العظة الأولى للأب كانتلاميسا في زمن المجيء

روما، الأربعاء 10 ديسمبر 2008 (Zenit.org).

ننشر في ما يلي العظة الأولى من زمن المجيء التي ألقاها صباح يوم الجمعة الماضي واعظ الدار الحبرية، الأب رانييرو كانتلاميسا الكبوشي، في كابيلا أم الفادي في الفاتيكان بحضور البابا بندكتس السادس عشر وأعضاء الرومانية.

الأب رانييرو كانتلاميسا، رهبنة الآباء الكبوشيين

العظة الأولى في زمن المجيء

"ما كان لي من ربح، فقد اعتبرته خسارة من أجل المسيح"

اهتداء بولس، نموذج اهتداء إنجيلي حقيقي

تُعتبر سنة القديس بولس نعمةً كبيرة للكنيسة، إلا أنها تشكل خطر التوقف عند بولس وشخصيته وعقيدته من غير القيام بالخطوة التالية منه إلى المسيح. لقد حذر الأب الأقدس من هذا الخطر في عظته الافتتاحية لسنة القديس بولس وخلال المقابلة العامة في 2 يوليو الماضي، وشدد قائلاً: "هذا هو الهدف من السنة البولسية: التعلم من القديس بولس، تعلم الإيمان، تعلم المسيح".

كثيراً ما حدث هذا الأمر في الماضي، حتى في هذه الفرضية العبثية التي تقترح بأن بولس، لا المسيح، هو مؤسس المسيحية الفعلي. لقد كان يسوع المسيح بالنسبة إلى بولس ما كان سقراط بالنسبة إلى أفلاطون أي وسيطاً، اسماً ينشر من خلاله فكره الخاص.

والرسول، شأنه شأن يوحنا المعمدان الذي سبقه، هو دلالة على شخص "أعظم منه"، حتى أنه يشعر بأنه غير أهل لأن يكون له رسولاً. إذاً، إن هذه الفرضية هي التشويه برمته، والإساءة الكبرى التي يمكن أن نرتكبها بحق القديس بولس. لو عاد إلى الحياة، لكانت ردة فعله الغيورة شبيهة بتلك التي صدرت عنه أمام ارتباك أهل كورنثوس المماثل: "أم أن بولس صلب لأجلكم، أو باسم بولس تعمدتم؟" (1 كور 1، 13).

أما العقبة الأخرى التي يجب أن نتجنبها نحن المؤمنين فإنها تكمن في التوقف عند عقيدة بولس عن المسيح، من غير الإنجذاب إلى محبته له واندفاعه نحوه. بولس يرفض أن يكون لنا مجرد شمس شتوية تنير ولا تدفئ. والغاية الواضحة من الرسائل ليست إرشاد القراء إلى المعرفة فقط، بل أيضاً إلى محبة المسيح والشغف به.

هذا ما تود أن تساهم فيه التأملات الثلاثة في زمن المجيء لهذه السنة انطلاقاً من تأمل اليوم الذي نفكر فيه حول اهتداء بولس، الحدث الذي كان له التأثير الأكبر على مصير المسيحية، يعد موت المسيح وقيامته.

1. اهتداء بولس من الداخل

إن التفسير الأفضل لاهتداء بولس هو ذلك الذي يقدمه هو بنفسه عندما يتحدث عن المعمودية المسيحية بالقول بأنه "قد تعمدنا اتحاداً بموت المسيح"، "ودفنا معه" لنقوم معه من بين الأموات، "ونسلك نحن أيضاً في حياة جديدة" (رو 6: 3، 4). لقد عاش بولس مجدداً سر المسيح الفصحي، الذي دار حوله لاحقاً كل فكره. ونلاحظ تشابهات مؤثرة على الرغم من أنها خارجية. لقد بقي يسوع ثلاثة أيام في القبر؛ وبقي شاول يعيش كالميت طيلة ثلاثة أيام: بقي لا يبصر ولا يأكل ولا يقوم ولا يستعيد قواه؛ من ثم تعمد وفي الحال أبصر وتناول الطعام واستعاد قوته وعاد إلى الحياة (أع 9، 18).

عقب عماده، خرج يسوع إلى الصحراء. كذلك خرج بولس إلى الصحراء العربية حول دمشق بعد أن تعمد على يد حنانيا. ويقدر المفسرون وجود صمت دام نحو عشر سنين في حياة بولس منذ الحدث الذي عاشه على طريق دمشق وبداية نشاطه العام في الكنيسة. وفيما كان اليهود يسعون إلى قتله، لم يكن المسيحيون يثقون به بعد وكانوا يخافون منه. ويذكرنا اهتداؤه باهتداء الكاردينال نيومان الذي كان إخوته الأنغليكان يعتبرونه خائناً، والكاثوليك ينظرون إليه بارتياب بسبب أفكاره المجددة والجريئة.

لقد مر الرسول بفترة طويلة من التدرب ولم يطل اهتداؤه سوى بضع دقائق. خلال هذه المدة التي أخلى فيها نفسه وعاش فيها الصمت، تمكن من حشد هذه الطاقة الفاعلة، هذا النور الذي سينصب يوماً على العالم.

يظهر عن اهتداء بولس وصفين مختلفين: أحدهما يروي الحدث الخارجي إذا صح القول من زاوية تاريخية؛ وآخر يعتبر الحدث الداخلي من زاوية نفسية وسيريذاتية. والنوع الأول هو الذي نجده في النصوص الثلاثة المختلفة التي نقرأها في أعمال الرسل. يمكننا أن نجد إشارات معينة على هذا الحدث من بولس عينه عندما يوضح كيف تحول من مضطهد إلى رسول المسيح (غل 1: 13، 24).

إلى النوع الثاني ينتمي الفصل الثالث من الرسالة إلى أهل فيليبي إذ يصف فيه الرسول المعاني التي حملها له لقاؤه مع المسيح شخصياً، ويصور ما كان عليه سابقاً وما أصبح لاحقاً، أي التغير الذي طرأ على حياته على الصعيدين الوجودي والديني. دعونا نتأمل بهذا النص الذي يمكننا أن نسميه قياساً بعمل القديس أغسطينوس، "باعترافات القديس بولس".

في كل تغيير، توجد نقطة بداية ونقطة نهاية. والرسول يصف بشكل خاص نقطة البداية أي ما كان عليه سابقاً:

"فإن خطر على بال أحد أن يعتمد على أمور الجسد، فأنا أحق منه: فمن جهة الختان، مختونٌ في اليوم الثامن من عمري؛ وأنا من جنس إسرائيل، من سبط بنيامين، عبراني من العبرانيين؛ ومن جهة الشريعة، أنا فريسي؛ ومن جهة الحماسة، مضطهد للكنيسة؛ ومن جهة البر المطلوب في الشريعة، كنت بلا لوم" (في 3: 4، 6).

يمكننا بسهولة أن نقرأ هذا الوصف بشكل خاطئ ، فهذه الصفات لم تكن سلبية لا بل كانت على العكس أسمى صفات القداسة آنذاك. مع هذه الصفات، لكنا باشرنا فوراً بدعوى تقديس بولس لو كان يعيش في زماننا الحاضر. فالأمر أشبه بقولنا اليوم عن أحد بأنه معمد من اليوم الثامن، ومنتمي إلى بنيان الخلاص بامتياز وهو الكنيسة الكاثوليكية، وعضو الفئة الدينية الأكثر تقشفاً في الكنيسة (الفريسيين سابقاً!)، ويعمل بحسب الشريعة بكل دقة…".

بالمقابل، توجد في النص نقطة تقسم صفحة بولس وحياته إلى قسمين، انطلاقاً من "لكن" إضرابية تخلق مفارقة شاملة:

"ولكن، ما كان لي من ربح، فقد اعتبرته خسارة، من أجل المسيح. بل إني أعتبر كل شيء خسارة، من أجل امتياز معرفة المسيح يسوع ربي؛ فمن أجله تحملت خسارة كل شيء، وأعتبر كل شيء نفاية، لكي أربح المسيح" (في 3: 7، 8).

ويرد اسم يسوع ثلاث مرات في هذا النص القصير. كما أن لقاء بولس مع يسوع قسم حياته قسمين متوسطاً إياهما. إنه لقاء شخصي جداً (هذا هو النص الوحيد الذي يستخدم فيه الرسول لفظة "ربي" وليس "ربنا")، ولقاء وجودي أكثر مما هو فكري. لن يعرف أحد أبداً ما حدث بالتحديد في هذا الحوار الموجز: "شاول، شاول!" "من أنت يا رب؟ أنا يسوع!". "وحي" بحسب قوله (غل 1: 15، 16). لقد كان اتحاداً متوهجاً، وشعاع نور ما يزال ينير العالم اليوم بعد مرور ألفي سنة.

2. اهتداء الروح

سوف نسعى إلى تحليل مضمون الحدث. فهو عبارة أولاً عن اهتداء الروح، وتغيير الفكر، والتوبة تحديداً.

إلى ذلك الحين، كان بولس يعتقد بأنه يستطيع أن يخلص نفسه ويكون صالحاً أمام الله بواسطة العمل بدقة بحسب الشريعة والتقاليد الأبوية. أما الآن، بات يفهم بأن الخلاص يتم على نحو مختلف. ويقول: لقد قبلت مقامي فيه "إذ ليس لي بري الذاتي القائم على أساس الشريعة، بل البر الآتي من الإيمان بالمسيح، البر الذي من عند الله على أساس الإيمان" (أف 3: 8، 9). لقد جعله يسوع يختبر شخصياً ما كان سيعلنه يوماً إلى الكنيسة جمعاء: التبرير بالإيمان (غل 2: 15، 16؛ رو 3، 21).

خلال قراءة الفصل الثالث من الرسالة إلى أهل فيليبي، تخطر في بالي صورة رجل يمشي في الليل في غابة كثيفة حاملاً شمعة خافتة النور، حريصاً على ألا تنطفئ؛ هو لا يتوقف عن المشي وها هو الفجر يبزغ، والشمس تشرق، ونور الشمعة الخافت يصبح شاحباً أكثر فأكثر إلى حين لا يعد يفيده فيرمي الشمعة. إن الفتيلة الصغيرة المشتعلة هي عدالته الخاصة به. وفي يوم ما من حياة بولس، أشرقت شمس العدالة، أي المسيح الرب، ومنذ ذلك الحين لم يعد يريد نوراً سوى نوره.

وهذا الأمر ليس مجرد تفصيل صغير بل إنه من قلب الرسالة المسيحية، وهو يحدده "كإنجيله" حتى أنه يتوصل إلى الإعلان بأن من يرغب في التبشير بإنجيل آخر، أكان ملاكاً أو هو نفسه، فليكن ملعوناً (غل 1: 8، 9). لم هذا التشديد؟ لأنه في هذا الأمر تكمن الحداثة المسيحية، ما يميزها عن جميع الديانات أو الفلسفات الدينية الأخرى. إن كل اقتراح ديانة يبدأ بالإملاء على الناس ما عليهم القيام به من أجل الخلاص وبلوغ "الإشراق". ولكن المسيحية لا تبدأ بالإملاء على الناس ما عليهم القيام به، بل ما قام به الله من أجلهم في يسوع المسيح. والمسيحية هي دين نعمة.

هناك مكان مخصص بالتأكيد للواجبات وحفظ الوصايا، التي هي بالأحرى استجابة للنعمة وليست علتها أو ثمنها. نحن لم نعرف الخلاص بالأعمال الحسنة ولكننا أيضاً لم نعرف الخلاص من غير الأعمال الحسنة. والأمر عبارة عن ثورة ما يزال يصعب علينا إدراكها بعد ألفي سنة. أما المناظرات اللاهوتية حول التبرير بالإيمان، منذ الإصلاح وحتى يومنا هذا، فقد أعاقت أكثر مما ساعدت إذ ساهمت فعلاً في إبقاء المشكلة على المستوى اللاهوتي، وفي المواضيع المتعارضة بدلاً من أن تساعد المؤمنين على اختبار البر في حياتهم.

3. "توبوا وآمنوا بالإنجيل"

ولكن لا بد لنا أن نطرح على أنفسنا سؤالاً أساسياً: "من ابتكر هذه الرسالة؟ إن كان القديس بولس، إذاً محق من يقول بأنه هو نفسه مؤسس المسيحية وليس يسوع. ولكنه ليس هو من ابتكر هذه الرسالة، إذ أن كل ما يقوم به هو التعبير بكلمات واضحة وعامة عن الرسالة التي كان يسوع يعبر عنها بأسلوبه الخاص المؤلف من تشبيهات وأمثلة.

لقد استهل يسوع تبشيره بالقول: "قد اكتمل الزمان، واقترب ملكوت الله. فتوبوا وآمنوا بالإنجيل!" (مر 1، 15). بهذه الكلمات كان يعلم البر بالإيمان. وقبله كانت التوبة تعني دوماً "الارتداد" (كما تشير إلى ذلك الكلمة العبرية "الرجوع"): إذاً كانت تعني العودة إلى التحالف الذي انتهك، من خلال العمل المتجدد بحسب الشريعة؛ وكان يقول الله من خلال الأنبياء: "توبوا إلي (…) توبوا عن طرقكم الشريرة وعن أعمالكم الشريرة" (زك 1: 3، 4؛ إر 8: 4، 5).

إذاً ينطوي الاهتداء على دلالة تقشفية وأخلاقية وتوبية. ويتم الاهتداء من خلال تغيير نمط الحياة ويعتبر شرطاً في عملية الخلاص: توبوا فتخلصوا؛ توبوا فيبصر كل منكم الخلاص. إنها أيضاً الدلالة الأساسية التي تنطوي عليها كلمة التوبة في فم يوحنا المعمدان (لو 3: 4، 6). ولكن هذه الدلالة الأخلاقية تصبح ثانوية في فم يسوع (على الأقل في بداية التبشير) بالنسبة إلى دلالة جديدة كانت غير معروفة آنذاك. وهنا نلمس التغيير الكبير الذي حصل بين تبشير يوحنا المعمدان وتبشير يسوع.

لم يعد يعني الاهتداء العودة إلى التحالف القديم والعمل بحسب الشريعة، بل المضي قدماً، والدخول إلى التحالف الجديد (المسيحية)، وإدراك هذا الملكوت الذي ظهر والدخول إليه بفضل الإيمان. "اهتدوا وآمنوا" لا تعني أمرين مختلفين ومتعاقبين، بل عملاً واحداً: اهتدوا أي آمنوا؛ اهتدوا من خلال الإيمان! ويقول القديس توما الأكويني: "يرتكز الاهتداء الأول على الإيمان".

لقد قام الله بمبادرة الخلاص: وجاء لنا بملكوته؛ فما على الإنسان سوى قبول عطاء الله في الإيمان وعيش مقتضياته لاحقاً. وهذا أشبه بملك يشرع باب قصره الذي أُعدت فيه مأدبة كبيرة. فيما يقف على عتبة الباب، يدعو جميع المارين إلى الدخول قائلاً: "تعالوا، كل شيء معد لكم!". هذه هي الدعوة التي تدوي في جميع أمثلة الملكوت: لقد حانت الساعة التي لطالما انتظرتموها، اتخذوا قرار الخلاص، ولا تضيعوا الفرصة!

ويقول الرسول الكلام عينه من خلال عقيدة التبرير بالإيمان. والفرق الوحيد يكمن في النتائج التي تمت في غضون ذلك بين تبشير يسوع وتبشير بولس: لقد نُبذ وقُتل تكفيراً عن آثام البشر. إن الإيمان في الإنجيل ("آمنوا بالإنجيل") يظهر اليوم كالإيمان "بيسوع المسيح"، "بدمه" (رو 3، 25).

وما يعبر عنه الرسول بالظرف "مجاناً" أو "بنعمته"، كان يسوع يقوله من خلال تشبيه قبول الملكوت كطفل أي كهبة، من غير الافتخار بالاستحقاقات، بل بالاعتماد فقط على محبة الله، كما يعتمد الأطفال على محبة أهلهم.

ومنذ وقت طويل، يبحث المفسرون متسائلين عما إذا كان يجب الاستمرار في التحدث عن اهتداء بولس: ويفضل البعض التحدث عن "الدعوة" بدلاً من الاهتداء. حتى أن البعض يريد إلغاء عيد اهتداء القديس بولس بما أن كلمة الاهتداء تشير إلى انفصال عن أمر معين وإنكاره، في حين أنه عندما يهتدي يهودي، يجب عليه وعلى خلاف الوثني ألا ينكر شيئاً، كما أنه لا يتحول من عبادة الأوثان إلى عبادة الله الحق.

أشعر بأننا أمام مشكلة خاطئة. أولاً ما من تعارض بين الاهتداء والدعوة: فالدعوة تستلزم الاهتداء ولا تحل مكانه كما أن النعمة لا تحل مكان الحرية. ولكننا رأينا بخاصة بأن الاهتداء الإنجيلي ليس فعل إنكار شيء وتراجع، بل قبول شيء جديد والمضي قدماً. لمن كان يسوع يوجهه كلامه: "اهتدوا وآمنوا بالإنجيل"؟ ألم يكن يكلم اليهود؟ والرسول يتحدث هن هذا الاهتداء عينه عندما يقول: "ولكن عندما ترجع قلوبهم إلى الرب، يُنزع الحجاب" (2 كور 3، 16).

وهنا يبدو لنا اهتداء بولس كنموذج الاهتداء المسيحي الحقيقي الذي يرتكز أولاً على قبول المسيح، و"الرجوع" إليه من خلال الإيمان. والاهتداء يعني "إيجاد" شيء قبل التخلي عن شيء آخر. يسوع لا يقول: باع رجل كل ما يملك، وذهب يبحث عن الكنز المدفون؛ ولكنه يقول: وجد رجل كنزاً فباع كل ما يملك.

4. تجربة معاشة

في وثيقة التفاهم بين الكنيسة الكاثوليكية والاتحاد العالمي للكنائس اللوثرية حول التبرير بالإيمان، التي أعلن عنها رسمياً يوحنا بولس الثاني ورئيس أساقفة أبسالا في بازيليك القديس بطرس سنة 1999، ترد توصية أخيرة تبدو لي بغاية الأهمية. وهي تقول باختصار بأنه حان الوقت لأن يعيش المؤمنون تجربة هذه الحقيقة الكبيرة وأن تتوقف عن كونها موضوع مناظرات لاهوتية بين الخبراء كما كان يحصل في الماضي.

تقدم لنا سنة القديس بولس فرصة سانحة من أجل عيش هذه التجربة. ويمكنها أن تزود حياتنا الروحية بحماسة جديدة وإلهام جديد وحرية جديدة. وقد روى شارل بيغي قصة أسمى فعل إيمان في حياته مستخدماً ضمير الغائب. ويروي لنا بأن رجلاً (نعلم جيداً بأنه هو هذا الرجل نفسه) كان له ثلاثة أولاد مرضوا جميعاً في يوم مشؤوم. واتخذ حينها قراراً بغاية الجرأة. من خلال إعادة التفكير قليلاً بهذا الأمر، فإنه كان معجب بذاته ولا بد من الاعتراف بأنها كانت محاولة جريئة فعلاً. إن ما قام به أشبه برفع ثلاثة أولاد لوضعهم في حضن أمهم أو مربيتهم التي قد تعترض ضاحكةً وتقول بأنها لا تملك القدرة على حملهم كلهم. فإنه بكل جرأة حمل أولاده الثلاثة المرضى من خلال الصلاة ووضعهم في حضن من تحمل كل آلام العالم قائلاً لها: "إنني أمنحك إياهم، أعود أدراجي وأمضي مسرعاً لكي لا ترديهم إلي. لا أريدهم بعد الآن، وأنت تدركين ذلك! يجب أن تهتمي بهم بنفسك" (إضافةً إلى استخدامه هذا المجاز، فقد قام برحلة حج مشياً على الأقدام من باريس إلى شارتر ليستودع أولاده الثلاثة المرضى إلى العذراء). بعد ذلك اليوم، جرت كل الأمور على ما يرام وبشكل طبيعي لأن العذراء القديسة كانت تهتم بذلك. إنه لغريب ألا يقوم جميع المسيحيين بهذه الخطوة. فالأمر بغاية البساطة إلا أننا لا نفكر أبداً بالأمور البسيطة.

إن ما يهمنا من هذه القصة هو فكرة المحاولة الجريئة لأن هذا ما يلزمنا. فالإيمان مفتاح كل شيء. ولكن هناك عدة أشكال من الإيمان: الإيمان المصدق للعقل، الإيمان الواثق، والإيمان الثابت، كما يسميه أشعيا (7، 9). ما هو الشكل الذي يتخذه الإيمان عندما نتحدث عن التبرير "بالإيمان"؟ إنه إيمان استثنائي: الإيمان المتملك!

دعونا نصغي إلى ما يقوله القديس برنار حول هذا الموضوع: "ما لا أستطيع الحصول عليه بنفسي، أستولي عليه وأنا واثق بجنب ربنا المطعون، لأنه كلي الرحمة. وبالتالي فإنني أستحق رحمة الله. لن أفتقر إلى الاستحقاق أبداً ما دام هو كثير الرحمة. إن كانت مراحم الرب كثيرة (مز 119، 156)، سأكون مستحقاً إياها. وماذا عن عدالتي؟ يا رب، لن أتذكر إلا عدالتك. وهي عدالتي بالفعل لأنك أنت عدالتي من عند الله". وقد كُتب بأن "المسيح يسوع جُعل لنا حكمة من الله وبراً وقداسةً وفداءً" (1 كور 1، 30). لقد جٌعل لنا وليس لنفسه!

لقد عبر القديس كيريلس الأورشليمي عن فكرة الإيمان هذه بكلمات مختلفة: "يا صلاح الله العجيب مع البشر! لقد كان الصالحون في العهد القديم يرضون الله من خلال مشقات سنسن طويلة؛ ولكن ما حصلوا عليه خلال خدمة طويلة وبطولية ترضي الله، يمنحكم إياه يسوع في ساعة واحدة. فإنك إن كنت فعلاً تؤمن بأن يسوع المسيح هو الرب وبأن الله أقامه من بين الأموات، فإن من أدخل لص اليمين إلى الملكوت، سيخلصك ويدخلك أنت أيضاً إليه".

ويكتب كاباسيلاس مطوراً تشبيهاً عن القديس يوحنا فم الذهب: تخيل بأن قتالاً ملحمياً دار في مدرج. وواجه فيه رجل شجاع طاغية قاسٍ وهزمه بعد كلل وألم كبير. أنت لم تقاتل، ولم تعرف الكلل ولا الجراح. ولكنك إن اُعجبت بهذا الرجل الشجاع، إن فرحت معه بالانتصار الذي حققه، إن ضفرت له الأكاليل وشجعت على مساندته، إن انحنيت بفرح أمام المنتصر وقبلت جبينه وصافحته؛ باختصار إن أحببته كثيراً لدرجة أنك اعتبرت انتصاره انتصاراً لك، أقول لك بأنك ستحصل بالتأكيد على نصيبك من جائزة المنتصر.

ولكن هذا ليس كل شيء: افترض بأن الغالب لا يحتاج أبداً إلى الجائزة التي ربحها بل يرغب أكثر من أي شيء بأن يتم تكريم مؤيده وأن تكون جائزة قتاله تكليل صديقه. في هذه الحالة، ألا يحصل هذا الرجل على الإكليل حتى ولو لم يعرف الكلل ولا الجراح؟ بالطبع يحصل عليه! إذاً، هذا ما يحصل بيننا وبين المسيح. حتى لو لم نقاتل ونعاني بعد، حتى لو لم نملك بعد أي استحقاق، فإننا نهتف بالإيمان بقتال المسيح، ونستحسن انتصاره، ونكرم جائزته التي هي الصليب ونعبر له عن محبتنا الملتهبة والفائقة الوصف؛ ونجعل من هذه الجراح وهذا الموت جراحنا وموتنا. هكذا يكون لنا الخلاص.

سوف تتحدث ليتورجية عيد الميلاد عن "التبادل المقدس"، Sacrum commercium الذي يحصل بين الله وبيننا ويتحقق في المسيح. أما قاعدة كل تبادل فيتم التعبير عنها بالصيغة التالية: ما لي هو لك، وما لك هو لي. وما هو لي أي الخطيئة والضعف يصبح للمسيح؛ وما هو للمسيح أي القداسة فإنه يصبح لي. ويقول كاباسيلاس: بما أننا لسنا ملكاً لأنفسنا بل ملكاً للمسيح (1 كور 6: 19، 20)، فإن قداسة المسيح تنتمي إلينا أكثر من قداستنا. هذا هو الاندفاع الجديد في الحياة الروحية. ونحن بشكل عام لا نكتشفه في البداية بل في نهاية مساره الروحي، عندما نكون قد مشينا في جميع المسالك الأخرى واكتشفنا بأنها لا تأخذنا بعيداً.

في الكنيسة الكاثوليكية، نملك الأسرار كوسيلة ذي امتياز لنختبر يومياً تجربة هذا التبادل المقدس والتبرير بالنعمة على أساس الإيمان. في كل يوم أتلقى سر المصالحة، أختبر فعلياً تبريري بالإيمان، والفعالية الأسرارية ex opere operato، كما نسميها في اللاهوت. أذهب إلى الهيكل وأقول لله: "يا الله، أن الخاطئ" وكالعشار أعود إلى بيتي "مبرراً" (لو 18، 14)، مسامحاً، وتشع روحي كما أشعت عندما تعمدت.

فليمنحنا بولس في هذه السنة المكرسة له النعمة لنقوم على مثاله بعمل الإيمان المندفع.

ترجمة وكالة زينيت العالمية (Zenit.org)