البطريرك صفير يثني على عمل الرهبانيات في لبنان

خلال مأدبة غذاء في دير مار اشعيا للرهبنة الأنطونية في روما

روما، الاثنين 27 أكتوبر 2008 (zenit.org).

 قام البطريرك الماروني، الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير بزيارة اليوم الى دبر القديس اشعيا للرهبنة الأانطونية المارونية في روما. كان في استقبال البطريرك، رئيس الدير الأاب داود رعيدي وجمهور الآباء والإخوة الدارسين في روما.

وألقى الأب رعيدي كلمة رحّب فيها بالكاردينال صفير، وجاء فيها:

"إن الفرحة تغمرنا في كل مرَّة نلتقي بكم، فكم بالحري عندما تطأون عتبة ديرنا! فحضوركم يباركنا! يفتح آفاقنا على ٱتساع ٱنتشار الكنيسة المارونية وحاجاتها، ويدعونا لأن ندخل معكم في مغامرة الثبات على الطريقة المارونية في ٱتباع المسيح. ولكن ٱتباع المسيح يأخذنا إلى حيث يريد هو، لا إلى حيث نريد نحن، لأنَّ ما نريده، غالباً ما يرتبط برؤيتنا البشرية المصلحية أو قل المنطقية، في حين يحملنا الرب إلى ما يتجاوز المنطق، للدخول في سرِّ الحضور الإلهي. وهو ما يشرحه لنا حدث تقديم إبراهيم إبنَه إسحق ذبيحة على الجبل. فلقد بادر إسحق إباه قائلاً: "هذه النار والحطب، فأين الحمل للمحرقة" فأجابه إبراهيم: الله يرى لنفسه الحمل للمحرقة، يا بُنَيَّ!" ومضيا كلاهما في الطريق.(تك21/7).

إن النظر لواقع الكنيسة المارونية في العالم يشدنا وبإغراء لأن ننظر إليه بأعين إسحق فنحلل وندرس المعطياتِ المنظورة، فنخاف أو نتشجع بحسب خبرة كل واحد منا ونظرته، ولكن قراءةً معمقة لتاريخ كنيستنا المارونية، تشدنا أكثر إلى رؤية إبراهيم النبوية، أو بالحري إلى حضور الله حيث نعتقد غالباً بأن حضورَنا هو الأساس.

منذ أربعمائة سنة أي 1609 نقل البطريرك يوحنا مخلوف (1608-1633) قسماً من الموارنة بالإتفاق مع الأمير فخر الدين (1572-1635) إلى الشوف، إلى ما يسمى اليوم "بالحرف" أي القرى المارونية السبعة الصرف: "مجدل المعوش، البيرة، كفرنيس، المريجات، وادي الست، شوريت، الجعايل، والتي درج البعض على تسميتها ب"كسروان الشوف". نتمنى أن تزورونها في الذكرى المئوية الرابعة لوجودها في الشوف للتأكيد على رسالة العيش المشترك رغم غوغائيات البعض وتوظيفهم السياسي للعيش المشترك. وأعتقد بأن هذا الوجود كان الأكثر كثافة وتركيزاً في تاريخ ٱنتشار الموارنة في لبنان. وتبعه دون شك مرحلة من التوسع والإنتشار الذي لم يكن دوماً سلمياً وإيجابياً لأنَّ أحداث 1840-1860 تبرهن عكس ذلك! ورغم ذلك فلقد رسم الله في حينها مخططاً جعل من الأوقات السوداء مرحلةً خلاصية، وبقي الموارنة صامدون حيث وجدوا، وكان ٱنتشارُهم في لبنان، بحسب ٱعتقادي، الخلفيةَ التي حرَّكت البطريرك الحويك في فهم لبنان الكبير ورسم حدوده.

ويبقى تحدّ الإنتشار جاسماً أمامنا يدعونا لأن نتأقلم معه بل بالأحرى لأن نتفاعل معه. فالخطر، يا أبانا المحب، ليس المواجهةَ المباشرة، لأن المواجهةَ تخلق أبطالاً، تخلق شهداء، وشهوداً للكنيسة! تُحفِزُّها، تقويها، تُظهر فيها نفحَ الروح وحبَّ إعلان البشارة. إن خطر الإنتشار الحقيقي هو السلام الذي يُغري والذي يذيب خاصة الموارنة في المجتمعات التي ٱنتموا إليها، وهو حال وجودهم خارج الشرق، فيتناسون بكل سهولة وضعَهم وٱنتماءَهم إلى لبنان أو إلى اللغة، وإن لم يكن الجيل الأول فالأجيال الثانيةُ والثالثة، لذا يجب أن يحفظوا دوماً حياً في أذهانهم إنتماءَهم الكنسي.

فإذا ما تبنينا نظرة إبراهيم الراجي وليس نظرة إسحق الديكارتي العقلاني، نعرف بأننا لم نسكن مرة في أنطاكية، وبأننا تركنا اللغة السريانية، وتركنا العيش في سهول سوريا الخصبة، وبقينا مورانة! وبقي ٱنتماؤنا واضحاً وشاهداً! لا بل يشكل اليوم أكبر تحدٍ لمن يحبون تطهير الشرق من التنوع والإختلاف، لمن يرون في الدين حزباً واحداً توتاليتارياً وليس رسالة سماوية تدعو إلى العيش المشترك.

ومن أجل أن يبقى الموارنة كنيسة مميزة أينما حلّوا، لا بدّ من نشر "الهوية المارونية" في كل بقاع الأرض ليبقى الموارنة علامة فارقة في المطالبة: بالتنوع، والقيم، والانفتاح، والأمانة للرب يسوع، والمسكونية.

أعرف، سيدي البطريرك، بأن المجمع الماروني لم يبخل عليكم بٱقتراحات أمانات عامة تكفي الكنيسةَ لأجيال، أما أنا، إبن هذه الكنيسة، فأود أن أقترح عليكم إيجاد جماعة خلاقة مواهبية تُعزِّز كلَّ ما هو ماروني، وفي كل اللغات، ليبقى الروح الماروني هو الرابط وليس اللغة فقط أو التراب، وهو ما يقوي الوجود في الوطن ويجمع كل القدرات على تعزيز هذا الوجود، ويُخرِج الكنيسة المارونية من التعلق المادي بالأرض إلى أفق الوجود الذي يشمل كل بقاع الأرض. وأرى بأننا لسنا أول من يقوم بهذا العمل، فلقد قامت وتقوم به شعوب أخرى وتنجح، وأعتقد بأن ما عندنا من قدرات كافٍ لأن يحمل النجاح لهذا الطرح. فهذا الاقتراح ليس دعوة للتنظيم بل لتحرير المبادرات على كل الأصعدة، وتفليت أيدي الجميع في العمل، لخلقِ أوسعِ شبكةٍ للتواصل والتعاون، وذلك من أجل تعزيز الدرس عن تاريخ الكنيسة المارونية وروحانتيها (تأمين منح دراسية للموضوع) وتوضيح عناصر وجودِها وتأثيرها (الوطنية والعالمية) وربط الوطن بالمهجر (تبادل الخبرات الرعوية، تبادل العيش في العائلات، والدعم الروحي والمادي…) …المهم أن تستمر الكنيسة المارونية بعيش عنصرةٍ جديدةٍ وشكل جديد في إعلان بشارتها.

لا بد لنا في بعض الأحيان من أن نترك الروح يعمل لكي لا ندخل في الرتابة القاتلة ثم يأتي التنظيم لوضع أُطُرٍ معينة، لا بل قد تسقط بعض الأفكار والمشاريع حتَّى قبل التنظيم، كما يقول جملائيل في دفاعه عن الرسل: "إن كان هذا المقصد أو العمل ليس من عند الله سينتقض، وإن كان من عند الله، فلا تستطيعوا أن تقضوا عليهم" (أعمال 5/38). فلا يُعقل مثلاً أن نقول:"وماذا يمكن أن نزيد على الكنيسة الكاثوليكية اللاتينية"؟ أعتقد أن الأمانة للهوية المارونية تعزِّز فهم الكنيسة اللاتينية لنفسها، وتفتح آفاقها على نفحة الروح أي على رؤية إبراهيم النبوية بدل تشديدها على الملاحظات الخارجية والإحصاءات العددية، كما تفعل اليوم، بتبنيها رؤية إسحق. وبالتالي تنفتح أذهانُنا المارونية على مفهومٍ جديد لوجود كنيستنا كما فعلنا سابقاً، فنبقى هذه المرَّة علامة للشرق والغرب على السواء، وإن سمحتم لي "حصرمة" في عين من يعتقد بأنه من الممكن أن يستوعبنا. والله كفيل كما قال إبراهيم "أن يرى لنفسه حملاً" وهو كفيل أن يرى لكنيستنا المارونية دوراً ريادياً في رسالتها، وطريقةً فريدةً في وجودها، تعزز حضورَها خارج المكان الجغرافي، على مدى الزمان بٱنتظار عودة المسيح بالمجد.

في النهاية، باسم قدس الرئيس العام الأباتي بولس تنوري، بإسم الجماعة الرهبانية الأنطونية في روما، وبإسمي الشخصي، أرحب بكم دوماً، في ديرنا هنا وفي كافة أديارنا التي هي بالوقت نفسه أدياركم، وأتنمى لكم الصحة، لتتابعوا القيام بمهامكم بكل نشاط كما نعهدكم".

بعد كلمة الأب الرئيس داود رعيدي، القى البطريرك صفير كلمة شكر فيها آباء الدير على الاستقبال الحافل وأثنى على دور الرهبنات في لبنان في نشر الإنجيل. وتمنى للآباء الدارسين النجاح في دراساتهم العليا وحثهم على حمل رسالة العلم والروحانية أينما وُجدوا.

وقال نيافته: " على الكنيسة: بطريركاً، أساقفة، كهنوتاً ورهباناً وراهبات، لأن تعمل على جمع الكل في رعية واحدة لراع واحد هو يسوع المسيح"