هل الكنيسة أخطأت بشأن نظرية داروين؟

 

 

بمناسبة مرور 150 عاماً على اطلاق ننظرية العالم داروين، أطلق الكرسي الرسولي مبادرة لعقد مؤتمر بين العلماء واللاهوتيون لتقوية الحوار وتقريب وجهات النظر بين ما يقوله العلم ما ناحية والدين من ناحية أخرى بشأن نظرية داروين.

ضمن هذا السياق صرح الكردينال رافاسي رئيس المجلس البابوي للثقافة قبل أيام إعلاناً مفاده بأن: "نظرية داروين لا تتعارض مع تعاليم الكنيسة الكاثوليكية ولا مع رسالة الإنجيل، وهي في الحقيقة لم تكن موضع إدانة يوماً من قبل الفاتيكان".

من هنا طرح العديد من التساؤلات وعلامات الاستفهام حول موقف الكنيسة، لذلك حاولت أن أقدم بعض التفاصيل التي يمكن أن تقدم صورة للقارىء حول جوانب النظرية ورأي الكنيسة، وما هذا إلا محاولة بسيطة للوصول إلى رؤية واضحة تقرب وجهات النظر.

في البداية أوضح بإن نظرية النشوء والارتقاء لا تتناول فقط مسألة نشوء الإنسان بقدر ما تتسع لتفسر نشأة الكون برمته، من خلال "المادة الأولى" التي تسير في خط تصاعدي ودرجات متعددة من الكثافة والتعقيد لتصل في نهاية المطاف إلى إنسان مفكر قادر على أن يطور نفسه بنفسه، بعد مراحل عديدة وسنوات لا تنتهي من وضع الأصفار.

 

أولاً: نظرية النشوء والارتقاء بحسب داروين

إن المبدأ الأساسي التي تقوم عليها النظرية هو "الاصطفاء الطبيعي" natural selection أي أن التطور في سلّم الكائنات الحية يتم بواسطة تبديلات تحصل من وقت إلى آخر في الميزات الوراثية، فإما أن تخدم الكائن في صراعه من أجل البقاء فيصبح في الوجود ويتكاثر وإما أن تعيقه فيزول.

أما عن ذات النظرية فتقول:

الكون في حالة مستمرة من التطور، بدأ منذ مدة تتراوح بين العشر والخمسة عشر ملياراً من السنين. كان الفضاء يتكون من أبسط أنواع الذرات وهو الهيدروجين، ومع الحرارة والتفاعلات النووية أدى إلى تعقيده وتحوله إلى هيليوم، والهيلوم إلى كربون وهكذا… إلى أن تكونت الذرات الـ92 الموجودة في الطبيعة.

 "ظهور المملكة النباتية"

وبفعل انخفاض درجة حرارة الكواكب والأشعاعات الكونية، تحولت الجزيئات العادية إلى جزيئات معقدة تسمى العضوية (السكريات والأحماض الأمينية)…

 تجمعت الجزيئات العضوية في مياه البحار الدافئة مكونة في النهاية "الخلية الأولى"، التي تتكيف مع البيئة وتصلح ذاتها، وتحوّل ما تستمده من الخارج إلى ذاتها.

"ظهور المملكة الحيوانية"

بعد الكائنات الحية ذات الخلية الواحدة، ظهرت كائنات تتألف من خلايا منسجمة تعمل فيها العناصر كلها لخدمة المجموع…

وقد ازداد التعقيد بشكل ملحوظ عندما أخذت مجموعات من الخلايا -ضمن الكائن الواحد- تتخصص للقيام بوظيفة معينة فتكونت الأجهزة.

وكان لابد من جهاز يربط تلك الوظائف من جهة، وبين العـالم الخارجي من جهة أخـرى، فبرز الجهاز العصبي وتطوّر تدريجياً مما أدى إلى نمو الدماغ كمركز أساسي للجهاز العصبي.

"الشمبانزي"

وبتطوّر الجهاز العصبي تطورت قدرة الكائنات الحية على التكيّف مع بيئتها، وازدادت الغرائز إتقاناً وبرز الذكاء وتزايدت حدته إلى أن بلغ أوجه في أعلى مراتب القردة أي الشمبانزي.

"قفزة الفكر وظهور الإنسان"

تلك القفزة التي تمت على مراحل (أكثر من حوالي مليون سنة)، أوجدت كائنا ذا شبكة عصبية مترابطة هائلة في التعقيد، يتميّز عن سائر الكائنات الحية بكونه كائنا ذا فكر وحرية، يعي ذاته ويعي الكون بمفرده، ويتطوره بعمله الخلاق… إلى أن بلغ ذروته في الإنسان (14 مليار من الخلايا، أربعة أضعاف خلايا الشمبانزي تقريباً)…

ملاحظات حول النظرية

1-  إن نظرية داروين كما شاهدنا تحوي الكثير من الحلقات المفقودة، فهنالك قفزات كبيرة تحتاج إلى تفسير، وهذا لم يتطرق إليه داروين نفسه.

2-  داروين يرى أن التطور يأتي من خلال الصدفة، فالطبيعة تتطور وتتعقد من تلقاء نفسها، وهذا مرفوض جملة وتفصيلاً من قبل العلماء نفسهم… فالصدفة تعني الفوضة، عدم التدريجية في النشأة وعدم الوحدة، في حين أن الكون والإنسان بشكل خاص يتميز بالدقة اللامتناهية في تكوينه البيولوجي. (تأمل الجهاز العصبي، الدماغ، العين وهلمّ جرا فانسجام الكون يذكرنا بأن هناك مهندس ومصمم). إضافة إذا قبلنا "مبدأ الصدفة" يعني أن الكون يسير في طريق غير معلوم.

  ايجابيات النظرية

1-  فكرة التطور "بشكل عام" هي شيء مقبول، فالتقدم والازدهار هو من صفات العالم (تأمل تطور الإنسان في حياته من العصر الحجري إلى عصرنا هذا)، فالتطور هو ميزة في هذا الكون.

2-  التطور الحيواني مقبول، فالحيوان يحاول التكيف دائماً مع البيئة التي يعيشها. (مثال أنواع البكتريا والفيروس التي تطور نفسها دائماً).

 

ثانياً: الكنيسة والتطور

الكنيسة في القرن التاسع عشر بحثت في الربط بين العلم والدين، من خلال تيار دي شاردان.

اللاهوتي والفيلسوف تيار دي شاردان كان يرى أن هنالك تطوراً واضحاً هادفاً قائلاً: "هناك تطور مقصود ومحكم ومخطط في كل أنواع الحياة، بعيد عن الصدفة، جرياً على نظام باطني، من الاقل تطوراً إلى الاكثر تعقيداً، حيث ان لهذا التطور وجود غاية روحية تنتهي في المسيح الذي هو هدف.

فالله وضع الروح في المادة، بالتالي الكون هو مغلف بالروح. لذاك نراه يناجيها ويقول أيتها المادة المقدسة يا حاملة الروح في رحمك.

فالمراحل المتتالية منذ تطور المادة وصولاً للفكر البشري، هي ظاهرة غير وليدة الصدفة كما يعتقد البعض، بل هي مقصودة وكامنة في نظام التطور.

وهذا التطور لا يقتصر فقط من الناحية البيولوجية للمادة، بل تتعداها من الناحية الفكرية والاجتماعية، فالانسان يكون على وعي أكبر من الماضي كلما استمر الزمن في التقدم، فكل الشعوب في النهاية تحاول الوصول إلى نوع من الوحدة، وما الوحدة إلا مرحلة للوصول في النهاية إلى نقطة أوميغا  (أوميغا: الحرف الأخير من الأحرف اليونانية)، والتي تمثل لديه الحقيقة/ المسيح/ الله.

هل الكنيسة وقفت موقع عداء كما يدعي البعض أم موقف تردد؟؟

1- الكنيسة لم تمارس أي نوع من العداء الحقيقي تجاه هذه النظرية، فهي أولاً لم تحكم على داروين ولم تحرق أو تمنع كتبه وأبحاثه. بل وقفت موقف متردد حيال هذه النظرية تنتظر التأكيدات. 

2- نظرية داروين رفضت من قبل الكثير من العلماء حتى في وقتنا الحالي (بالرغم من أنها على قائمة النظريات المفسرة نشأة الكون). فهناك انقسام حول النظرية حتى في الساحة العلمية نفسها.

3- كثير من اللاهوتيين بحثوا واجتهدوا في هذه النظرية، أمثال شاردان والقديس توما الأكويني.

4- قبلت الكنيسة الكاثوليكية طيلة الـ 50 عاماً هذه النظرية، ولكنها كانت تعطي لله دوراً. وهنا أقتبس آية من رسالة القديس بولس إلى أهل روما: "فمنذ خلق العالم لا يزال ما لا يظهر من صفات الله، أي قدرته وألوهته، ظاهراً للبصائر في مخلوقاته…" روم 1: 20. إضافة للعديد من الآيات المشابهة (حك 13/1 ،  روم 1/ 18-19).

5- آراء البابوات عبر التاريخ: وصف البابا بيوس الثاني عشر سنة 1950 الارتقاء بأنه "نهج علمي صحيح بالنسبة إلى تطور البشر. ووافق البابا يوحنا بولس الثاني هذا الرأي عام 1996.

6- كثير من اللاهوتيين داخل الكنيسة بحثوا واجتهدوا في هذه النظرية توفيقاً بين ما يقوله الدين من جهة والعلم من جهة أخرى، أمثال تيار دي شاردان والقديس توما الأكويني وغيرهم.

7- الكنيسة الكاثوليكية لا تتمسك بالتفسير الحرفي لقصة الخلق الموجودة في سفر التكوين (6 أيام، ترتيب خلق الكائنات…)، فهي تعلم أن رسالة الكتاب المقدس تعكس خبرة العلاقة بين الله والإنسان، لا تفسيراً للنظريات العلمية. فالعبرة من قصة الخلق، هو أن الله خالق الكون والإنسان، خلق في القديم ويخلق اليوم، ويرافق البشرية والكون في مسيرة الخلق والتطور.

8- التطور هو ميزة البشرية. والكنيسة هي مؤسسة إلهية يديرها بشر يحاولون في كل لحظة الوصول إلى الحقيقة الكاملة، فالتطور في فكر الكنيسة هو أمر مسلم به. وهنا أوضح أن التطور لا يعني التغيير من رأي لآخر بقدر ما هو مسيرة نضوج وتقدم للوصول إلى الحقيقة كاملةً.

9- تستطيع الكنيسة اليوم -بالتعاون مع العلماء- أن تملأ الحلقات المفقودة في هذه النظرية. وهنا يظهر التعاون بين العلم والدين، فلا يمكننا أبداً أن ننظر إلى الدين بأنه عدو للعلم، ولا العلم هو عدو للدين، فالدين والعلم معاً يحاولان التوصل إلى إجابات للأسئلة الأساسية. وهذا ما تعيه الكنيسة نفسها انطلاقاً من المجمع الفاتيكاني الثاني، فلا طيران بجناح واحد.

نلخص حديثنا بأن نظرية داروين ليست واضحة للعيان، مما يعني أننا لا نستطيع قبول كل النظرية دفعة واحدة، سواء من قبل العلماء أو الكنيسة. ولكن بالرغم من ذلك هناك بعض النقاط الإيجابية، المقبولة أكاديمياً وكنسياً، وهي:

أولاً: فكرة التطور والتقدم التي تشمل الكون برمته بما فيه الإنسان.

ثانياً: ايجابية فكرة تدخل الله ومرافقه للطبيعة وهي "خلق من قبل الله". رافضين فكرة المصادفة التي لا مكان لها في العلم والدين.

بهذا تتوافق النظرية (بالشروط التي وضعناها سابقاً) مع تعاليم الكنيسة الكاثوليكية ورسالة الإنجيل كما في تصريح الكاردينال.

في النهاية نظرية التطور لداروين هي قابلة "للتطور" أيضاً والتصحيح من قبل العلماء كان ذلك اليوم أو في المستقبل. وأقول كما قال باسكال: "للقلب دواع لا يعرفها العقل دائماً".

 

 

أنظر أيضا: 

 

مجلة روزاليوسف :     مقال فى صفحة 88 و 89 كتبه د .الانبا يوحنا قلتة بعنوان " الفاتيكان يبرئ نظرية داروين من الكفر و الالحاد"

 

 

bahaalamat1@gmail.com عن موقع ابونا الأردني