أن نكون بولس عصرنا… هذا ليس بالأمر السهل

 عشرون قرناً مضت وما يزال فكره يعلوا شموخ القمم ليرسم حروف الأمل في قلوب المؤمنين المسيحيين. عشرون قرناً مضت وما تزال بصمة إبداعه اللاهوتي منارةً تحمل نعمة الله لتنير لجميع من آمن بدروب الرب يسوع، ولتكون زوّادةً له لنشر التعاليم المسيحية. ليست صدفة، أنّ القديس بولس الرسول، الذي اختارته العناية الإلهية مبشراً للأمم قد اهتدى على طريق دمشق، فصارت هذه البقعة من الأرض إشعاعاً ورسالةً لجميع البقاع المسكونة.

ما الذي يكمن وراء سرّه العجيب ونجاحه الأزلي؟ ما الذي دفعه ليكون أداةً للربّ في هذا العمل الذي انتدبه له مذ كان جنيناً؟ كيف يكون القديس بولس لنا اليوم، نحن الكهنة والعلمانيين، نموذجاً في رسالتنا المكرّسة فيحيا المسيح فينا ونحيا فيه كما قال في رسالته إلى أهل غلاطية "فما أنا أحيا بعد، بل المسيح يحيا فيّ" ( غلاطية 2: 20). لنرم شباكنا في بحر بولس الواسع الأطراف، فقد هممنا وهمّنا كله على الله سبحانه وتعالى…

 من حرفيّة الشريعة إلى قوّة النعمة

 لا شك في أنّ شاول كان قد أنهى دراسته العلمية والأدبية في طرسوس مسقط رأسه، حيث ولد، حتى أرسلته أسرته إلى أورشليم ليتخرج في علوم الدين ويحفظ كتب الشريعة التي وبحسب العقلية السائدة أنذاك تضمن الخلاص لكل من يغوص في بحرها ويعيش من خلال تعاليمها : " وكتب موسى كيف يتبرر الإنسان بالشريعة فقال : كل من يعمل بأحكام الشريعة يحيا بها" ( روم 10 : 5).

إنّ الله أقام علاقة عهد مع شعبه، وأمره بتنفيذ الوصايا والشرائع، ومن يقف أمام الله في الحياة الأخرى ويداه مغمورتان بالأعمال الصالحة فهو يستحق الخلاص 1 . لقد كانت الشريعة المعيار الأول لمعرفة إذا ما وقع الإنسان في الخطيئة أم لا إلى أن يجيء يسوع المسيح الكلمة الذي تجسد ليعطي مفهوماً آخراً للشريعة: " لماذا الشريعة إذاً؟ إنها أُضيفت من أجل المعاصي إلى أن يجيءَ النّسل الذي جعل الله له الوعد." ( غلاطية 3 : 19)

عندما تراءى يسوع المسيح لبولس على طريق دمشق، تكوّنت لديه رؤية واضحة بأن الذي كان يضطهده هو الخلاص بعينه، و"هو النعمة المجانية التي أرسلها الله الآب إلى الإنسان ليخلص" 2 . لقد أرسل الله ابنه الوحيد إلى العالم ، وبالأخص إلى الخطأة، حتى تفيض النعمة الإلهية، فاستطاع بولس أن يكتشف أنه وقع بين حرفيّة الشريعة وقوة النعمة المجانية ليقرّ ويعترف في رسالته إلى أهل أفسس : " الله بواسع رحمته وفائق محبته لنا أحيانا مع المسيح بعدما كنّا أمواتاً بزلاّتنا. فبنعمة الله نلتم الخلاص" ( أفسس 2 : 4 – 5).

لقد أراد بولس أن يجعل المؤمن في حالة اختيار دائم بين الشرائع والقوانين والحرفية من جهة ، والذوبان في شخص يسوع المسيح من جهةٍ أخرى. إنّ علاقة الله بالإنسان أبعد وأعمق بكثير من علاقة سيد يحاسب عبيده على قوانين فرض عليهم تنفيذها. إنها علاقة تحول كياني في ذات الإنسان واتصال حميمي مع الله: " أريد رحمة لا ذبيحة" ( هوشع 6:6). وهنا تكمن الخطيئة التي قد تتواجد مع تتميم دقيق للشرائع الإلهية، ذلك أن الانسان قد يتوهم أنه استنفد البرّ من جراء تتميمها، فيكتفي بذاته وينطوي على بره ويصبح عابداً لنفسه، مستغنياً عن الله. بينما هو يتصور أنه شديد الغيرة على الدين، بالغ الحرص على إطاعة الشرائع ( الفريسي والعشار). لقد تزوج بولس الشريعة، فكان يعيش ويأكل وينام معها، إلا أنّ عشقه للمسيح فرض عليه طلاقها، ليتحول من عبدٍ للسطور إلى مكتشف للكلمة. فأين نحن من هذا الاختيار؟

أنا لا أجري كمن لا يعرف الهدف ( 1 كو 9 : 26)

قال يسوع : " أنا الطريق والحق والحياة، فلا أحد يأتي إلى الآب إلا بي" ( يوحنا 14 : 6). إنّ تعاليم القديس بولس اللاهوتية هي قبل أي أمر آخر تعاليم ترتكز على شخص يسوع المسيح: على شخصه في قصد الله و ما فعله لأجلنا لننال الخلاص، وعلى كيفية الولوج إلى تعاليمه، فيكون لنا الطريق للوصول إلى الله الآب. يقول المطران كيرلّس سليم بسترس : " إنّ رؤية بولس للإنسان ترتكز على رؤيته للمسيح" 3 ، فمنذ أن خلق الله الإنسان على صورته دعاه إلى الكمال، إلا أنّ صورته كما أرادها الله لم تتحقق إلا في شخص المسيح. كان يعرف بولس هدفه جيداً، ألا وهو دعوة الإنسان لأن يصير كاملاً في المسيح، وحجّاجاً مع المسيح وقديساً من أجل المسيح : " هو الذي نبشر به ناصحين لكل إنسان، ومعلّمين كلّ إنسانٍ بكلّ حكمة، لنجعل كل إنسان كاملاً في المسيح" ( كو 1: 26 – 28).

أن نكون في المسيح ومع المسيح ومن أجل المسيح على مثال القديس بولس ليس بالأمر السهل، فالمسيحي يرتبط بشخص يسوع المسيح المخلّص، يموت معه فتموت معه خطاياه، ثم يقوم معه في القيامة ويحيا حياة جديدة، إنه مدعو للاتحاد به اتحاداً باطنياً حميماً، اتحاداً داخلياً وعميقاً. يدعونا بولس الرسول للاتجاه تلقائياً نحو المسيح، لأن في السيد المسيح خُلق كل شيء واليه مرجع كل شيء لأنه صورة الله وابنه: "فجدير بالمقارنة أن الله قد خلق أيضاً الإنسان "نحو" المسيح "كلّ شيء خلق به وله" ( قول1: 16).

إنّ الاتحاد في المسيح يمنحنا المشاركة في رسالته وحياته. كلُ معمَّدٍ مسيحيٍ عليه أن يشهد ليسوع المسيح ويجعله حاضراً في حياته، وأسرته، ومهنته، مكرّساً بوجهٍ نهائي لخدمته، موسوماً بطابعٍ روحيّ لا يُمحى. إنَّ مسيرتنا مع الربِ يسوع على مثال القديس بولس تكمن، أولاً في العماد، ثم عندما نكبر نبدأ بمرحلة الاندهاش والتأمل والإصغاء إلى كلمة الله، فإذا تجاوبنا معها تنمو حياتنا الروحيّة، ونسلك طريق الملكوت، طريق التطويبات فنكون رحماء، شجعان ومسالمين، متضامنين مع الفقراء ، ونشهد للمسيح : " الحياة الرسولية تقتضي كثيراً من الشجاعة وكثيراً من الصبر المرتكز على الإيمان" 4

هذا ما كان يصبو إليه القديس بولس، فمن خلال حياته وتعاليمه نجده يدعو الكاهن والمكرّس والعلماني إلى أن يكونوا قديسين 5 لأن الله اختارهم وقدّر لهم أن يتبناهم بيسوع المسيح، وما التبني الإلهي إلا حركة تغيير شاملة تحدث في المسيحي المعمّد، فتجعله وارثاً للسماء " وحيث نحن أبناء فنحن ورئة" ( روم 8: 17).

 بولس يدعو إلى الجهاد والوحدة والالتزام اللامتناهي

 إنّ القديس بولس يدعو الكهنة والعلمانيين معاً، من خلال رسالته إلى أفسس، إلى الجهاد الروحي الدائم متسلحين بالحق والعدل والانجيل: " احملوا سلاح الله الكامل لتقدروا أن تقاوموا في يوم الشرّ" ( أفسس 6: 13). ولا يمكننا أن نتجاهل حضّه على المحبة والغفران المتبادل، فنعيش معاً في الكنيسة، ونعمل معاً في الوحدة، وننموا معاً لنبلغ قامة المسيح : " احتملوا بعضكم بعضاً بمحبةٍ واجتهدوا في المحافظة على وحدة الروح برباط السلام. فأنتم جسدٌ واحدٌ وروحٌ واحد، مثلما دعاكم الرب إلى إلى رجاءٍ واحد" ( أفسس 4: 2 -4).

لا نستطيع التحدث اليوم عن العائلة الكنسيّة دون التكلم عن بناء الوحدة، وحدة الروح القدس، بين أفراد البشرية كما هي بين الأقانيم الإلهية. وبولس الرسول من جهته يذكرنا " أننا اعتمدنا في روح واحد لكي نؤلف جسداً واحداً" (1كو 12 – 13). الروح يضعنا في وحدة حياة ووجود مع الآب ومع الابن الذي هو أخونا. إنَّ دخولنا في البنوّة الإلهية ومجيئنا إلى المسيح واتحادنا هي جميعها دعوة إلى الاتحاد بالآخرين، فيزول الانقسام.

المسيحي، على مثال القديس بولس، مدعو إلى أن يتجاوب، فيقبل ويلتزم مع الله بمسيرة لامتناهية من الإيمان بشخص المسيح مائتاً وقائماً، إنساناً وإلهاً، يرتبط أولاً وأخيراً به. هذا الإيمان يُنشِئ علاقةً رباط أبدي تحثه على الرغبة الدائمة في تغيير مسيرته، والتوبة عن خطاياه، واهتدائه نحو يسوع المسيح تاركاً الإنسان القديم في سبيل أن يحيا حياة الإنسان الجديد، فيتعاون مع قوة النعمة المجانية وينميها في داخله بالانفتاح الدائم على الله.

 خاتمة

ليس الكاهن اليوم من يحمل الأسرار ويخدمها فقط، بل أن يكون هو السرّ عينه، وأن يكون الوسيط الخلاصي بين الشعب والله. وليس العلماني اليوم من يتقبل فقط الأسرار كما لا حول له ولا قوّة، بل أن يشارك الكاهن في خدمتها بإيمانه وصلاته. هكذا نكون قديسين عصرنا. لقد كان بولس قديساً بفضل سعيه الدؤوب إلى التمثل بيسوع المسيح، بل " كان يستمدُ قوته بشكلٍ مباشر من شخص المسيح" 6 فهل نستطيع أن نكون بولس القرن الواحد والعشرون، فنعزف لحن إيمانٍ لا ينتهي أبدا؟ . إنّ الله كفيلٌ بتحقيق الآمال…

 

عن موقع جمعية التعليم المسيحي بحلب

 

الحواشي

 1 José H. Prado Flores, El secreto de Pablo, publicaciones kerigma, México, 1995, p 41 – 47

2  José H. Prado Flores, El secreto de Pablo, po.cit.

3  المطران كيرلس بسترس، "الجمعية البولسية في خطى رسول الأمم"، المسرة 89(2003)، العدد 861، ص737.

4   المطران كيرلس بسترس، "الجمعية البولسية في خطى رسول الأمم"، المرجع السابق، ص 739

5  الأب أنطوان نصر، أنت كاهن إلى الأبد، سلسلة من ثمار الروح 15، منشورات القيامة، بيروت، 1997، ص 4

6  Sœur Marie – Laure, "En route vers Damas", Paul Apôtre, Sources vives, Fraternités Monastiques de Jérusalem, 13, rue des Barres- 75004 Paris, 2008, p. 70.