كلمة البطريرك برتلماوس الأول في السينودس

الفاتيكان،  الجمعة 24 أكتوبر 2008 (Zenit.org).

ننشر في ما يلي الكلمة التي ألقاها البطريرك المسكوني برتلماوس الأول بعد ظهر يوم السبت خلال الاحتفال بصلاة الغروب المبكرة في الكابيلا سيستينا الذي ترأسه بندكتس السادس عشر. وقد أُقيم الحدث ضمن إطار سينودس الأساقفة المنعقد في الفاتيكان لغاية 26 أكتوبر. ويتناول المجمع موضوع "كلمة الله في حياة الكنيسة ورسالتها".

***

قداسة البابا،

حضرة الآباء السينودسيين

إنه لمن المتواضع والملهم في الوقت عينه أن يدعونا قداستكم بكل لطف إلى إلقاء كلمة إلى الجمعية العامة العادية الثانية عشرة لسينودس الأساقفة الميمون، اللقاء التاريخي لأساقفة الكنيسة الكاثوليكية الرومانية الذين جاؤوا من كل صوب واجتمعوا في مكان واحد للتأمل في "كلمة الله"، والتفكير حول تجربة هذه الكلمة والتعبير عنها في "حياة الكنيسة ورسالتها".

إن هذه الدعوة التي توجهت بها قداستكم إلينا نحن المتواضعين هي بادرة تزخر بالمعاني والأهمية، ونجرؤ على القول بأنها حدث تاريخي بحد ذاته، لأنها المرة الأولى في التاريخ التي تقدم فيها الفرصة لبطريرك مسكوني للتوجه بكلمة إلى سينودس أساقفة الكنيسة الكاثوليكية الرومانية، وبالتالي ليكون جزءاً من حياة هذه الكنيسة الشقيقة على هذا المستوى العالي. ونحن نعتبر هذا الأمر كتجلي عمل الروح القدس الذي يرشد كنائسنا إلى علاقة أقرب وأعمق مع بعضها البعض، وكخطوة مهمة نحو تجديد الاتحاد الكامل.

من المعروف جيداً بأن الكنيسة الأرثوذكسية تعلق على النظام السينودسي أهمية كنسية أساسية. وإلى جانب الأولية تشكل السينودسية أساس سلطة الكنيسة ونظامها. وكما عبرت لجنتنا العالمية المشتركة حول الحوار اللاهوتي بين كنائسنا عن ذلك في وثيقة رافينا، فإن الترابط بين السينودسية والأولية موجود على جميع مستويات حياة الكنيسة: المحلي، والإقليمي، والعالمي منها. لذلك، وبحصولنا اليوم على امتياز التوجه بكلمة إلى سينودسكم، نرجو أن يأتي يوم تلتقي فيه كنيستانا بالكامل حول دور الأولية والسينودسية في حياة الكنيسة، الذي تخصص لجنتنا اللاهوتية المشتركة دراستها عنه في الوقت الحالي.

إن الموضوع الذي يخصص سينودس الأساقفة هذا عمله من أجله هو ذات أهمية كبيرة ليس فقط للكنيسة الكاثوليكية الرومانية لا بل أيضاً للمدعويين إلى الشهادة للمسيح في أيامنا هذه. فالرسالة والتبشير بالإنجيل يبقيان دائماً واجب الكنيسة في كل زمان ومكان، إذ أنهما يشكلان جزءاً من طبيعة الكنيسة التي تدعى "بالرسولية" بمعنى أمانتها لتعاليم الرسل الأصلية، وبمعنى إعلان كلمة الله في كل إطار ثقافي وفي كل زمان. لذلك، تحتاج الكنيسة إلى إعادة اكتشاف كلمة الله في كل جيل، وجعلها في المقام الأول بقوة واقتناع متجددين أيضاً في عالمنا المعاصر، مما يعمق في القلوب التعطش إلى رسالة الله الداعية إلى السلام، والرجاء، والمحبة. ولكان واجب التبشير بالإنجيل بالتأكيد معززاً ومقوىً بشكل كبير لو كان المسيحيون في وضع القيام بذلك بصوت واحد وككنيسة موحدة بالكامل. وفي صلاته إلى الآب قبل آلامه، أوضح ربنا بأن وحدة الكنيسة متعلقة بشكل تام برسالتها "لكي يؤمن العالم" (يو 17، 21). لذلك، من المناسب جداً أن هذا السينودس قد فتح أبوابه لممثلين أخويين مسكونيين لكي ندرك جميعاً واجبنا المشترك الذي يقتضي التبشير بالإنجيل، وندرك المصاعب والمشاكل التي تواجهنا خلال القيام بذلك في عالم اليوم. إن هذا السينودس يتعمق من دون أي شك في موضوع كلمة الله ويتناوله من كل الجوانب، أكانت لاهوتية، تطبيقية، أو رعوية. في كلمتنا المتواضعة إليكم، نكتفي بمشاركتكم بعض الأفكار حول موضوع لقائكم، نقلاً عن المقاربة التي استخدمها التقليد الأرثوذكسي على مر القرون، وبخاصة من خلال التعليم الآبائي اليوناني. وبالتحديد، نود التركيز على ثلاثة مظاهر لهذا الموضوع أي على الإصغاء إلى كلمة الله والتحدث عنها من خلال الكتاب المقدس، على رؤية كلمة الله في الطبيعة وفوق كل شيء في جمال الأيقونات، وأخيراً على لمس كلمة الله ومشاركتها في شركة القديسين وفي حياة الكنيسة المقدسة، لأنني أعتقد أن هذه النقاط أساسية في حياة الكنيسة ورسالتها.

من خلال القيام بذلك، نسعى وراء الاقتراب من تقليد آبائي غني، يعود إلى القرن الثالث ويشرح عقيدة من خمس حواس روحية، إذ أن الإصغاء إلى كلمة الله، والنظر إلى كلمة الله، ولمس كلمة الله تشكل جميعها طرقاً روحية لإدراك السر الإلهي الأوحد. وعلى قاعدة المثلين 2، 5 حول "قدرة الإدراك الحسي الإلهية"، يقول أوريجانس الإسكندري:

تتجلى هذه الحاسة كالنظر لتأمل الأشكال غير المادية، والسماع لتمييز الأصوات، والذوق لتذوق الخبز الحي، والشم لشم الأريج الروحي العذب، واللمس للمس كلمة الله، التي تفهمها جميع قدرات الروح.

ويتم وصف الحواس الروحية بشكل مختلف، إذ توصف "بحواس الروح الخمس"، "بالإلهية"، أو "الملكات الداخلية"، وحتى "بحواس القلب" أو "العقل". وقد ألهمت هذه العقيدة لاهوت الكبادوكيين (بخاصة باسيليوس الكبير وغريغوريوس النزينزي)، كما صنعت لاهوت آباء الصحراء (وبخاصة إيفاغريوس البنطي ومكاريوس الكبير).

1- الإصغاء إلى كلمة الله والتحدث عنها من خلال الكتاب المقدس

في كل احتفال بالليتورجية الإلهية للقديس يوحنا فم الذهب، يتضرع المحتفل في سر الافخارستيا "لكي نستحق الإصغاء للإنجيل المقدس"، لأن "سماع كلمة الحياة، ورؤيتها، ولمسها" (1 يو 1،1) ليس أولاً استحقاقاً أو حقاً نكتسبه عند الولادة كبشر، لا بل أنه امتياز وموهبة ننالهما كأبناء الله الحي. إن الكنيسة المسيحية هي أولاً كنيسة كتابية. على الرغم من أن طرق التفسير قد اختلفت من كنيسة إلى أخرى، من "مدرسة" إلى "مدرسة"، ومن الشرق إلى الغرب، إلا أن الكتاب المقدس كان دوماً يُرحب به كواقع حي وليس ككتاب ميت. وفي إطار الإيمان الحي، الكتاب المقدس هو إذاً الشهادة الحية لتاريخ حي عن العلاقة بين الله الحي والشعب الحي. إن كلمة "الناطق بالأنبياء" (قانون الإيمان النيقاوي القسطنطيني)  تم الكلام بها للإصغاء إليها والعمل بها. فهي أولاً طريقة تواصل شفهية ومباشرة موجهة إلى المستفيدين البشر. لذلك، فإن النص الكتابي مشتق وثانوي، وهو يخدم دوماً الكلمة المعلنة. وهو لا يُمنح بطريقة آلية، بل يُنقل من جيل إلى جيل ككلمة حية. وقد أعلن الرب من خلال النبي أشعيا: "لأنه كما ينزل المطر والثلج من السماء ولا يرجع إلى هناك بل يروي الأرض… كذلك تكون كلمتي التي تخرج من فمي لا ترجع إلي فارغة بل تُتم ما شئت" (55، 10 – 11).

إضافة إلى ذلك، وكما يوضح القديس يوحنا فم الذهب، فإن الكلمة الإلهية تظهر مراعاة عميقة لتنوع المصغين وإطاراتهم الثقافية الخاصة. إن تكييف الكلمة الإلهية مع الاستعداد الشخصي والإطار الثقافي الخاص يحدد البعد التبشيري للكنيسة المدعوة إلى تحويل العالم من خلال الكلمة. في الصمت كما في التبشير، في الصلاة كما في العمل، تخاطب الكلمة الإلهية العالم بأسره "متلمذة جميع الأمم" (مت 28، 19) من دون أي امتياز أو تحيز لعرق، وثقافة، وجنس، وطبقة. عندما نقوم بهذه المهمة، نقتنع بهذا الأمر: "ها أنا معكم كل الأيام". (مت 28، 20). نحن مدعوون إلى إعلان الكلمة الإلهية في جميع اللغات "لكي نصير للجميع كل شيء، لننقذ بعضاً منهم مهما كلف الأمر" (1 كور 9، 22).

اليوم وأكثر من أي وقت مضى، أصبح من الضروري أن نقدم، نحن تلامذة كلمة الله، نظرة فريدة – غير اجتماعية، سياسية، أو اقتصادية – حول الحاجة إلى استئصال الفقر، وإحلال التوازن في العالم، ومكافحة الأصولية والتمييز العنصري، وإلى تنمية تسامح ديني في عالم من الصراعات. ومن خلال تلبية حاجات فقراء العالم المهمشين، تتمكن الكنيسة من إثبات علامة زمنية محددة وطابع الأسرة الدولية. وفي حين أن اللغة اللاهوتية للدين والروحانية تختلف عن المعجم التقني للاقتصاد والسياسة، فإن الحواجز التي تبدو للوهلة الأولى وكأنها تفصل الشؤون الدينية (كالخطيئة، والخلاص، والروحانية) عن الاهتمامات العملية (كالتجارة، والصناعة، والسياسة) يمكن اختراقها بمواجهة مختلف تحديات العدالة الاجتماعية والعولمة.

في معالجة مسائل البيئة أو السلام، الفقر أو الجوع، التربية أو الصحة، هناك اليوم حساً أكبر من الاهتمام المشترك، والمسؤولية المشتركة يشعر به بشكل خاص المؤمنون وأصحاب وجهة النظر العلمانية الواضحة. بالطبع، إن التزامنا بمسائل كهذه لا يقوض أو يلغي بأي طريقة الاختلافات بين شتى الأنظمة والتعارضات مع هؤلاء الذين ينظرون إلى العالم بطرق مختلفة. مع ذلك فإن علامات الالتزام المشترك المتزايدة من أجل خير البشرية وحياة العالم هي مشجعة، إذ أن هناك لقاء بين الأشخاص والمؤسسات يبشر بالخير لعالمنا، ومشاركة تسلط الضوء على الدعوة والرسالة الساميتين لتلامذة كلمة الله ومحبيها اللتين تحثان على تجاوز الاختلافات السياسية أو الدينية من أجل تحويل العالم المرئي بأسره لمجد الله غير المرئي.

2- رؤية كلمة الله – جمال الأيقونات والطبيعة

لا يصبح غير المرئي مرئياً سوى في جمال الأيقونة وروعة الخلق. وبحسب أقوال نصير الصور المقدسة، القديس يوحنا الدمشقي: "إن الله الكلمة، صانع السماوات والأرض، كان أول من رسم الأيقونات وصورها". إن كل حركة في رسم أيقونة – ككل كلمة ذات تحديد لاهوتي، وكل نوتة موسيقية مرنمة في مجموعة المزامير، وكل حجر منقوش في كنيسة صغيرة أو كاتدرائية كبيرة – توضح الكلمة الإلهية في الخلق الذي يسبح الله في كل كائن حي وفي كل شيء حي (مز 150، 6).

إن المجمع المسكوني السابع في نيقية بإثباته الصور المقدسة لم يكن مهتماً بالفن الديني، لا بل شكل تتمة وتأكيداً على التعريفات السابقة لكمال بشرية كلمة الله".

إن الأيقونات هي تذكير مرئي لدعوتنا السماوية، وهي دعوة إلى تخطي اهتماماتنا المبتذلة والأمور الباطلة في هذا العالم. إنها تشجعنا على البحث عن الروعة في كل ما هو عادي، لنمتلئ من التعجب عينه الذي ميز الأعجوبة الإلهية في التكوين: "ورأى الله جميع ما صنعه، فإذا هو حسن جداً" (تك 1: 30 – 31). إن الكلمة اليونانية للحسن تتضمن – ضمن للاشتقاق والرموز – معنى "الدعوة". كما أن الأيقونات تشدد على رسالة الكنيسة الأساسية في إدراك أن جميع الشعوب والأشياء مخلوقة ومدعوة لأن تكون "حسنة" و"رائعة".

تذكرنا الأيقونات فعلاً بطريقة أخرى لرؤية الأمور، وطريقة أخرى لاختبار الوقائع، وطريقة أخرى لحل الصراعات. نحن مدعوون إلى القيام بما تدعوه ترتيلة أحد الفصح "بطريقة عيش أخرى"، لأننا تصرفنا بغرور ورفض نحو الخلق الطبيعي. لقد رفضنا لمس كلمة الله في محيطات كوكبنا، في أشجار قاراتنا، وفي حيوانات أرضنا. لقد أنكرنا طبيعتنا الخاصة التي تدعونا إلى الانحناء بما يكفي لسماع كلمة الله في الخلق إن كنا نريد أن "نشترك في الطبيعة الإلهية" (2 بط 1، 4). كيف لنا أن نتجاهل التضمينات الواسعة للكلمة الإلهية التي صارت جسداً؟ لمَ نفشل في إدراك الطبيعة المخلوقة كجسد المسيح الممتد؟ لطالما شدد اللاهوتيون المسيحيون الشرقيون على الحجم الكوني للتجسد الإلهي. والكلمة المتجسدة أساسية في الخلق الذي وُجد من خلال الكلمة الإلهية. ويشدد القديس مكسيموس المعترف على وجود كلمة الله في الكل (كول 3، 11)؛ وعلى أن العقل الإلهي يحتل نقطة مركزية في العالم، معلناً بشكل خفي عن مبدأه الأساسي وغايته السامية (ا بط 1، 20). ويصف هذا السر القديس أثناسيوس الإسكندري، كاتباً: وكما أن العقل لا يحتويه شيء ولكنه يحتوي على كل شيء، فهو في كل شيء ولكن خارج كل شيء… وهو باكورة العالم كله في كل جانب من جوانبه.

إن العالم أجمع هو مقدمة لإنجيل يوحنا. وعندما تفشل الكنيسة في إدراك الأبعاد الكونية الأوسع لكلمة الله، بحد اهتماماتها بمسائل روحية بحتة، تهمل بذلك رسالتها في التوسل إلى الله من أجل تغيير الكون الملوث – دائماً وفي كل مكان، "في كل مناطق سلطانه". وعندما يصل الاحتفال الفصحي إلى ذروته يوم أحد الفصح، لا عجب في أن يرنم المسيحيون الأرثوذكس: لقد امتلأ كل شيء من النور الإلهي: السماوات والأرض، وكل ما هو تحت الأرض. لذا فلتبتهج الخليقة كلها. لذا فإن كل "علم البيئة العميق" والحقيقي متصل من غير انفصام باللاهوت العميق:

وقد كتب باسيليوس الكبير: "حتى الحجر يحمل علامة كلمة الله. وهذا ينطبق على نملة، نحلة، وبعوضة، التي هي أصغر المخلوقات، لأنه بسط السماوات الفسيحة والبحار الضخمة، وخلق إبرة النحلة الصغيرة لتلسع بها".

إن التذكير بصغرنا بين خليقة الله الكبيرة والرائعة يؤكد فقط على دورنا الأساسي في مخطط الله لخلاص العالم بأسره.

3- لمس كلمة الله ومشاركتها – شركة القديسين وأسرار الحياة

إن كلمة الله "تخرج منه باستمرار في النشوة" (ديونيسيوس الأريوباغي)، "لتخيم بيننا" (يو 1، 14) سريعاً، فيكون للعالم ملء الحياة (يو 10، 10). إن نعمة الله الرحومة يتم إغداقها ومشاركتها "من أجل مضاعفة أهداف إحسانه" (غريغوريوس اللاهوتي). ويفترض الله أن كل هذا لنا "في التجارب التي نتعرض لها نحن، إلا أنه بلا خطيئة" (عب 4، 15)، من أجل أن يقدم لنا كل ما هو لله ويجعلنا قديسين بنعمته. ويكتب الرسول الكبير بولس الذي تخصص له هذه السنة بجدارة: "فمن أجلكم افتقر، وهو الغني لكي تغتنوا أنتم بفقره" (2 كور 8، 9). هذه هي كلمة الله، له المجد والشكر. إن كلمة الله تتجسد بالكامل في الخليقة، في سر الافخارستيا المقدس أولاً حيث تتحول الكلمة إلى جسد وتسمح لنا ليس فقط بالإصغاء إليه ورؤيته، لا بل للمسه بأيدينا، كما يقول القديس يوحنا (1 يو 1، 1)، وجعله جزءاً من جسدنا ودمنا، بحسب تعبير القديس يوحنا فم الذهب.

في سر الافخارستيا المقدس، لا نسمع فقط الكلمة لا بل نراها ونتشارك بها. ليس أمراً عرضياً أن سر الافخارستيا، في الوثائق الافخارستية الأولية، ككتاب الوحي والديداسكاليا، كان مرتبطاً بالنبوءة، وأن الأساقفة كانوا يُعتبرون كخلفاء الأنبياء. لقد وصف لنا القديس بولس (1 كور 11) سر الافخارستيا "كإعلان" موت المسيح ومجيئه الثاني. وكما أن هدف الكتاب المقدس هو أساساً إعلان الملكوت والحقائق الأُخروية، فإن الافخارستيا هي الدلالة على الملكوت، وهي بهذا المعنى إعلان الكلمة بامتياز. في الافخارستيا، تصبح الكلمة والسر حقيقة واحدة. وتتوقف الكلمة عن كونها "كلمات" فتصبح إنساناً يشمل في ذاته جميع الناس وكل الخليقة. وضمن حياة الكنيسة، ينعكس إخلاء الذات الذي لا يسبر غوره والمشاركة السخية للعقل الإلهي في حياة القديسين كالتجربة الملموسة والتعبير البشري لكلمة الله في جماعتنا. بذلك، تصبح كلمة الله جسد المسيح المصلوب والممجد في الوقت عينه. نتيجة لهذا، للقديس علاقة أساسية مع السماوات والأرض، مع الله وجميع المخلوقات. وفي الصراع الزاهد، يوفق القديس بين الكلمة والعالم. ومن خلال التوبة والتطهير، يمتلئ القديس بالحنو على كل الخليقة، الأمر الذي يعتبر ذروة الاتضاع والكمال، كما يشدد القديس إسحق السوري.

وهذا ما يجعل القديس يحب بحرارة وبرحابة من غير قيد أو مقاومة. وفي القديسين، نعرف كلمة الله، لأن الله وقديسيه يتشاركون المجد والأبهة عينهما، كما يقول القديس غريغوريوس بالاماس. وفي الحضور اللطيف لقديس، نتعلم كيف يتوافق اللاهوت مع العمل. وفي المحبة الرؤوفة للقديس، نختبر الله "كأبينا" ورحمة الله "كأمر ثابت". ويُستخدم القديس بنار محبة الله. لذلك يمنح نعمته ولا يقبل بأي استغلال في المجتمع أو في الطبيعة. إن القديس يقوم بكل بساطة بما هو "مناسب وصحيح" (اللاهوت الإلهي ليوحنا فم الذهب)، مبجلاً دوماً البشرية ومكرماً الخليقة. "تملك كلماته القدرة على العمل، ويملك صمته القدرة على الكلام" (القديس اغناطيوس الأنطاكي).

ضمن شركة القديسين، يُدعى كل منا لأن "يصبح كالنار" (وفق أقوال آباء الصحراء) للمس العالم بالقوة الخفية التي تملكها كلمة الله لكيما يتمكن العالم، وهو جسد المسيح، من القول أيضاً: "لقد لمسني أحد" (مت 9، 20). إن الشر لا يُمحى إلا بالقداسة، وليس بالقساوة. والقداسة تُدخل في المجتمع بذرة شافية ومغيرة. بامتلائنا من حياة الأسرار ونقاوة الصلاة، نتمكن من الدخول إلى السر الأعمق لكلمة الله. والأمر شبيه بالصفائح التكتونية في القشرة الأرضية، إذ أن الطبقات الأعمق تحتاج فقط إلى التحرك بضع ميلليمترات لتحطيم وجه الأرض. وبغية حدوث هذه الثورة الروحية، لا بد لنا أن نختبر التوبة الجذرية – تبديل المواقف، والعادات، والممارسات – لأننا أسأنا استعمال كلمة الله، ومواهب الله، وخليقة الله أو أفسدناها. إن هذا التحول مستحيل طبعاً من غير النعمة الإلهية، كما أنه لا يتحقق فقط من خلال الجهد الكبير أو قوة الإرادة لدى الإنسان. "هذا مستحيل عند الناس. أما عند الله، فكل شيء مستطاع" (مت 19، 26). ويحصل التحول الروحي عندما تتوحد أجسادنا وأرواحنا حول كلمة الله الحي، وعندما تنطوي خلايانا على دم الأسرار الواهب الحياة، وعندما ننفتح على مشاركة كل الأمور مع الجميع. وكما يذكرنا القديس يوحنا فم الذهب، فإن سر "جارنا" لا يمكن عزله عن سر "المذبح". ونحن للأسف أهملنا واجب المشاركة نحن المدعويين إليها. إن الظلم والتفاوت الاجتماعيين، والفقر والحرب العالميين، والتلوث والتدهور البيئيين، هم نتيجة عدم قدرتنا أو عدم رغبتنا في المشاركة. إن كنا نطالب بالحتفاظ بسر المذبح، يجب ألا نمتنع عن سر الجار أو ننساه لأنه الشرط الأساسي لتحقيق كلمة الله في العالم ضمن حياة الكنيسة ورسالتها.

إخوتي الأحباء في المسيح

لقد اكتشفنا تعليم الحواس الروحية الآبائي، مميزين قدرة الإصغاء إلى كلمة الله في الكتاب المقدس، والتكلم بها، ورؤية كلمة الله في الأيقونات والطبيعة، وقدرة لمس كلمة الله ومشاركتها في القديسين والأسرار. ولكن من أجل الحفاظ على إخلاصنا لحياة الكنيسة ورسالتها، يجب أن نتغير شخصياً من خلال هذه الكلمة. يجب على الكنيسة أن تكون شبيهة الأم التي تتغذى وتُغذي من الأكل الذي تأكله. وأي شيء لا يطعم أحداً ويغذيه لا يستطيع أن يغذينا نحن أيضاً. عندما لا يتشارك العالم فرح قيامة المسيح، فهذا يعتبر اتهاماً لأمانتنا والتزامنا بكلمة الله الحية. قبل الاحتفال بكل ليتورجية إلهية، يصلي المسيحيون الأرثوذكس من أجل أن "تُكسر هذه الكلمة وتُبذل، وتُوزع" في المناولة. و"نحن نعلم أننا انتقلنا من الموت إلى الحياة لأننا نحب إخوتنا" وأخواتنا (1 يو 3، 14).

إن التحدي الذي يواجهنا هو إدراك كلمة الله بوجه الشر، وتغيير أصغر تفصيل وذرة من هذا العالم على ضوء القيامة. إن الانتصار موجود فعلاً في قلب الكنيسة، كلما اختبرنا نعمة المصالحة والمناولة. وفيما نكافح – في نفوسنا وفي العالم – من أجل معرفة قدرة الصليب، نبدأ بتقدير كيف أن كل فعل عدالة، وكل ومضة جمال، وكل كلمة حق، بإمكانها أن تقضي تدريجياً على غلاف الشر. ولكن وراء جهودنا القصمة، نملك ضمانة الروح الذي "يساعدنا في ضعفنا" (رو 8، 26)، ويقف إلى جانبنا، ليساندنا ويعزينا (يو 14، 6)، خارقاً كل شيء ومحولاً إيانا، على حد قول القديس سمعان، اللاهوتي الجديد، إلى كل شيء تقوله كلمة الله عن الملكوت السماوي: لؤلؤة، حبة خردل، خميرة، ماء، نار، خبز، حياة، وقاعة العرس الصوفية". هذه هي قدرة ونعمة الروح القدس، الذي نتضرع إليه في ختام كلمتنا، معبرين عن امتناننا لقداستكم، ومانحين بركاتنا لكل واحد منكم:

أيها الملك السماوي المعزي الروح الحق، الحاضر في كل مكان، والمالئ الكل، كنز الصالحات وواهب الحياة، هلمّ واسكن فينا، طهرنا من كل دنس، وخلّص أيها الصالح نفوسنا. لأنك صالح ومحب للبشر. آمين!

           

نقلته من الإنكليزية إلى العربية غرة معيط – وكالة زينيت العالمية (Zenit.org)