بيان الكرسي الرسولي حول مؤتمر الدوحة

"معاهدة جديدة لإعادة تأسيس نظام مالي عالمي"

حاضرة الفاتيكان، 28 نوفمبر 2008 (Zenit.org).

ننشر في ما يلي الوثيقة التي أعدها المجلس الحبري للعدالة والسلام، ووافقت عليها أمانة سر دولة حاضرة الفاتيكان حول أسباب الأزمة المالية العالمية وتبعاتها.

وقد صدر النص قبيل اجتماع الأمم المتحدة الذي سيعقد في الدوحة ابتداءً من السبت 29 نوفمبر ولغاية 2 ديسمبر في أعقاب اجتماع الدول الغنية الذي عقد في واشنطن في 15 نوفمبر. ويبدو أن الوضع الاقتصادي العالمي يشكل خطراً كبيراً على مؤتمر الدوحة الرامي إلى التفكير حول الأهداف التي حددها إجماع مونتيري.

***

اتفاقية جديدة لإعادة تأسيس نظام مالي عالمي

ترمي هذه المذكرة التي أعدها المجلس الحبري للعدالة والسلام، ووافقت عليها أمانة سر دولة حاضرة الفاتيكان، إلى تقديم بعض النقاط للتفكير حول الأزمة المالية العالمية الراهنة وتداعياتها في تمويل التنمية. وبما أن الكرسي يدرك تماماً بأن العديد من المسائل المشار إليها هنا قابلة للمعالجة بوسائل تقنية مختلفة، فإن هذه الوثيقة تعد أولاً جهداً لتعزيز وتشجيع الحكومات وباقي القوى الاقتصادية على السعي وراء الحلول المستديمة في التضامن.

 

التمويل والتنمية: أهمية المؤتمر

1. إن المؤتمر العالمي المقبل حول "التمويل للتنمية لإعادة النظر في تطبيق إجماع مونتيري" الذي سينعقد في الدوحة ابتداءً من 29 نوفمبر ولغاية 2 ديسمبر 2008، يمثل النقطة النهائية في العملية التي تتم برعاية الجمعية العامة للأمم المتحدة وبالاشتراك مع المجتمع المدني لمراجعة محتويات وتحديثات الوثيقة حول تمويل التنمية، المصادق عليها سنة 2002 في مونتيري والمسماة "بإجماع مونتيري". وقد تضمنت هذه الوثيقة ستة فصول عن المسائل الأساسية الكبرى لتمويل التنمية: تعبئة الموارد الداخلية؛ تدفق الرأسمال الخاص؛ التجارة الدولية؛ مسألة الديون الخارجية؛ وأخيراً وليس آخراً السؤال المنهجي حول السبل الكفيلة بإعطاء القوة والتماسك للنظام النقدي والمالي والتجاري العالمي دعماً للتنمية.

وفقاً لإجراءات الأمم المتحدة، فقد أدت أعمال المراجعة خلال الأشهر الأولى من سنة 2008 إلى وضع مسودة لوثيقة جديدة (الوثيقة الختامية لمؤتمر الدوحة) التي جرى البحث فيها وتعديلها تدريجياً بغية التمكن من اختتام مؤتمر الدوحة بنص يتضمن إجماع جميع المشاركين فيه.

وفي الأشهر الأخيرة أُضيفت إلى هذه العملية من المفاوضات المضنية، حدة الأزمة المالية العالمية التي نشأت عن أزمة قروض الرهن العقارية في الولايات المتحدة. وعلى الرغم من أن هذه الأزمة أخذت الكثير من الوقت للنشوء، إلا أنها انتشرت في أوائل أيلول إلى أن طاولت قطاعات أخرى من النظام المالي، وأعاقت عدداً متزايداً من البلدان التي لم يكن وضعها المالي يظهر أي مشاكل استدامة في غياب انهيار خارجي.

لذلك، وبالإضافة إلى ارتفاع أسعار المنتجات الزراعية والطاقة، الذي حصل في الأشهر الأولى من سنة 2008، فقد وقعت أزمة مالية مأساوية في بعض جوانبها ترافقها تبعات في منتهى السلبية وعلى رأسها موضوع تمويل التنمية المعرض لإدراجه في خانة ثانوية.

2. في هذه الحالة، لا بد من أن تتحرك الحكومات والمؤسسات المالية من أجل وقف انتشار الأزمة المالية الراهنة. وفي الواقع أن العديد من البدان قامت باتخاذ قرارات تناهض جذرياً النزعة إلى العهد بأداء السوق المالية إلى قدرتها على التنظيم الذاتي، النزعة التي كانت ما تزال محبذة حتى الماضي القريب. في المبدأ، قامت حكومات البلدان المتضررة من الأزمة باعتماد جملة من الترتيبات التي تنطوي على عودة كبيرة للقطاع العام في الأسواق المالية عينها التي فقدت نظامها وجرت عملية خصخصتها وتحريرها خلال العقود الأخيرة.

ونظراً إلى أنه من المحتمل أن ينجح هذا النوع من السياسة في حال لم تعمل البلدان بتشتت بل تنسق مبادراتها، فقد تمت الدعوة إلى عقد قمة طارئة للدول الكبرى في 15 نوفمبر، المسماة بقمة مجموعة العشرين، بمشاركة من الدول الناشئة. ونظراً إلى أن قمة مجموعة العشرين عقدت قبل أسبوعين من مؤتمر الدوحة الذي ترعاه الأمم المتحدة، فإن العديد من البلدان لم تشارك في القمة تخوفاً من أن الحدث الأول قد يحرم مؤتمر الدوحة من التأثير السياسي إذ أنه ضم عدداً محدداً من البلدان ولكنه لفت انتباه الرأي العام الدولي.

نتيجةً لذلك، هناك مؤتمران عالميان مهمان ومتشابهان يجمعهما هدف واحد – التمويل وأزمته، والتمويل والتنمية – على الرغم من أنهما يتميزان بمعان ووظائف سياسية مختلفة. إن المؤتمرين مهمان على حد سواء.

فالجميع يأمل من البلدان التي التقت في واشنطن في 15 نوفمبر أن تأخذ بالاعتبار مؤتمر الدوحة وتعمل لنجاحه. ففي الحقيقة أن الأخير لا يهدف فقط إلى التوصل إلى إجماع رسمي بين الحكومات حول ست مسائل مهمة واردة في "إجماع مونتيري"، بل كذلك إلى تنمية تدريجية لرأي وتقييم مشتركين للأسئلة الملحة حول موضوع تمويل التنمية.

وإذا كان لا بد أيضاً من معالجة المسائل المالية الملحة على الصعيد السياسي، فمن المهم كذلك النظر باهتمام إلى الوضع الإجمالي، وإلى الروابط بين المشاكل، وليس فقط من وجهة نظر البلدان القوية من الناحية الاقتصادية، ولكن ضمن منظور يميل إلى الشمولية. إن الأمور الملحة ليست دوماً الأمور الأكثر أهمية. على العكس، من الضروري أكثر من أي وقت مضى أن تتم إعادة تنظيم الأولويات بسبب تفاقم الوضع. لقد حصلت الأزمة المالية الطارئة اليوم من دون شك بعد فترة طويلة وُضعت فيها أبعاد التمويل عينه جانباً بسبب وطأة الغاية الفورية لمتابعة النتائج خلال فترة وجيزة: إن طبيعة التمويل "الحقيقية" تكمن في دعم توظيف الموارد المدخرة حيث تدعم الاقتصاد الفعلي، والخير العام، ونمو الإنسان والبشرية (بولس السادس، ترقي الشعوب، 14). وهكذا يعتبر مؤتمر الدوحة فرصة يجب ألا تفوتها الأسرة الدولية من أجل إعادة التركيز على المسائل الأكثر أهمية للخير العام للبشرية، ومنها مسألة التمويل للتنمية.

المسائل الهامة التي تتطرق إليها المسودة

3. بالعودة إلى المسودة، من المناسب النظر فيها مع الأخذ بالاعتبار جانبي الأزمة المالية الراهنة، أي حالة الطوارئ التي نشأت في الأسواق من جهة، وحالة النقص المزمن في الموارد الرامية إلى دعم التنمية من جهة أخرى. والحالتان تطرحان سؤالاً أخلاقياً محتماً.

ففي أزمة مماثلة، من الملائم أن يتساءل الإنسان: لو سارت الأمور على ما يرام، هل كان عانى من الإهمال والنسيان؟ كيف انتهى بنا المطاف إلى هذا الوضع المشؤوم، بعد عقد تضاعفت فيه الخطابات حول أخلاقيات التجارة والمال، وانتشر فيه اعتماد قوانين أخلاقية؟ لمَ لم يتم إيلاء أهمية كافية للتأكد من الحوادث التي كانت قد أدت إلى التفكير بها؟

إن الجواب عن هذه الأسئلة لا يمكنه سوى التوضيح بأن البعد الأخلاقي في الاقتصاد والمال ليس أمراً ثانوياً بل أساسياً يجب دوماً أخذه بالاعتبار كما يجب أن يقوم بإحداث فرق في حال وجود الرغبة في خلق ديناميكيات اقتصادية ومالية صحيحة ومستدامة تثمر في التقدم.

من هذه الناحية، يمكن لعقيدة الكنيسة الاجتماعية، الغنية بتعدد مبادئها الأخلاقية، كما يجب عليها تقديم مساهمة الواقعية والرجاء إلى المسائل التي تخضع للمناقشة اليوم مثل الأزمة المالية، أو إلى المسائل التي لا تحظى بالاهتمام الواجب على الرغم من أهميتها الكبيرة في جزء شاسع من العالم. وتبرز الحاجة إلى معاهدة جديدة من أجل إعادة تأسيس النظام المالي العالمي؛ مسألة المراكز المالية الخارجية والرابط بين التمويل للتنمية وفرض الضرائب؛ السوق والمعايير المالية؛ دور المجتمع المدني في تمويل التنمية.

معاهدة مالية عالمية جديدة

 

3. أ. إن الأزمة الحالية هي أساساً أزمة ثقة. ومن المسلم به اليوم أن الاستخدام المفرط للاحتيالات المالية من جانب العمال أو التفكير غير الكافي بالعناصر الخطيرة التي تتضمنها هما من مسببات الأزمة. ومن المسلم بشكل أساسي بالعلاقة بين حاجة المال للقيام بوظيفته "الفعلية" كجسر بين الماضي والمستقبل، وآفاق المراجعة الزائلة لدى العمال، التي تقلصت حالياً. بمعنى آخر، أدت الأزمة المالية العالمية إلى التفكير والعمل الفوريين حول النقطة السادسة من المسودة، أي حول مسائل النظام.

هل نحن بحاجة إلى مراجعة بسيطة أو إلى إعادة تأسيس حقيقية وتامة لنظام المؤسسات الاقتصادية والمالية العالمية؟ هناك العديد من الأفراد على مختلف المستويات العامة والخاصة، الوطنية والدولية، الذين يطالبون بعقد اجتماع بريتون وودز جديد. بمعنى أكثر بعداً، طرحت الأزمة ضرورة إيجاد سبل جديدة من التنسيق العالمي في المسائل النقدية، والمالية والتجارية.

لقد بات من الواضح اليوم بأن السيادة الوطنية غير كافية، حتى أن البلدان الكبرى تعي استحالة تحقيق الأهداف الوطنية بالاعتماد فقط على السياسات الداخلية. لذا، فالاتفاقيات، والقوانين، والمؤسسات الدولية ضرورية تماماً. كما أنه من الضروري تجنب بداية سلسلة من الحمائية المتبادلة، التي يجب أن تُستبدل بتعزيز التنسيق في مسألة الشفافية والحذر في النظام المالي. ومن المحتمل التوصل إلى حلول "سيادة مشتركة"، كما يثبت تاريخ التكامل الأوروبي، بدءاً بمشاكل ملموسة، ضمن رؤية سلام وازدهار، متجذرة في القيم المشتركة.

كذلك في إعادة تحديد السياسات والمؤسسات الدولية، تبرز مسألة أخلاقية ذات أهمية كبيرة. من المهم بخاصة ألا يؤدي التفاوت السياسي الضروري بين البلدان "الأغنى" إلى حلول مبنية على اتفاقيات حصرية، بل أن يعيد إطلاق فسحة انفتاح وتعاون شامل. وهذه الفسحة مهمة بخاصة في مسألة التمويل للتنمية.

إن التدفقات المالية التي تربط البلدان المتقدمة بالبلدان ذات الدخل المنخفض تظهر عنصرين متناقضين على الأقل. يتجلى التناقض الأول في كون أن البلدان الفقيرة في النظام العالمي هي التي تمول البلدان الغنية التي تتلقى الموارد من تنقل رؤوس الأموال الخاصة أو القرارات الحكومية باحتكار المدخرات المالية على شكل أنشطة مالية "مضمونة" موضوعة في الأسواق المتطورة مالياً أو في الأسواق الخارجية. أما التناقض الثاني، فهو أن حوالات المهاجرين – أي حوالات العناصر الأقل "تحرراً" في عمليات العولمة – تتضمن وفرة من الموارد تتخطى كثيراً على المستوى الكلي، تدفق المساعدة العامة للتنمية. وكأننا نقول بأن فقراء الجنوب يمولون أغنياء الشمال، وأن فقراء الجنوب أنفسهم مجبرون على الهجرة إلى الشمال والعمل من أجل دعم عائلاتهم في الجنوب.

المراكز المالية الخارجية

 

3. ب. بغية تنفيذ هذه المعاهدة المالية العالمية الجديدة، تقضي الخطوة الضرورية الأولى بالنظر ملياً إلى الدور المستتر والمهم للنظام المالي الخارجي  في جانبي الأزمة المالية العالمية المذكورين أعلاه: الحالة الطارئة للأزمة العالمية، والنقص في تمويل التنمية.

لطالما شكلت الأسواق الخارجية رابطاً مهماً في نقل الأزمة المالية الحالية وفي الحفاظ على مجموعة من الممارسات الاقتصادية والمالية الهائلة: تنقل رؤوس الأموال الكبيرة، التدفقات "الشرعية" التي تحفزها أهداف التملص من الضريبة، وتسير عبر التدفقات التجارية الدولية، وإعادة تنظيم التدفقات الناشئة عن أنشطة غير مشروعة. من الصعب تقييم الثروة في المراكز الخارجية، ولكنها تؤثر بما يكفي إن صحت المعلومات الشائعة: يُقال أن سلسلة كبيرة من المجموعات والأفراد تقوم بأعمال مالية في مراكز خارجية قد يصل مردودها إلى حوالي 255000 دولار أميركي: أكثر من ثلاثة أضعاف مبلغ المساعدة العامة للتنمية الذي تقدمه بلدان منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي.

ونظراً إلى أن التمويل العام للتنمية ينشأ فقط عن الانتقاص المالي، فإنه يصبح الحد الأدنى الخطير في زمن العولمة. ففي الواقع أن عمليات العولمة غيرت نوع بنية الصفقة ليس فقط من مباشرة إلى غير مباشرة (مع احتمال حصول ارتفاع أقل في الضرائب، أي قدرة أقل على فرض نسبة معينة على الدخل الأكبر)، بل تضمنت أولاً ترجمة تقييم الرأسمال إلى تقييم العمل.

إن الانتقاص المالي يحدث في الأنشطة التجارية الأكثر تقلباً وأهمية في الميدان العالمي، أو تلك التي تلجأ بسهولة إلى المراكز الخارجية. أما الأنشطة المهمة بدلاً من الأولية هي العوامل المنتجة الأقل "تقلباً" التي لا يمكنها التهرب بسهولة من عبء ضريبة العمال والشركات الصغيرة.

هذه النقاط معقدة جداً من الناحية السياسية. والتطرق إليها يعني العمل مباشرة في دائرة السيادة المالية الوطنية. إن المسودة تتحدث عن هذا الأمر وتقترح في النقطة العاشرة تعزيز تعاون دولي في المسائل المالية، نظراً إلى البعد الجذري للعمليات المالية الخارجية.

تنظيم السوق المالي

 

3. ت. لقد وقعت الأزمة الحالية في سياق اتخاذ قرارات كانت فيه الآفاق الزائلة للمدراء الماليين وجيزة جداً، وكانت فيه الثقة – العامل الأساسي في المصداقية – موضوعة في آليات السوق أكثر منه في العلاقات بين الأفراد. وليس بالصدفة أن تدهورت الثقة في التبادل الذي كان "آمناً" أولاً أي في الصفقات بين المصارف. ولكن هذه الثقة أساسية في جميع الأمور، حتى في العمل الاعتيادي للشركات المنتجة. وفي الحقيقة أن الأزمة المالية وتبعاتها تشمل من بين مكوناتها التوقع بأن يتدهور المناخ المالي. وكل ذلك يدفع بالمدراء إلى التصرف بشكل يزيد احتمال التدهور الفعلي في الأوضاع مع تأثيرات تصاعدية متوقعة. وقد أدت الأزمة إلى تراجع الثقة في السوق، وهي الآلية القادرة على التنظيم الذاتي وإحداث التنمية للجميع.

إن الوضع الحالي هو عبارة عن أزمة طارئة لأنه تم تجنب أسئلة مهمة مثل تعقب الحركات المالية، المردود الفعلي للعمليات في الاتفاقيات المالية الجديدة، وتقييم الخطر بدقة. لقد قامت العديد من السلطات، بخاصة في البلدان المتطورة اقتصادياً، باقتراح خيارات معينة ترافقها مكاسب اقتصادية تنشأ عن مساعدة صناعة مالية كبيرة، مكاسب تدوم طوال فترة النشوة المالية.

إن المؤسسات المالية الدولية لا تُمنح التفويض والوسائل الضرورية للإجابة عن هذه الأسئلة بشكل حاسم. وكان الاعتقاد العام بأن السوق كفيلة وحدها أن تقيم الخطر.

لا تستطيع الأسواق المالية العمل من دون ثقة، ولا يمكن للثقة أن تتواجد من دون الشفافية والقوانين. لذلك يتطلب عمل السوق بشكل جيد دوراً مهماً من الدولة، وعند اللزوم، من الأسرة الدولية من أجل وضع قوانين الشفافية والتعقل واحترامها. مع ذلك، يجدر التذكير إلى أنه ليس باستطاعة أي مداخلة تنظيم أن "تضمن" فعاليتها بالاستغناء عن ضمير أخلاقي جيد والمسؤولية اليومية التي تقع على عاتق مدراء السوق، بخاصة رجال الأعمال والمدراء الماليين الكبار.

إن قوانين اليوم المبنية على تجربة الأمس لن تجنبنا بالضرورة مخاطر الغد. وعلى الرغم من وجود بنى جيدة وقوانين جيدة مساعدة، إلا أنه من الضروري التذكير بأنها ليست كافية وحدها. لا يستطيع الإنسان التغير أو التحرر فقط من الخارج.

من الضروري التوصل إلى الخير الأخلاقي الأعمق لدى الشعوب، وإلى تربية فعلية في ممارسة المسؤولية تجاه الخير العام، من جانب جميع الأفراد على جميع المستويات: من جانب المدراء الماليين والعائلات والشركات والمؤسسات المالية والسلطات العامة والمجتمع المدني.

يمكن لهذه التربية على المسؤولية أن تجد أساساً متيناً لها في بعض المبادئ التي تشير إليها العقيدة الإجتماعية، والتي تشكل إرث الجميع وأساس الحياة الاجتماعية كلها: الخير العام العالمي، المصير العالمي للسلع، ومنح الأولوية للعمل أكثر منه للرأسمال.

وإن الأزمة المالية هي في جوهرها النتيجة لممارسة يومية كان محورها "أولوية الرأسمال" المطلقة في موضوع العمل – حتى العمل الذي ينفر منه المدراء الماليون أنفسهم (ساعات طويلة ومرهقة من العمل، آفاق ضيقة لاتخاذ القرارات). إنها أيضاً النتيجة لممارسة مخطئة في منح القروض للذين يتمتعون ظاهراً "بمناعة ضد الفشل" بدلاً من منحها لمن يخاطرون في خلق فرص حقيقية للتنمية.

دور المجتمع المدني في تمويل التنمية

3. ث. يتطلب التمويل للتنمية المساعدة العامة للتنمية أو دور عوامل أخرى: من أفراد وشركات ومنظمات. إن المجتمع المدني بخاصة لا يلعب فقط دوراً فعالاً وهاماً في التعاون للتنمية، بل يؤدي أيضاً دوراً هاماً في تمويل التنمية. وهو يقوم بذلك أولاً من خلال المساهمة الطوعية من فرد إلى فرد، أي من خلال حوالات المهاجرين، أو عبر السبل التنظيمية البسيطة نسبياً (فكرة التبني). من ثم تظهر الموارد للتنمية التي تحركها الشركات في الممارسة الفعالة لمسؤوليتها الاجتماعية، والموارد الرائعة التي تقدمها مؤسسات مهمة.

كما أن السلوك المسؤول في مسألة الاستهلاك والاستثمار يشكل مورداً أساسياً للتنمية. وبإمكان توسع هذا السلوك المسؤول من وجهة التأثيرات المادية أن يحدث الفرق بين عمل بعض الأسواق، التي تكمن أهميتها أولاً في أنها تعبير عن مشاركة فعلية من قبل الأفراد – كمستهلكين، ومستثمرين للمدخرات العائلية – أو مشاركة حاسمة في الاستراتيجيات المهنية، إلى أن تتمكن البدان الأكثر فقراً من التخلص من حالة فقرها.

الأزمة المالية والمساعدة العامة للتنمية

4. بإمكان القلق حيال الأزمة المالية التي طرأت على الأسواق الناضجة أن يربك الحاجة إلى تمويل التنمية. من الجيد التفكير بأن الإعانة العامة للتنمية التي تتألف من حصص من الميزانية التي يضعها كل بلد عاماً بعد عام، سوف تعاني بسبب الموارد العامة الكبيرة الضرورية من أجل تغطية حالة الأزمة المالية الطارئة. إن هذا الأمر مشؤوم من دون أي شك. لذا، فإن التمويل الملائم للتنمية يتطلب آفاقاً بعيدة المدى: من الضروري أن تتدفق الموارد على نحو متوقع، وخلال ظروف مؤاتية، من أجل تمويل أعمال قد تأخذ الكثير من الوقت قبل أن تحقق المكاسب للشعوب المحلية.

على الرغم  من ذلك، فإن حالة الطوارئ المالية المرتبطة بالفترة الوجيزة للتمويل الطويل الأمد، و"استوائه" مرتبطان فعلاً بالمعنين السلبي والإيجابي: هناك إمكانية السعي بشدة إلى المساهمة في سبيل التخلص المستديم من الأزمة المالية، ووضع الشروط بأن تستخدم المدخرات للتنمية أي لخلق فرص العمل.

يكفي بأن نفكر في الحاجات المتعددة التي لم تتم تلبيتها بخاصة في البلدان ذات الدخل المنخفض: تشكل هذه الحاجات الجانب الآخر لفرص العمل التي يمكن ويجب خلقها.

وبغية إعطاء عناصر أخرى يمكنها أن تدعم عقلانية هذا السبيل "الضخم" للتخلص من الأزمة المالية، يجب التذكير بأن الأزمات الثلاث التي حصلت سنة 2008 – أزمة الغذاء، أزمة الطاقة، والأزمة المالية – موحدة بشدة. إن توقع ارتفاع أسعار المنتجات الزراعية ومنتجات الطاقة (بمعنى التوقع الوظائفي، إن فكرنا بالطلب المتزايد على الغذاء والوقود في الصين والهند مثلاً) سبب تسابقاً على التخزين وشراء العقود الآجلة أي شراء وعود احتياط مستقبلي بأسعار معينة. بدوره، أدى هذا السلوك إلى ارتفاع في الأسعار لم يجذب فقط المستخدمين المستقبليين للمنتجات الأولية، بل أيضاً المدراء الماليين الذين راهنوا من وجهة المضاربة على إمكانية ارتفاع أكبر في الأسعار.

حالياً، يميل هذا السلوك الخطر إلى التقدم في غياب التحكم، وفي ظل توفر الاعتماد في الأسواق المالية. وليست مصادفة أن الأزمة المالية الحالية التي تتجلى أولاً في الصعوبة الكبيرة في الحصول على اعتماد، قد حملت معها انخفاضاً في أسعار المواد الأولية والنفط. بات من المعلوم بأنه إذا كان من الضروري التطرق إلى المشكلة "واحدة تلو الأخرى"، فمن الخطير القيام بذلك من غير النظر بوضوح إلى الصورة الشاملة والعلاقات بين المشاكل عينها. وقد تسلب الأزمة المالية الموارد من الإعانة العامة للتنمية. لذا، فقط من خلال تخصيص موارد عامة وخاصة للتنمية "الحقيقية"، نتمكن من إعادة بناء نظام مالي سليم قادر على الإنتاج لأن الموارد قد دعمت فعلاً العمل والاقتصاد.

الاستثمارات المباشرة الحالية في البلدان الفقيرة

5. يستمر عموماً الجزء الأكبر من الاستثمارات الخارجية المباشرة بالتأثير على البلدان المتقدمة، بلدان المنشأ والوصول، على الرغم من أنه تمت ملاحظة ظاهرتين جديدتين في السنوات الأخيرة. الظاهرة الأولى هي إثبات استثمارات خارجية مباشرة تصدر عن البدان "الناشئة" التي غالباً ما تهدف إلى تعزيز إجراء البحوث في مناطقها الكبرى – وهي إذاً استثمارات جنوبية جنوبية، موجهة إلى بلدان ذات الدخل المتوسط والمنخفض. أما الظاهرة الثانية، فإنها متعلقة بالنمو الملحوظ في تدفقات الاستثمار الممتدة عبر القارات، والموجهة إلى بلدان ذات دخل المنخفض، غنية بموارد التعدين والطاقة. تتألف بعض التدفقات مما يسمى "رؤوس الأموال المستقلة" لذا فإنها تساوي ضعف قيمة الاستثمار الاقتصادي وتشكل صلة اجتماعية وسياسية مهمة.

أما الفصل الثاني من المسودة، فإنه يهدف إلى كيفية العمل على زيادة الاستثمارات الخارجية المباشرة. كما يشدد في الوقت المناسب على ضرورة احترام جوانب الاستثمار النوعية. ولا بد من الاحتراس قبل تفسير تدفقات رؤوس الأموال إلى البلدان كإشارة إيجابية مطلقة وبالتالي الزيادة منها. ففي الكثير من الحالات، تكون فرصة مهمة للنمو الاقتصادي والتنمية الاجتماعية، ولكنها ليست كذلك في الحالات الأخرى. في الواقع أن هناك استثمارات تنطوي على إعداد العمال المحليين، ونقل التكنولوجيا، ونشر أعمال الإدارة المسؤولة. ولكن هناك من الناحية الأخرى استثمارات لا تنطوي سوى على تحديد نسبة الموارد المعدنية لمصلحة البعض – النخبة السياسية أو الاقتصادية المحلية – بالإضافة طبعاً إلى المستثمرين الأجانب.

 

التعاون المالي للتنمية

6. في أعقاب مؤتمر مونتيري، تم اتخاذ بعض الخطوات المهمة نحو ما أشار إليه "إجماع مونتيري". وفي "العمل ضد الجوع والفقر" الذي تم برعاية بعض البلدان المتطورة والنامية واعتمدته العديد من البلدان الأخرى، تم تحديد العديد من المصادر المحتملة والمبتكرة من أجل التمويل: ضريبة مشتركة على التعريفات الجوية؛ تقليص التهرب من دفع الضرائب من خلال وجود الملاذات الضريبية؛ تعبئة حوالات المهاجرين للتنمية المحلية للبلدان التي تتوجه إليها مع أخذ مبادرات القروض الصغيرة مثلاً؛ فرض الضرائب على تجارة الأسلحة؛ خلق وسائل إقراض مبتكرة مثل التسهيلات المالية الدولية؛ إصدار حقوق معينة من قبل صندوق النقد الدولي؛ المساعدة الطوعية بالاشتراك مع استخدام بطاقات الائتمان؛ الاستثمار المالي في "الصناديق الأخلاقية"؛ جمع الأموال عن طريق اليانصيب المشترك.

وقد تم تنفيذ البعض من هذه المقترحات بشكل جزئي إذ بدأ تطبيق مشروع الضريبة المشتركة على التعريفات الجوية في الولايات المتحدة لوضعها إلى صندوق لشراء العقاقير ضد الملاريا والسل وفيروس نقص المناعة البشرية/الإيدز، تديره مباشرةً منظمة الصحة العالمية. أما اقتراح سنة 2006 الذي يقضي بخلق تسهيلات مالية دولية فقد تُرجم من خلال تفعيل هذه التسهيلات (للحصانة)، التي انضم إليها عدد من البلدان.

لقد كانت أساساً مسألة إصدار حقوق عامة دولية وُضعت في الأسواق المالية ومكنت جمع موارد خاصة لتميل برامج التلقيح. والبلدان التي أصدرت الحقوق مسؤولة عن أعباء الفوائد وإعادة الأموال في المستقبل، التي تعقد العزم على تأمين موارد التنمية. وهذا العزم معقول جداً إلى حد أنه في حال نقصه التدريجي يعرض البلدان لخسارة سمعتها في الأسواق المالية العالمية التي تعتمد عليها في تمويل اختلال التوازن في حساباتها. والنقطة المشتركة بين هذه المبادرات هي أنها فصل جمع الموارد المالية للتنمية من خلال الضرائب عن قرارات الميزانية العامة لكل بلد.

7. من جهة أخرى، وعلى الرغم من التقدم، فإن التعاون المالي للتنمية ما يزال يشكل مشكلة كبيرة. كما أن العديد من مجالات العمل التي يتضمنها "إجماع مونتيري" لم تحرز أي تقدم؛ وهذا الأمر بارز فعلاً في موضوع النظام، وبخاصة في موضوع تماسك السياسات الاقتصادية الدولية. فلنفكر مثلاً بالرابط بين سياسات المساعدة للتنمية، والسياسات التجارية للبلدان المتقدمة: فالأشكال المختلفة للحمائية الظاهرة أو المستترة، والقيود الدائمة للنفاذ إلى صادرات البلدان الفقيرة في أسواق البلدان الغنية، تشكل عائقاً كبيراً أمام التنمية. وتستمر السياسات الوطنية في التقلب: فالعطاء يقابله السلب.

والتحذير الاخير والمهم هو أنه من الضروري الاحتراس من عدم الخلط بين الوسائل (الموارد المالية) والهدف أي التنمية. لا يكفي إعداد تمويل ملائم من أجل التفكير في الحصول على تنمية بطريقة آلية. فالتنمية ليست "النتيجة" التي سنراها في النهاية بل السبيل المتميز يوماً بعد يوم بخيارات ملموسة لعدة عوامل: الحكومات المانحة والممنوحة؛ المنظمات غير الحكومية؛ والجماعات المحلية. وفي ما يتعلق بالمساعدة العامة للتنمية – الهدف الأساسي لمؤتمر الدوحة الذي يشمل الدول أولاً – لا بد من إعادة التذكير بأن الأسرة الدولية تطرقت مؤخراً خلال مؤتمر أكرا، إلى مسألة فعالية المساعدة.

واليوم، تغلب النزعة إلى اعتبار القناة "من دولة إلى دولة" المسماة "بدعم الميزانية" كالسبيل الأكثر فعالية في وصول الموارد إلى البلدان ذات الدخل المنخفض. ويتم النظر إلى هذه النزعة بقلق لأنها تحمل معها خطر "بيروقراطية" السياسات الوطنية لمكافحة الفقر وإعادة تنظيم الموارد المتوفرة من خلال مختلف أشكال المبادرات الاجتماعية المحلية، من قبل منظمات المجتمع المدني، ومن قبل الوقائع المحلية المتجذرة كالمنظمات القائمة على الإيمان. "ولكن هذه الوقائع تؤيد التنمية التي تعتبر السياق المتابع يوماً بعد يوم.

إفريقيا والتمويل للتنمية

8. لا بد من إيلاء اهتمام خاص بالقارة الإفريقية التي تسجل فيها خارطة التنمية تفاوتاً كبيراً. فالوضع يختلف بين الدول الإفريقية، إضافةً إلى وجود نزعة للاستقطاب بين الحصول على الموارد واستثمارها، ووجود أوضاع من التهميش الكامل. والمثال على ذلك هو أن عدداً قليلاً من البلدان الإفريقية يجذب استثمارات خارجية مباشرة لا تتطلع فقط إلى استغلال موارد التعدين والطاقة. والأمر يعتمد كثيراً على الوضع الداخلي لكل بلد؛ ووفقاً لإجماع مونتيري، على القدرة على تعبئة الموارد الداخلية ومكافحة تنقل رؤوس الأموال، والتهرب من دفع الضرائب، والفساد.

إضافةً إلى ذلك، من الواضح بأنه في حالات الصراع المسلح – المتعددة مع الأسف في إفريقيا – يصبح البعد الاقتصادي للتنمية غير قابل للطرح. وبقدر ما جرى إلغاء الديون الخارجية، بقدر ما حصل تقدم. ولكن نادراً ما أُضيفت موارد إلغاء الديون إلى تدفقات المساعدة مما أحدث تأثيرات تنسق الميزانيات العامة من دون أن تزيد فعلاً من الموارد المتوفرة للعمل على مكافحة الفقر.

وهنا، تجدر الإشارة إلى نقطتين. الأولى تتعلق بالخيارات في السياسة الدولية للحكومات الإفريقية حيث يجب دعم الإرادة المتنامية من أجل التعاون الدولي الجنوبي الجنوبي، في قارة قد يساهم فيها اكتساب عرف التعاون الدولي في توجيه الصراعات نحو مفاوضات غير دموية. أما النقطة الثانية، فإنها تتعلق بالخيارات في السياسة الداخلية، والمواد الإضافية، التي تقدر وتعزز سبل الاستجابة لحاجات المجتمع الإفريقي الذي وُلد منها، مجتمع ذات إرث كبير من الثقافة المشتركة قادر على التعبير عن نفسه بقوة تقديرية استثنائية.

إن تجربة التعاون الدولي للتنمية كافية اليوم للسماح بالاستنتاج بأن سياسات الشمال وموارده بإمكانها إحداث الكثير من التأثيرات المفيدة ولكنها لا توفر وحدها الأجوبة عن كيفية التخلص من الفقر بطريقة مستديمة. إن مبادئ الإعانة والتضامن التي تعتز بها العقيدة الاجتماعية للكنيسة يمكنها أن تخلق تنمية حقيقية كعلامة محبة تامة ومشتركة للخير العام.

حاضرة الفاتيكان، 18 نوفمبر 2008  

نقلته من الإنكليزية إلى العربية غرة معيط –  وكالة زينيت العالمية

حقوق الطبع محفوظة 2008 – دار النشر الفاتيكانية