تطور العلوم يقاس بتطور الاحترام المطلق لقدسية الكائن البشري في كل مراحل حياته

تأملات على هامش توجيه "كرامة الإنسان" لمجمع عقيدة الإيمان

بقلم روبير شعيب

الفاتيكان، الثلاثاء 16 ديسمبر 2008 (Zenit.org). –  كل مرة تقوم الكنيسة بتقديم توجيهات خلقية في أي إطار من إطارات الحياة الخاصة والعامة، تنهال عليها انتقادات من يعتقد بأن دور الكنيسة ينحصر في مساعدة المؤمنين على عيش حياتهم "الروحية" الخاصة مع الرب. ولذا، انطلاقًا من هذا المبدأ، يتم اعتبار أي خطاب كنسي يتطرق إلى مشكلات خلقية، أو سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية، كشذوذ عن تعليم المسيح وعن مجال كفاءة الكنيسة.

ولكن إذا ما اعتبرنا أن الحياة الروحية ليست مرادفًا للحياة المجردة والتجريدية، بل هي حياة الإنسان بحسب روح الله الذي يسبر كل شيء، فلا بد أن يكون للمؤمن نظرته الإيمانية للسياسة، وللأخلاق، ولأدب الأحياء، ولكل ما هو بشري.

فالسياسة والطب وكل أبعاد العيش لها وقعها على الإيمان، ومن الضرورة بمكان أن يكون للإيمان كلمته المرتكزة على كلمة الله، على العقل (اللوغوس) السليم، لكي تتوجه حياة المؤمن بشكل عقلاني، ويكون المؤمنون قادرون أن يقدموا حجة الرجاء الذي فيهم (راجع 1 بط 3، 15). والكنيسة لا تتدخل في الإطار الخاص للسياسة أو العلوم الطبية بحد ذاتها، بل تذكر جميع الأشخاص بالمسؤولية الأخلاقية والاجتماعية التي تنطوي عليها أفعالهم.

يتضمن القسم الأول من توجيه "كرامة الشخص. في بعد مسائل أدب الأحياء" الذي أصدره مجمع عقيدة الإيمان، عناصر هامة يحسن بالمؤمن الإلمام بها في معالجته لمشكلات أدب الأحياء المعاصر.

تم تقديم التوجيه، الذي يحمل توقيع الكاردينال وليم ليفادا، عميد مجمع عقيدة الإيمان، ورئيس الأساقفة لويس لاداريا، أمين سر المجمع عينه، نهار الجمعة الماضي في دار الصحافة الفاتيكانية.

أهداف التوجيه

يأتي التوجيه في الذكرى العشرين لإصدار المجمع توجيه "هبة الحياة"، والذي يحافظ على آنيته من حيث تقديمه للمبادئ الكاثوليكية الأساسية، ولكنه يحتاج إلى إيضاح وتجديد بعض وجهاته، نظرًا للتقدم الذي أحرزه طب الأحياء في الأزمنة الأخيرة وخصوصًا على صعيد أكثر مسائل الحياة حساسية والتي تحمل في طياتها أسئلة إضافية حول الغائية الشفائية، وإطار الطبابة التجريبية.

وعبّر التوجيه عن المبدأ الذي يقود كل تفكيره: "يجب الاعتراف بالكرامة الشخصية التي يتمتع بها كل كائن بشري من الحمل وحتى الموت الطبيعي"، لافتًا إلى أن أهمية هذا المبدأ تعود إلى كونه تعبير عن النَعَم للحياة البشرية الذي يجب أن يكون في محور البحث في طب الأحياء، والذي يلبس أهمية كبرى في عالم اليوم.

وأوضحت الوثيقة أن الكنيسة الكاثوليكية تتوصل إلى استنباط المبادئ والقيم الأخلاقية حول أبحاث طب الأحياء المتعلقة بالحياة البشرية "على ضوء العقل والإيمان على حد سواء، مسهمة في صياغة نظرة متكاملة للإنسان ولدعوته، قادرة على قبول كل الخير الذي ينبثق من إنجازات البشر والتقاليد الثقافية والدينية، التي غالبًا ما تعبر عن احترام كبير للحياة".

ولفتت إلى أن "الكنيسة تنظر برجاء إلى البحث العلمي، متمنية أن يلتزم عدد كبير من المسيحيين بالعمل على تقدم طب الأحياء، والشهادة لإيمانهم في هذا الإطار"، كما وتتمنى أن يكون للمناطق التي ضربها الفقر والأوبئة شركة في المنافع الإيجابية التي تحملها هذه الأبحاث والتطورات العلمية.

وأخيرًا، "تريد الكنيسة أن تكون قريبة من كل شخص يتألم بالجسد والروح، لكي تقدم لا التعزية وحسب، بل النور والرجاء اللذين يضفيان معنى حتى على أوقات المرض، وعلى خبرة الموت، التي هي عمليًا جزء من حياة الإنسان، والتي تطبع تاريخه، فتشرع أبوابه على سر القيامة".

الأبعاد الأنتروبولجية، اللاهوتية والأدبية للحياة والتناسل البشري

 عبّر التوجيه عن تقديره للتقدم الذي أحرزه علم الأحياء في السنوات الأخيرة، لأن تقدم العلوم "يحمل معه تطورات إيجابية تستحق الدعم، خصوصًا عندما يفيد في معالجة الأمراض والعاهات، ويسهم في إصلاح خلل فعل التناسل وإعادته إلى حالته الطبيعية"، ولكن هذه الاكتشافات "تضحي سلبية عندما تؤدي إلى القضاء على كائنات بشرية وتستعمل وسائل تهين كرامة الشخص البشري".

وأكدت الوثيقة صحة المبدأ الذي يقدمه توجيه "هبة الحياة" لمجمع عقيدة الإيمان (1988): "تتطلب ثمرة التناسل البشري منذ اللحظة الأولى لوجودها، أي انطلاقًا من تكوين اللاقحة، الاحترام اللامشروط الذي يتوجب نحو الكائن البشري في كليته الجسدية والروحية. يجب احترام الكائن البشري ومعاملته كشخص منذ لحظة الحبل به، وبالتالي، انطلاقًا من تلك اللحظة يجب الاعتراف بحقوقه كشخص، ومن بين هذه الحقوق يقوم قبل كل شيء الحق المصون لكل كائن بشري بريء بالحياة".

واعتبرت أن هذا المبدأ الأخلاقي يجب أن يكون أساسًا لأي تشريع قانوني، لأنه يرتكز على حقيقة ذات طابع أنطولوجي تنطلق من "استمرارية تطور الكائن البشري" في مختلف مراحل نموه. وبالرغم من أنه لا يمكن التوصل إلى اكتشاف حضور النفس الروحية انطلاقًا من البحوث المخبرية، إلا أن "علوم الجنين عينها تقدم إشارة ثمينة لتمييز عقلاني للحضور الشخصي بدءًا من ظهور الحياة البشرية الأولي هذا".

"كل كائن بشري يستحق الاحترام، لأنه يحمل بشكل لا يمحى معالم كرامته وقيمته الشخصية"، والإطار الأصيل لهذه الكرامة البشرية هو "الزواج والعائلة، التي يأتي فيها الطفل ثمرة للحب المتبادل بين الرجل والمرأة".

ما لا يناقض الإنسان لا يناقض الإيمان

 هذا وعبّر توجيه "كرامة الإنسان" عن قناعة الكنيسة بأن "كل ما هو إنساني لا يقبله ويحترمه الإيمان وحسب، بل يقوم هذا الأخير بتطهيره والسمو به وتكميله". فالله، بعد أن خلق الإنسان على صورته فمثاله، اعتبر خليقته "جيدة جدًا" لدرجة أنه أرسل ابنه لكي يأخذ هذه الطبيعة البشرية بالذات. وابن الله، في سر تجسده، صادق على كرامة الجسد والنفس الذين يشكلان الكائن البشري. "لم يحتقر المسيح الجسدانية البشرية بل كشف لها معناها وقيمتها الكاملة"، بحيث صرح المجمع الفاتيكاني الثاني أنه "فقط في سر الكلمة المتجسد يستنير حقًا سر الإنسان". وقد صار المسيح إنسانًا لكي نتمكن نحن أن نصير "أبناء الله" (يو 1، 12)، و "شركاء في الطبيعة الإلهية" (2 بط 1، 4).

انطلاقًا من هذين البعدين البشري والإلهي للدعوة الإنسانية، نفهم قيمة الشخص البشري التي لا يجب انتهاكها. فالكائن البشري التاريخي يتمتع بدعوة أبدية إلى "الشركة في الحب الثالوث للإله الحي. وهي قيمة تنطبق على الجميع دون تمييز". فالوجود بحد ذاته هو معوّل الاحترام المطلق لكل كائن بشري.

وانطلاقًا من بعدي الحياة هذين، البعد الطبيعي والبعد الفائق الطبيعة، "يمكننا أن نفهم بشكل أفضل معنى الأفعال التي تسمح للكائن البشري أن يأتي إلى الوجود، والتي من خلالها يهب الرجل والمرأة أحدهما ذاته للآخر، فيكونا انعكاسًا للحب الثالوثي".

وأوضح التوجيه في ختام القسم الأول أن الكنيسة "لا تتدخل في الإطار الخاص للعلوم الطبية بحد ذاتها، بل تذكر جميع الأشخاص بالمسؤولية الأخلاقية والاجتماعية التي تنطوي عليها أفعالهم، مذكرة أن "القيمة الأخلاقية لعلم طب الأحياء تقاس تبعًا للاحترام اللامشروط الواجب نحو كل كائن بشري، في كل لحظات وجوده، وأيضًا انطلاقًا من حماية خصوصية الأفعال الشخصانية التي تنقل الحياة"،

وعليه، فتدخل السلطة التعليمية في الكنيسة يدخل في إطار رسالة كنيسة المسيح في تعزيز تنشئة الضمائر، وتعليم حقيقة المسيح بأصالة، وفي الوقت عينه، إعلان المبادئ الأخلاقية النابعة من الطبيعة البشرية بالذات، بالسلطة الموكلة إلى هذه الكنيسة.