة ، ولا العلم ، ولا النجاح ، ولا المقام ، ولا الإمكانيات المادية وحدها … لا شىء يستطيع أن يدفع إلى الخدمة الصادقة، المجّانية ، غير المشروطة ، إلا الله وحده . لأنه هو وحده يعرف أن يخدم هكذا ، خدمة المحبة الصافية … هو ينبوع الماء الحي ، الذى يفيض بروح خدمة المحبة .

 

المسيحى مدعو إلى أن يكون خادما على مثال المسيح ، بأن يبذل حياته عن الآخرين ، مجانا، بدون مقابل ، وبدون حساب ، وإلى النهاية … وهذا يفوق إمكانيتنا الطبيعية ، وإرادتنا البشرية … الله هو الذى يمنحنا هذه الهبة . يمنحها لنا فى الإصغاء إلى كلمته ، عندما نقبلها ، فتشكـّلنا بروح الإنجيل وبفكر المسيح … ويمنحها لنا فى الصلاة ، وفى الأسرار المقدّسة ، وبالأخص فى سر القربان المقدس . عندما نتحد بالمسيح الذى يبذل ذاته للآب ومن أجلنا ، نتعلم أن نبذل نحن أيضا حياتنا حبا بالله وبإخوتنا .

 

 فلنبتهل إلى الرب يسوع أن يعطينا القوة والسخاء لنقتدى به ، لنصير خداما وشهودا لحبه فى كل مجالات حياتنا … ولنتضرع بثقة إلى أمنا العذراء أن تعلـّمنا أن نكون على مثالها ، فنقول بصدق : " أنا خادم/ة لك ، يا رب ، فليكن لى كما تقول " ( لوقا 1 : 38 ) . آمين .