مقدمة : هل نعرف أجسادنا ؟
نقرأ من رسالة القديس بولس الأولى إلى أهل كورنتس:" أما تعرفون أن أجسادكم هي أعضاء المسيح؟ فهل آخذ أعضاء المسيح وأجعل منها أعضاء امرأة زانية؟ لا، أبداً![…] ألا تعرفون أن أجسادكم هي هيكل الروح القدس الذي فيكم هبة من الله؟[…] فمجّدوا الله إذاً في أجسادكم."(1 كور 6/15-20)
وفي آيات لاحقة يقول: "فأنتم جسد المسيح، وكل واحد منكم عضو منه". (1 كور 12/27)، فنحن "هيكل الله الحي". هكذا قال الله: "سأسكن بينهم، وأسير معهم، وأكون إلههم ويكونون شعبي[…] فلنُطَهّر أنفسنا من كل ما يدنّس الجسد والروح، ساعين إلى القداسة الكاملة في مخافة الله". (2كور 6/16و7/1).
والسؤال هل نعرف أجسادنا؟ أية صورة لنا عن جسدنا؟ صور واعية وأفكار مسبقة لنا عن جسدنا. تعلّم الكثير منّا، أو على الأقل الأكبر سناً منّا، وتربّى على الحذر من الجسد، من جسدنا حامل الخطيئة والمغري والدافع إليها. يشُدنا جسدنا إلى الأسفل وأما روحنا فيقودنا إلى الأعلى. ولكي نُتمّ فينا عمل الفداء علينا أن نُحرر روحنا من هذا الجسد الفاني، من هذا الثِقل اللحمي المادي، أن نقمع رغبات هذا الجسد وشهواته وأهواءه.
اليوم، آمل أن نكون قد تعدّينا هذه "الأيديولوجية" التي تجعل من الإنسان روحاً – تُرَوحن الإنسانية – والتي تعلّمنا أن نقول:"لي جسد، عندي جسد"؛ إلى رؤية أكثر موحّدة للإنسان والتي نلخصها بالقول:" أنا جسد"، والتي فيها الجسد مُكوِّن أساس من مكوّنات طبيعتنا. فبـ" أنا – جسد" أتواصل مع الآخرين وسائر الأشياء والكون، ولأنني "أنا – جسد" أستطيع أن أصغي للآخر وأتحاور معه، أشعر به، أرتعش، أتألم، أفرح، ألتقي بالآخر، أصير وإياه جسداً واحداً: "ولذلك يترك الرجل أباه وأمه ويتّحد بامرأته، فيصيران جسداً واحداً"( تك 2/24). "أنا – جسد" هو الإعلان عني أنا – الإنسان. ألا نرى – أسفاً – استعمال الجسد للإعلانات والدعاية! "أنا – جسد" مُنتج للإعلان والاستعمال! ولكن للـ" أنا – جسد" حدوده وضعفه، فهو سوي ومريض ومعوّق وشيخ وكهل له صورة وانعكاس لمشاعر وعواطف فرح وغضب وخوف وقلق واكتئاب… هذا أيضاً "أنا – جسد"، ولكن أيضاً "أنا – جسد" له انحلال وتشوّهات وهبة أعضاء، ومداخلات جراحية وهندسة وراثية ومحاولات استنساخ… وكم من سؤال يُطرح حول أخلاقيات الطب البشري.
أولاً : الجسد خليقة أمام الله
"وقال الله:" لنصنع الإنسان على صورتنا كمثالنا"[…] فخلق الله الإنسان على صورته، على صورة الله خلق البشر، ذكراً وأنثى خلقهم" ( تك 1/26-27). "وجعل الرب الإله آدم تراباً من الأرض ونفخ في أنفه نسمة حياة. فصار آدم نفساً حية […] وبنى الرب الإله امرأة من الضلع التي أخذها من آدم، فجاء بها إلى آدم فقال آدم: "هذه الآن عظم من عظامي ولحم من لحمي، هذه تسمى امرأة، فهي من امرئ أُخذت". ولذلك يترك الرجل أباه وأمه ويتّحد بامرأته، فيصيران جسداً واحداً". ( تك 2/7و22-24).
يقول كارل راهنر وهربرت ثورغريملر في كتابهما "معجم اللاهوت الكتابي: إن مهمة الفلسفة المسيحية واللاهوت المسيحي( والتي لم تتم بكاملها إلى اليوم) كانت في تحقيق الوحدة والتنظيم العضوي بين علم الإنسان المستمد من أفلاطون ( الذي بتوجيهه تركّب اللاهوت الأول في الكنيسة – الأفلاطونية الحديثة ) وعلم الإنسان المستمد من الكتاب المقدس" (ص 102).
النظرة اليونانية للإنسان عن نفسه والتي تظهر في تفكيره وفي عمله، تعبّر عن ازدواجية أكثر وضوحاً كما عند أفلاطون، أو أقل وضوحاً كما عند أرسطو: إن الجسد هو للإنسان "سجن" أو "قبر"، أو أنّ الإنسان مؤلف من "أقسام" عديدة، بمعنى أننا نستطيع أن نقول إن له جسداً؛ إن النفس هي صورة الجسد الجوهرية.
أما نظرية الكتاب المقدس والتي نجدها واضحة في العهد القديم، فهذا لا يعرف مفهوم "الجسد" إنما يدل دائماً بالكلمتين "لحم" و "نفس" (نفس حياة) الإنسان بكامله، في وحدته الأصلية.
1- العهد القديم: لا نجد في العالم العبراني لفظة "الجسد" بل "بشر" ( ب ث ر ) الذي يدلّ بعض المرات على الإنسان كله فحين يتحدث عن الجسد الحي يستعمل لفظة "ب ث ر" ( بشر، بدن، لحم ودم ) ويميّزها عن "ش ا ر" الذي يدلّ على اللحم كطعام. أما لفظة "ب ث ر" فهي تدل على الإنسان كله. وعبارة "كل جسد فيه نسمة حياة" (تك 6/17؛7/15 ) تعني كل كائن حي. يدل "جسد" على الفرد والشخص. وفي الفكر العبري وفي كلامه تلعب أجزاء الجسد البشري دوراً كبيراً، لا كلغة بُصورة واستعارة بل كأعضاء في الحياة النفسية والجسدية. فغياب الثنائية "نفس – جسد" جعلت الكاتب ينسب إلى أعضاء الجسد، التي تتأثر بتأثيرات متنوعة، العواطف والأفكار التي تعتبرها مرتبطة عادةًَ بالعقل.
2- العهد الجديد: ما يقابل (ب ث ر) في اليونانية هو "ساركس" (الجسد في اليونانية "سوما"). حسب السياق، "ساركس" هي جسد الفساد وهي القرابة، الإتحاد الزواجيّ. وعبارة "كل بشر" تدل على الناس كلهم ويقابلها لا أحد لا بشر. والاسم " سوما " (الجسد) يدل على الانسان كله، ولكنه لا يعني الانسان في ضعفه، كخليقة عابرة وخاطئة (=ساركس). لا يظهر التميز بين "بسيخي" (النفس) و "سوما" (الجسد) كمركّبين في الإنسان إلا في الأسفار التوراتية التي دوّنت مباشرة في اليونانية، وتضّمن العهد الجديد أيضاً عودة واضحة إلى هذه النظرة الثنائية والثلاثية في الإنسان ( أفسس 5/23؛1 كور 15/44-45) وهي نظرة يونانية تقابل الجسد كعنصر مادي فاسد، مع النفس والروح. ويبدو هذا التعارض واضحاً جداً في متى 10/28: "لا تخافوا الذين يقتلون الجسد ولا يقدرون أن يقتلوا النفس، بل خافوا الذي يقدر أن يهلك الجسد والنفس معاً في جهنم"، حيث الجسد (سوما) يُقتل، لا النفس (بسيخي).
3- في اللاهوت البولسي: يرتبط الجسد في اللاهوت البولسي بالدور الذي ينسبه العهد القديم إلى مختلف أعضاء الجسد، يشكّل الجسد عدّة أعضاء ذات وظائف مختلفة وقد جمعها الله. واستعمال "سوما" ( الجسد ) للدلالة على وحدة مؤلفة من أجزاء، لا يجد مايوازيه في الأدب اليوناني السابق للعهد الجديد.
إن نظرة القديس بولس إلى الكنيسة كجسم المسيح والمؤمنين الحي أخذها من النظرة البيبلّّّّّّبية إلى الإنسان الذي فيه يشكل اللحم والدم والنسمة والأعضاء وحدة لا تنفصم. غير أن هناك نصوصاً بولسية أخرى يبدو فيها الجسد كأداة الخطيئة ومركزها، ويبدو هذا الموضوع (الإنسان الباطني والإنسان الخارجي) متأثراً بالتعاليم الفيثاغورية التي تعتبر الجسد سجناً يضبط النفس.. لهذا هتف بولس: "من يخلصني من جسد الموت هذا " (رو 7: 24)؟ ولكن هذا الجسد لا ينتهي في العدم بل هو مدعو إلى الحياة بواسطة القيامة.
ثانياً – كرامة الجسد
" ألا تعرفون أن أجسادكم هي هيكل الروح القدس الذي فيكم هبة من الله؟ (1 كو 6/15)
يشترك جسد الإنسان في كرامة "صورة الله": إنه جسد بشري لأن النفس الروحانية تبث فيه الحياة، والشخص البشري بكامله مُعدٌ لأن يصبح، في جسد المسيح، هيكل الروح (ت م ك ك 364). الإنسان واحد بجسده و نفسه، وهو بوضعه الجسدي نفسه يجمع في ذاته عناصر العالم المادي، بحيث تبلغ فيه قمتها، وترفع بحرية إلى الخالق صوت حمدها. "فلا يجوز للإنسان إذاً أن يحتقر الحياة الجسدية، بل عليه أن يعامل جسده بالإحسان و الإكرام لأنه خليقة الله ومُعدٌ للقيامة في اليوم الأخير" (ك ع 14 – 1).
فهذا الجسد يميز الشخص البشري في حالته الأرضية. وقد شكَله الله كالنسَاج ( أيوب 10/ 11 ) أوكالفخارى (إر 1/5) وبالتالي فهو جدير بإعجابنا، وسواء اعتبرناه كجزء من كياننا الجسمي _ لحم و دم عظام، ولحم، قلب وجسد _ أو اعتبرناه مشيراً إلى الجسم بجملته، مثلاً عندما يمرض أو يتألم أو يتعرض للمحن، فنحن لا نجد مطلقاً أي أثر للتحقير إزاءه بل على النقيض، لا يمكن للإنسان أن يبغضه، فالجسد يتمتع بكرامة لها وزنها عندما يشير إلى الإنسان ككائن واقعي.
يستعمل الإنسان السامي ( من أبناء سام ) كلمة "كل جسد"، كما يستعمل كلمة "نفس" للتعبير عن الخليقة الحية كلها ( سيراخ 40 / 8 ) ولاسيما عن الجنس البشري (مر 13 / 20)، وقد يشير بكلمة "جسد" إلى عمق الشخص، إلى الشركة العميقة و الاتحاد، و لاسيما بالنسبة إلى الكائن الجديد "الجسد الواحد " الذي يُصبِحُه الزوجان معاً. ومن ثم، نفهم أن اللفظ نفسه يمكنه أن يعني الشخص نفسه "الأنا" = "أنا – جسد".
ثالثاً: احترام الجسد / احترام كرامة الأشخاص
جسد المؤمن ونفسه يشتركان في كرامة من يكون "في المسيح"، مما يقتضي أن يحترم الإنسان أيضاً جسده الخاص، و يحترم جسد الآخر ولاسيما عندما يتألم (1 كور 6/ 13 – 15 ، 19 _ 20)، و من احترم الجسد _ احترم كرامة الأشخاص :
1- احترام نفس الآخر: لا للمعثرة : و هي الموقف أو السلوك الذي يحمل الآخر على فعل الشر. إنها إساءة إلى الفضيلة أو إلى الاستقامة. "من أوقع" (يُعثِّر) أحد هؤلاء الصغار المؤمنين بي في الخطيئة، فخير له أن يُعلّق في عنقه حجر طحْنٍ كبير و يُرمى في أعماق البحر" (متى 18 / 6). ويمكن أن تتسبّب بالمعثرة الشريعة أو المؤسسات، أو الزي الشائع (الموضة) أو الرأي السائد.
2- احترام الصحة: الحياة والصحة الطبيعيتان خيران ثمينان، وديعة من الله، فعلينا أن نعتني بهما على حد معقول، مع الاعتداد بضرورات الآخرين والخير العام. والعناية بالصحة تقتضي العناية بالغذاء والكساء والسكن والعناية الصحية والتعليم الأساسي والعمل والمساعدات الاجتماعية. وإذا كانت هذه ضرورية وتدعو الأخلاق إلى احترام الحياة الجسدية فهي لا تجعل منها قيمة مطلقة، فهي تعارض كل مفهوم وثني يرمي إلى عبادة الجسد، و التضحية بكل شيء في سبيله. وهنا الأهمية لفضيلة القناعة لتجنب كل أنواع الإفراط وسوء استعمال الطعام والكحول والتبغ والأدوية والمخدرات.
3- احترام الشخص والبحث العلمي: البحث العلمي الأساسي يدل على سيادة الإنسان على الخليقة وللعلم والتقنية منافع ثمينة عندما يوضعان في خدمة الإنسان، ويعزّزان نموه الكامل لفائدة الجميع. وهما لأجل الإنسان الذي يستمدان منه أصلهما و نموهما.
"ويقتضي العلم و التقنية بمعناهما الأساسي احترام المقاييس الأساسية للأخلاق احتراماً غير مشروط، وعليهما أن يكونا في خدمة الشخص البشري، و حقوقه التي لا يمكن التخلي عنها، و خيره الحقيقي و الكامل، و فاقاً لتصميم الله ومشيئته" (ت م ك ك 2294).
4- احترام سلامة الجسد : وذلك برفض كل أشكال الخطف وأخذ الرهائن والتهديد، والضغط الشديد و الإرهاب والتعذيب والبتر والتشويه والتعقيم المقصود، فذلك كله يتعارض واحترام الشخص والكرامة الإنسانية.
5 – الحشمة: ما سُمّي بالتساهل الأخلاقي يستند إلى مفهوم خاطئ للحرية الإنسانية، والنقاوة تقتضي الحشمة. وهي تعني رفض الكشف عما يجب أن يبقى خافياً، وهي ترشد الأنظار والحركات المتوافقة مع كرامة الأشخاص، فالحشمة تصون سر الشخص ومحبته وتدعو إلى الاعتدال والصبر في علاقة الحب وتومي باختيار الثوب وتحافظ على الصمت أو تسكت حيث يتراءى خطر فضول ضار " يُعرّي جسد الآخر" أي يفضح الإنسان كله. وهذا الاحترام – الحشمة تناوئ الاستطلاعات الفاجرة للجسد البشري في بعض الدعايات، فتذهب وسائل الإعلام بعيداً جداً في الكشف عن المسارات الحميمة، فأصبح الجسد بضاعة رائجة – إنسان يُروِّج لِمُنتَج!
رابعاً : انتهاك الجسد
ينتهك الإنسان جسده ويسيء إلى كرامته الشخصية أو جسد غيره وكرامته كل مرة يقوم:
1- الفجور: الرغبة المنحرفة في اللذة الجنسية ، أو تمتُّع بها مُخِلٍّ بالنظام الأخلاقي.
2- الاستمناء: ويقصد به الإثارة المتعمّدة للأعضاء التناسلية للحصول منها على اللذة الجنسية.
3- الفسق: وهو الاتصال الجنسي خارج نطاق الزواج بين رجل وامرأة حُرّين.
4- الإباحية: وتقوم على سحب الأفعال الجنسية التي تُعمل حقيقة أو تظاهراً، من جو الفاعلين الحميم لعرضها على الآخرين بطريقة متعمَّدة .
5- البغاء: وهو آفة اجتماعية ، وتنحصر في اللذة الجنسية التي تستمد من ذلك الشخص، والذي يدفع يخطأ خطأً جسيماً إلى ذاته و الآخر. والبغاء يصيب النساء و الرجال والمراهقين والأولاد (وفي هاتين الحالتين الأخيرتين تتضاعف الخطيئة).
6- الاغتصاب: ويعني الدخول عنوة وبالعنف في ما عند الشخص من وضع جنسي حميم. إنه إساءة إلى العدل والمحبة فالاغتصاب يجرح جرحاً بليغاً حق كل واحد في الاحترام والحرية، والسلامة الجسدية والمعنوية، إنه يؤذي أذى جسيماً قد يؤثر في الضحية مدى الحياة .
وإلى ما هناك من انتهاكات كاللواط والسحاق والأفعال الجنسية المخالفة للطبيعة أو مع الحيوانات أو مع الجثث أو مع الأشياء . . .
خامساً : الجسد والخطيئة
يقول القديس أوغسطينوس في رسالة يوحنا إلى البرتيين (1 ، 6): "لا يستطيع الإنسان، مادام في الجسد، أن يتجنّب كل خطيئة، وعلى الأقل الخطايا الخفيفة. ولكن كل هذه الخطايا التي ندعوها خفيفة، لا نحسَبْها بلا أهمية: فإن كنتَ تحسبُها بلا أهمية عندما تَزِنُها، فارتعد عندما تعدها، مجموعة من الأشياء الصغيرة تصنع كتلة كبيرة، مجموعة من القطرات تملأ نهراً، مجموعة من الحبّات تعمل كومة، فما هو عندئذ رجاؤنا؟ إنه قبل كل شيء الاعتراف".
في الإنسان من قبل، بما أنه مركب من روح وجسد، نوعٌ من التوتر، وفيه يقوم نوع من الصراع بين ميول "الروح" و"الجسد"، ولكنّ هذا الصراع يعود في الواقع إلى إرث الخطيئة، وهو نتيجته، وفي الوقت ذاته، تأكيد له، وهو جزء من الاختبار اليومي للجهاد الروحي، يقول البابا يوحنا بولس الثاني: الأمر بالنسبة إلى الرسول ليس احتقار الجسد والقضاء عليه. فهو مع النفس الروحية يؤلف طبيعة الإنسان وشخصيته، والرسول، بالمقابل، يعالج الأعمال أو بالحريّ الاستعدادات الثابتة، من فضائل ورذائل،الصالحة والسيئة أخلاقياً، والتي هي ثمرة الخضوع (في الحالة الأولى) أو بالعكس المقاومة (في الحالة الثانية) لعمل الروح القدس الخلاصي.
لذلك يكتب الرسول بولس: "إن كنّا نحيا بالروح، فلنسكن أيضا بحسب الروح" (غل5/25). (الرب المحيّي 55/8/5/1986).
1-الجسد الخاطىء وروح القداسة: هذا الصراع وهذا الانتصار قد وضّحهما بولس الرسول بالمقابلة الثابتة عنده بين الجسد والروح. نتيجة اختبار مزدوج: اختبار الروح القدس الذي يقبله المسيحيون واختبار الخطيئة التي يجرفنا الجسد نحوها. ويتم اكتشاف هذا التعارض بين الروح والجسد على مرحلتين تشير إليهما الرسالتان إلى أهل غلاطية (4 و5) وإلى أهل رومة (7و8). هذا الصراع بل هاتان السلطتان تسكنان بالتتابع في قلب الإنسان وتحددان نمطين من الحياة عند المؤمن (حسب الروح وحسب الجسد ): "وأقول لكم:اسلكوا في الروح ولا تُشبِعوا شهوة الجسد […] أما أعمال الجسد فهي ظاهرة: لزنى والدعارة والفجور […] أمّا ثمر الروح فهو المحبة والفرح والسلام […]" (غل5/16-26).
2- انتصار المسيح: ولكن المسيح قد هزم الخطيئة، وهو الذي اتخذ الجسد البشري (كولُسي1/22) فصار خطتئة (2كور5/20) وإذ حلّ في جسد في حالة خاطئة، قد حكم على الخطيئة في الجسد نفسه، ومن ثم فقد صلب المسيحي الجسد في المسيح (غل5/24) والحرب الذي يجريها ليس لها نهاية مشئومة، بل انتصار مضمون، بقدر ما يستعيد المؤمن حالته الأصلية كخليقة، فلا يعود يعتمد على الجسد في ضعفه ولكن على القوة التي يجدها في موت وقيامة المخلص، ينبوع روح الحياة0
سادسا: الحب الزوجي والجنس والجسد البشري
1- الحب الزوجي: "الحب الزوجي كل متكامل يتألف من كل مقوِّمات الشخص: نداء الجسد والغريزة، قوة الإحساس والمودّة، توق الروح والإرادة، وهو يهدف إلى وحدة شخصيّة عميقة تتخطىّ الإتحاد في جسد واحد، وتُمكِّن الإثنين من أن يكونا قلباً واحداً ونفساً واحدة" (ج ع 13)، والحب الزوجي يقتضي، من ذات طبيعته، الوحدة والديمومة في شركة شخصية تشمل الحياة كلها: "هكذا ليسا هما اثنين، بل جسد واحد" (متى 19/6)؛ ويقول القديس بولس: "كذلك يجب على الرجال أن يحبوا نساءهم مثلما يحبون أجسادهم: فما من أحد يبغض جسده، بل يغذيه ويعتني به اعتناء المسيح بالكنيسة. ونحن أعضاء جسد المسيح" (أفسس 5/28-29)
2- الجنس والجسد البشري: يؤثر الجنس في جميع وجوه الشخص البشري، ضمن وحدة جسده ونفسه، وهو يتعلق خصوصا بالانفعالات العاطفية، وبإمكانية الحب والإنجاب، وبوجه أعم بإمكانية عقد روابط اتحاد بالآخرين. ويعود على كل واحد، رجلا كان أو امرأة، أن يعترف بهويّته الجنسية ويتقبّلها: "إن الله، بخلقه الكائن البشري ذكراً وأنثى، منح الكرامة الشخصية على حد سواء للرجل وللمرأة" (ش ع 22). كلٌّ من الجنسين هو صورة لقدرة الله وحنانه، بكرامة متساوية، وإن كان ذلك بطريقة مختلفة. واتحاد الرجل والمرأة في الزواج هو طريقة للإقتداء في الجسد بسخاء الخالق وخصبه.
الجنس موجّه إلى الحب الزوجي بين الرجل و المرأة، وفي الزواج تصير العلاقة الجسدية الحميمة بين الزوجين دلالة على الاتحاد الروحي وعربونا له "والأعمال التي يتّحد بها الأزواج اتحادا حميما وعفيفا هي أعمال نزيهة ولا شائبة فيها. وهي إذا مُورست ممارسة إنسانية حقيقية تدل على العطاء الذاتي المتبادل و تعمل على ترسيخه (ك ع 49) فالجنس هو ينبوع فرح و لذة. يقول قداسة البابا بيوس 12: "لقد أراد الخالق نفسه ( … ) أن يجد الرجل والمرأة في هذه الوظيفة (الإنجاب) لذة ومتعة للجسد والروح. فالزوجان إذن لا يصنعان شراً عندما يسعيان إلى هذه اللذة" (خطاب 29 / 10/ 1951).
سابعاً : موت و قيامة الجسد
"أؤمن بقيامة الجسد"، يصل اعترافنا بالله الآب والابن والروح القدس إلى قمته في إعلان قيامة الأموات في نهاية الأزمنة، وفي الحياة الأبدية: "فالذي أقام المسيح يسوع من بين الأموات يحيي أيضاً أجسادكم المائتة، بروحه الساكن فيكم" (رو 8 / 11). ما معنى القيامة؟ في الموت الذي هو انفصال النفس والجسد، يسقط جسد الإنسان في الفساد فيما تذهب نفسه لملاقاة الله، على أنها تبقى في انتظار اتحادها من جديد بجسدها الممجد. فالله في قدرته الكلية، سوف يعيد الحياة غير الفاسدة لأجسادنا موّحداً إياها بنفوسنا بفضل قيامة يسوع. "سيقوم الجميع، كل بجسده الخاص الذي له الآن" (مجمع لاتران الرابع فصل 1، في الإيمان الكاثوليكي: د 801)، غير أن هذا الجسد سيتحوّل إلى جسد على صورة جسد مجد المسيح، إلى "جسد روحاني" (1 كور 15 / 35 – 53). هذه "الكيفية التي بها تتم القيامة" تتخطى تصوّرنا وتفكيرنا. ولا يمكن الوصول إليها إلاّ بالإيمان. وقيامة الأموات هذه مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالمجيء الثاني للمسيح (1 تس 4 / 16).
خاتمة :المسيح رأس الجسد
"فكونوا على فكر المسيح يسوع: هو في صورة الله ( … ) صار شبيهاً بالبشر وظهر في صورة الإنسان، تواضع، أطاع حتى الموت ( … ) فرفعه الله" (في 2 / 5 – 9). إن المسيح بطاعته حتى الموت، آتى تلاميذه موهبة الحرية الكاملة، "لكي ينتزعوا بكفرهم بأنفسهم و قداسة حياتهم، سلطان الخطيئة فيهم" (ك 36)، والقدرة على ممارسة أعمال الرحمة الجسدية التي هي أعمال المحبة التي نساعد بها القريب في ضرورته الجسدية والروحية، وهذا ممارسة لعدالة ترضي الله. يقول القديس امبروسيوس: "إن الذي يُخضع جسده ويحكم نفسه، بدون أن يغرق في الأهواء، هو سلطان نفسه؛ يمكن أن يُدعى ملكاً لأنه قادر أن يضبط ذاته، انه حُرٌّ ومستغل ولا تقيده عبودية أثيمة" (في مز 118، 14 ،30).
كل من يستجيب لكلمة الله يصبح عضواً في جسد المسيح، متحداً به اتحاداً وثيقاً، وفي هذا الجسد تنتشر حياة المسيح فيه. ويبقى الرب يسوع المسيح "رأس الجسد الذي هو الكنيسة" (كو 1 / 18) مبدأ الخليقة و الفداء؛ وعلينا جميعاً أن نتشبه به إلى أن يتصور المسيح فينا، و هو يتدبّر نمونا، ولكي يُنمينا رأسنا المسيح إليه، يُعدُّ في جسده الكنيسة المواهب و الخدَم التي يساعد بها بعضنا بعضاً في طريق الخلاص.
"وهكذا فبما أنه الرأس و نحن الأعضاء، فالإنسان الكامل هو و نحن ( … ). ملءُ المسيح هو الرأس والأعضاء؛ وما معنى: الرأس و الأعضاء؟ المسيح والكنيسة" (القديس اوغسطينوس، في إنجيل يوحنا 21 ، 8) ويصيران كلاهما جسداً واحداً. إن هذا لسرٌ عظيم". ( أف5 / 31 – 32 )
مراجع البحث
* الكتاب المقدس.
* التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية.
* معجم اللاهوت الكاثوليكي.
* معجم اللاهوت الكتابي.
* الوثائق المجمعية (المجمع الفاتيكاني الثاني).
* المحيط الجامع في الكتاب المقدس و الشرق القديم.
عن موقع جمعية التعليم المسيحي بحلب