المراهق والنمط السلوكي العائلي

 

        يؤكد الكثير من علماء النفس أن فترة المراهقة هي أهم فترات الحياة على الإطلاق، وتعتقد غالبيتهم أن الصحة الجسدية والنفسية للإنسان تتوقفان على اجتيازه هذه الفترة بسلام واطمئنان، كونها تشهد أحداثاً خطيرةً جداً. إنها تشهد بداية رجولة الفتى وأنوثة الفتاة، كما تشهد تغيرات جسدية عميقة تشمل كامل الجسم، وما ينصبُّ فيه من هرمونات جديدة، وما يحدث فيه من تغيرات كيماوية وفيزيولوجية، بالإضافة إلى التغيرات النفسية والعقلية والعاطفية العميقة الأثر.

 

في فترة المراهقة تجيش الانفعالات، وتثور الهيجانات، وتتخذ الأفعال أشكالاً جديدة وتختلف الدوافع السلوكية والحوافز الاجتماعية إذ يتحول الطفل إلى رجل أو امرأة، ويتسارع النمو بكافة أشكاله على شكل قفزات حيناً ويتباطأ حيناً آخر.

إن بعض علماء النفس يرون في المراهقة أزمة طويلة يجتازها الطفل خلال سنين تمتد ما بين الثانية عشرة والسادسة عشرة، ويعتقدون أنه ما لم يتفهم المربون هذه الأزمة، ويأخذوا بيد المراهق فإن الأخطار ستكون جسيمة والعواقب وخيمة، وأخطر ما في هذه الفترة هو عدم تفهم الوالدين لها، وعدم تهيئة المراهق لمواجهتها، وهما إما أن يقفا مشدوهين أمامها، عاجزين حيالها، يتخبطان في سلوكهما مع المراهق، ويعجزان عن مساعدته ومعاونته، وإما أن يثورا عليه، متهمين إياه بالتمرد وسوء السلوك وعدم الطاعة فيكونان كمن يصب الزيت فوق النار.

والمراهق نفسه الذي يعاني كل هذه التغيرات الجذرية، ويخضع لهذه المثيرات الكاسحة، يشعر بالضياع وخيبة الأمل والمرارة إذا حُرِمَ من حب الأهل وفهمهم وتقديم العون والمساعدة له.

وقد اهتم علماء النفس بالمراهقة اهتماماً بالغاً، وكتبوا فيها كتباً كثيرةً، مقدمين تفصيلاتٍ مسهبةً، لكنَّ جُلَّ ما كُتِبَ في هذا المجال كان موجهاً إلى الاختصاصيين والمعنيين بعلم النفس، أما الأهل والمشرفون على تربية المراهق فلم يُكتب لهم الكثير والمناسب، ولم يُكتب لهم ما ينطبق على الحياة اليومية وما فيها من معاناة.

إن سنوات المرهقة هي من أصعب السنين من حيث العلاقات الشخصية في البيت، ومن أجل المراهق وأفراد الأسرة في آن معاً، ولكن طبيعة الصعوبات تختلف خلال هذه الفترة اختلافاً بيِّناً، والمظهر الأول لتغير المراهق ينحصر في طلبه المتزايد للحرية، فهو يثور على المراقبة والتوجيه، ويبدأ بالتفكير الحر لنفسه، والتصرف كشخص مستقل، يحتقر ما يراه ويعتبره طفولياً، مظهراً نفسه بمظهر الشخص الراشد من خلال رفض النمط السلوكي العائلي، والدخول في مناقشات مستمرة حول تفاصيل الحياة اليومية.

منذ الثالثة عشرة يبدأ المراهق باختيار أصدقائه الخاصين به، ويصرّ على اختيار ثيابه وكل شيء آخر،بعيداً عن تدخل الآخرين وفرض آرائهم عليه، كما يكون شديد الحساسية تجاه إخوته وأخواته وحسوداً بالنسبة للحرية التي يتمتعون بها إذا كانوا أكبر منه سناً، ويعتقد أن الوالدين يطلبان من إخوته الصغار أقل مما كانا يطلبان منه. وهكذا فإن المراهق يبدو في الجماعة العائلية حائراً في اختيار مسلكه وكثيراً ما يشعر بأنه غير مفهوم ولا مرغوب فيه.

ومن الطبيعي أن يحب الأطفال الكبار استعراض امتيازاتهم وحرياتهم التي ربحوها مجدداً، وأن يتباهوا بها، وأن يكونوا مفرطين بالثقة بأنفسهم ومتغطرسين بالنسبة لمن هم أصغر منهم سناً، وبالمقابل فإن هؤلاء الصغار يرفضون كل ما يبدر عن المراهقين، ويسخرون منهم عندما يقلدون الكبار.

تميل عواطفهم إلى عدم الاستقرار، ويحاولون التمسك بكل خبرة جديدة، إنهم غير قادرين على مراعاة شعور الآخرين، وقليلو الكياسة، وميالون إلى التسرع في كل شيء، وهو أمر معقول ماداموا مستغرقين في مشاعرهم الخاصة.

ليس من شك في أن للأم المحل الأهم في البيت، إنها كالشمس التي ترسل أشعتها إلى كل الجهات، وإنها تبعث الدفء والراحة في كل ما تضيئه من خلال شعاع خاص يصل بينها وبين كل فرد من أفراد عائلتها، ودور الأب لا يقل أهمية عن دور الأم، فهو مصدر إشعاع هام، وكلما كان إشعاعه أكثر لمعاناً، كان جو العائلة أكثر دفئاً، وكان أسهل على الأم أن تلعب دورها المناسب.

وطبيعي أن تكون علاقة الأم بأطفالها وطيدة وراسخة لأنها ترعاهم منذ الولادة، وتحيطهم بالحب والحنان، والطفل الذي تحرمه ظروفه من حب الأم وحنانها يكون على الأغلب معاقاً في نموه وصيرورته إنساناً سعيداً، حسن التكيف.

سعيدٌ هو الطفل الذي يباشر مراهقته وهو على وفاق ووئام مع أمه، يتحدث إليها بيسر وسهولة مفصحاً عن مشاعره الشخصية ومشاكله ومصاعبه الناجمة له في المدرسة والبيت حيث تستمع الأم إليه جيداً، وتحاول فهمه وتقدير مشاعره، مركزةً على إيجابياته، مشجعةً مواقفه الجيدة، ومعرجةً على ما تراه غير مناسب له.

وفي كل الأحوال فإنه من الأهمية بمكان أن يذكر الوالدان أنه مهما كانت الشقة تبدو واسعة بين المراهق وأهله، فهو يحب أولئك الأهل، ويحتاج إلى نصحهم وإرشادهم وتقديم العون له.

والعلاقة بين الإخوة والأخوات وجه هام من وجوه الحياة العائلية، فكل طفل يكون عميق الشعور بالنسبة لمشاعر الأب و الأم نحوه ونحو إخوته وأخواته، والأطفال يعرفون بطريقتهم الخاصة من هو الأقرب إلى قلب الأب أو الأم، لذلك فعلينا أن نكون عادلين في تعاملنا مع أطفالنا، وأن نبتعد عن جرح شعورهم مهما كانت الأسباب.

إنه لمؤلمٌ بالنسبة للأبوين أن يشعرا بأنهما غير قادرين على منح أطفالهما نفس العاطفة،وهذا يولد عندهما شعوراً بالإثم، والأسرة المتزنة هي الأسرة التي تكون فيها العلاقات بين جميع أفراد العائلة طيبة، ويقوم كل فرد بدور فعال في حياة الأسرة.

يشكو الكثير من الوالدين من ميل المراهقين إلى الخصام مع إخوتهم وأخواتهم، ومن أن البيت ينقلب إلى جحيم لا يطاق حين يجتمعون معاً، والسبب يعود إلى التنافس بينهم، وهذه الروح التنافسية هي علاقة صحية لتكوين الفرد إذا لم يبالغ فيها. الأطفال في العائلة الواحدة يكونون في مراحل مختلفة من النمو وهذا أمر يمكن أن يكون مفيداً ومساعداً، فالأطفال الصغار يقلدون الكبار، ويعتبرونهم مثلاً يحتذى وقدوة حسنة وهو ما يشجعهم على قبول النمو بوصفه أمراً مرغوباً فيه وذا أهمية، ومن جهة أخرى فقد يكون الأخوة الصغار مصدر إزعاج للكبار عندما يتدخلون في ممتلكاتهم الخاصة، أو يمسون صداقاتهم الجدية، أو أمورهم القلبية ويضحكون منهم. إن القول بأن "ليس هذا عدلاً" هو الصرخة الشائعة في كل بيت ومن كل ولد، وفي معظم الأحيان تكون هذه الخصومات سطحية تزول سريعاً إذا عالجها الوالدان بحكمة.

الأعمال المنزلية ومساعدة الأهل في إنجازها تبدو مشكلة تسبب الكثير من عدم الانسجام في البيت إذ إن المراهقين ذكوراً وإناثاً يبدون عازفين عن تنفيذ ما يُطلب منهم لا فيما يتعلق بالبيت فقط بل فيما يتعلق بهم أنفسهم وبأشيائهم الخاصة بهم، إنهم يعتبرونها فريضة ثقيلة عليهم، بعكس الأطفال الأصغر سناً الذين هم أكثر مراعاةً لشعور الآخرين، وأكثر رغبة في المساعدة باعتبارها نوعاً من الامتياز.

المراهق يراقب بحسد ما إذا كان كل الآخرين يقومون بحصتهم من العمل، وهو شكاكٌ في أنه يُطالَب بأكثر مما يجب عليه، إنهم يعتبرون أن حنان آبائهم وأمهاتهم أمر مرفوض ومحتم، وينظرون المدح والتعويض عن كل ما يقومون به في المنزل، ولكنهم بعد الخامسة عشرة يصبحون أكثر معقولية ومراعاةً لشعور الآخرين.

يعتبر الأطفال والمراهقون البيت ملكاً للأبوين وليس لهم، لذلك يبتعدون عن الاهتمام به وبموجوداته، ويفضل المراهق أن تكون له غرفة خاصة به، يجمع فيها بعض الأشياء الخاصة، بعيداً عن الأعين المتلصصة والأيدي العابثة، ويكون متعلقاً بممتلكاته التي حصل عليها بنفسه، أو التي قدمت إليه كهدايا، أو ابتاعها من مدخراته، لذلك فهو يثور ويغضب إذا قام أحد إخوته بالاعتداء عليها، أو قام أحد والديه بإعطاء غرض من أغراضه إلى أخيه دون أخذ موافقته.

ما يكاد المراهق يبلغ الثالثة عشرة حتى يبدأ بوضع والديه ومعلميه تحت المجهر، ليشرّحهم ويحللهم دون رحمة أو شفقة بمساعدة عينيه الحادتين ونفسه الفتية الصافية لأنه في هذه السن لا يعرف شيئاً من التسويات والظروف المخففة ولا يبحث عن الأسباب الأساسية لما يلاحظ، بل كل ما يدركه المراهق ينحصر فيما نقوله، وما نقوم به وخاصة تصرفنا نحوه ونحو العالم الخارجي وعلى هذا وحده يبني المراهقون أحكامهم. والمراهق يخلص إخلاصاً شديداً لأصدقائه سواءٌ أكانوا من نفس الجنس أو من الجنس الآخر! والانتقاص من قدر هؤلاء الأصدقاء من قبل الوالدين أمر يغضبه غضباً شديداً، ويدفعه إلى مزيد من الالتصاق بهم مهما كانوا غير مرغوب فيهم، والأبوان الحكيمان يشجعان أبناءهم على إحضار أصدقائهم إلى البيت، ويكونان مستعدين للترحيب بهؤلاء الأصدقاء. إنها لخطيئة كبرى أن يحاول أحدٌ الحصول على ثقة الأطفال بالقوة، أو أن توجه إليه أسئلة من هذا القبيل: أين كنت؟ مع من كنت؟ وماذا فعلت؟

كلُّ والد يتمنى أن ينمو فرخه الصغير ليصبح طائراً محلقاً، وهو ينسج العديد من الخيالات حول مثلٍ أعلى قلما يصح في عالم الواقع، وتتوقف طريقة النسج تلك على مستوى الوالدين الخاص بهما، فالأب الرياضي يريد أن يكون أبناؤه رياضيين، والأب المثقف يود أن يكون أولاده مثقفين مثله وهكذا…بالطبع إن الطفل يتألم ألماً عميقاً إذا خيّب آمال والديه فيه، ومن الخطأ أن يعتبر الوالدان طفلهما امتداداً لهما وعليهما أن يسألا نفسيهما عما يتوقعانه من أولادهما، هل يريدان الأولاد لإرضاء ذاتيهما؟ هل يتوقعان من أولادهما أن يكرسوا حياتهم لهما؟ وهل يطالبانهم بأن يكونوا على الشكل الذي رسماه لهم؟ وهل هما مستعدان لمساعدتهم على تحقيق ذواتهم بطرقهم الخاصة بهم؟

قد تكون الأجوبة على هذه الأسئلة غير سارة دوماً، ومن الأنسب أن تواجه بصراحة وفي مرحلة مبكرة جداً من حياة الطفل، على اعتبار أن كل محاولة لإجبار الانسان على اتخاذ نمط لا يناسبه ستقود حتماً إلى تشويه شخصيته وسوء تكيفه العاطفي.

حب الانتماء يظهر عند الأطفال منذ السنة الخامسة من العمر ويزداد هذا الحب خلال المراهقة، لذلك كلما زادت هذه العلاقة وثوقاً في البيت، تزداد الروح الجماعية لدى المراهق، ومن سوء الحظ أن تتسع الفروق في الرأي بين المراهقين وعائلاتهم لدرجة تجعلهم يشعرون بأنهم منبوذون ولا ينتمون إلى أية جماعة.

إن ما يخفق المراهقون في ملاحظته هو أن والديهم كثيراً ما يعتبرونهم غير مرضيين، ويصعب العيش معهم، لذلك فهم يفقدون تعاطفهم معهم بعض الوقت، إنها نوع من الصدمة أن يرى الأبوان طفلهما الذي كان يعتمد عليهما ويحبهما يؤكد ذاته ويطلب حريته، إنهما قد يشعران بأنهما غير مرغوب فيهما حين يبقى المراهقون خارج البيت معظم الوقت مع أصدقائهم الخاصين بهم. وكثيراً ما يشعر الآباء بالإهانة العميقة حين يخالفهم أولادهم وينتصرون عليهم في مناقشة ما، ومع ذلك وعلى الرغم من كل ما يبديه المراهقون تجاه الأهل يبقى للوالدين ذكريات غالية للأولاد الذين كبروا وطاروا من العش.

 

المراجع:

1 – رحلة عبر المراهقة، للكاتبة دوريس أودلم، طبعة عام 1967، ترجمة الدكتور فاخر عاقل.

2 – تربية الطفل من المهد إلى الرشد، طبعة عام 1958، ترجمة الدكتور نظمي لوقا.

عن جمعية التعليم المسيحي بحلب