كلمة غبطة البطريرك الأنبا أنطونيوس نجيب بمناسبة عيد الميلاد المجيد

                  باسم الآب والابن والروح القدس ، الإله الواحد . آمين .

 

من الأنبا أنطونيوس نجيب ،
بنعمة الله ، بطريرك الإسكندرية للأقباط الكاثوليك ،
إلى إخوتنا المطارنة ، وأبنائنا القمامصة والقسوس ،

والرهبان والراهبات والشمامسة ،

وإلى جميع أبناء الكنيسة القبطية الكاثوليكية ،

على أرض الوطن ، وفى بلاد الانتشار .

 

" والكلمة صار بشرا ، وعاش بيننا " ( يوحنا 1 : 14 )

 

يسعدنا أن نحتفل فى هذه الليلة المباركة بعيد ميلاد السيد المسيح له المجد . ويتميّز عيد الميلاد فى كل أنحاء العالم ، بجو خاص من الفرح والابتهاج ، فتتلألأ الأنوار وتنتشر الزينات ، وتكثر لافتات التهانى ، وتجتمع العائلات ويلتقى الأصدقاء ويتبادلون الهدايا ، ويخصّون بها الأطفال . هذه هى المظاهر الخارجية .

 

أما من جهة الإيمان فعيد الميلاد أعمق من ذلك بكثير . إنه الاحتفال بتجسّد الابن ، الكلمةِ الأزلى ، الذى شاء فى حبّه اللامتناهى أن يصير واحدا منا : " والكلمة صار بشرا ، وعاش بيننا " . وحَّد فى شخصه بين الأبدى والزمنى ، بين المطلق والمحدود . أراد أن يختصر المسافة بينه وبيننا ، لأنها كانت تمنعنا من التقرّب إليه بالحب . هذا الحب هو ما يريد طفلُ المغارة أن يعلنه لنا . قبل التجسّد كان للناس تصورات مختلفة عن الله . ولكنها كانت كلها قاصرة ً وبعيدة عن التصوّر الحقيقى والصحيح . فأراد هو نفسه أن تقترب إلينا ، لنقتربَ نحن إليه . ولهذا تجلـّى لنا فى رقـّة طفل صغير ، وأخلى ذاته ليتحد بطبيعتنا .

 

صار الكلمة بشرا ، طفلا رقيقا ، ليوقظ أفضل وأسمى ما فى الإنسان : القدرةَ على أن يعطى ، ويبذلَ ذاته ، ويحب . ففى ذلك يصبح الإنسان شبيها بالله . صار الكلمة الأزلى شبيها بالإنسان ، ليصير الإنسان شبيها به . لا يعرف طفل المغارة أن يتكلم بَعد . ولكنه ، مثل كل طفل ، يثير الحب والاهتمام والتضحية . هذه هى رسالة الميلاد . ويوضـّحها ما جاء فى إنجيل القدّيس لوقا عن ميلاد السيد المسيح ، كما سمعناه الآن (لوقا 2 : 1 – 20 ) .

 

ملائكة السماء مُرسَلون من الله ، ليعلنوا عهدَ الله مع الناس ، منشدين : "المجد لله فى الأعالى ، وعلى الأرض السلام ، وللناس المسرّة " . لقد انفتحت السماء للبشر . الله يتنازل للقائنا فى شكل طفل صغير . ومعه يولد رجاء عظيم لعالم الإنسان … والمذود الذى التجأت إليه مريم ويوسف ، هو أيضا علامة ٌ على تواضع الكلمة الأزلى ، الذى لم يشأ أن يظهر مُحاطا بالعظمة والغِنى . بل تحلـّى بالضعف والفقر ، ليلتقى بنا فى كل أوجه وأوضاع ضعفنا وفقرنا . والفندق الذى رفض مريمَ ويوسف ، رمزٌ لكل ما يصدر من الناس فى رفضهم لحضور الله فى حياتهم ، ولكلمته ووصاياه . هو إشارة لما سيجده يسوع من رفض واضطهاد من الكثيرين المقاومين له طوال حياته الأرضية ، بل وعلى مدى الأجيال .

 

وهكذا يظهر ، منذ لحظة ميلاده ، موقف الناس من السيد المسيح . سيقبله البعض ، ويرفضه الآخرون . ولكنه دائما حاضرٌ ، يعلن ويجسّد حبَّ الله اللامتناهى للإنسان . من أجل ذلك صار الكلمة بشرا ، وعاش بيننا . أراد أن يعيش حياتنا البشرية ، ليجعل منا أبناء لله ، ليرفعنا إليه ويُشركنا فى حياته . جاء ليُخرجَنا من انغلاقنا ، ويفتحَ قلوبَنا لله ولإخوتنا . رسالة الميلاد هى رسالة حب وسلام ورجاء لجميع الناس :" المجد لله فى العُلى ، وفى الأرض السلام ، وللناس المسرّة ".

 

على مثال الرعاة ، كلنا مدعوون إلى مغارة يسوع ، لنضعَ عنده همومَنا وأتعابنا وآمالنا . سيقول لنا : : تعالوا إليَّ ، يا جميع المـُتعَبين والرازحين تحت أثقالكم ، وأنا أريحكم " ( متى 11 : 28 ) . ونحن مدعوون أن نحمل إليه أيضا همومَ وأثقالَ إخوتنا البشر . لأن طفل المغارة جاء ليمنح الخلاص للعالم كله .

                            

فى هذه الليلة المباركة ، ترتفع صلواتنا من أجل كل الذين يعانون الآلام ، والعُزلة ، ومن أجل المرضى ، والعاطلين ، والمهمَّشين . فلتكن هذه المناسبة الدينية فرصة ً لنحمل لإخوتنا هؤلاء الفرحَ ودفءَ المودّة . فلنذهب لزيارتهم ، ولا ننسى المستشفيات ، والسجون ، وبيوت المسنـّين ، وأصحاب الاحتياجات الخاصة ، والأرامل والأيتام ، وكلَ مَن يحتاجُ معونة وحبا . يريد الله أن يولد الحب فى كل قلب . يريد أن يهب السلام والمحبة لكل أبناء البشر . فلنكن إذا زارعى حب وصانعى سلام ، مع كل إنسان وفى كل مكان . وهذا ما تسعى أن تصنعه الكنيسة بلا توقف فى مسيرة التاريخ .

 

وفى هذا السياق أودّ أن أشرككم فى ثلاثة أحداث هامة ، عاشتها الكنيسة الكاثوليكية مؤخرا من أجل هذا الهدف ، وسعدتُ بأن أشترك فيها .

 

ففى شهر أكتوبر الماضى ، انعقد فى الفاتيكان مجمعُ الأساقفةِ العام الثانى عشر ، عن " كلمة الله فى حياة ورسالة الكنيسة " ، برئاسة قداسة البابا بندكتوس السادس عشر . اشترك فيه مائتان وثلاثة وخمسون من البطاركة والكرادلة ورؤساء الأساقفة والأساقفة ، يمثـّلون جميع الأساقفة الكاثوليك فى العالم . وكذلك مائة وخمسون آخرون من الأخصائيين ، والمستمعين ، وممثلى الكنائس غير الكاثوليكية . ودام المجمع ثلاثة أسابيع .

 

واحتفل قداسة البابا بقدّاس الأحد للافتتاح ، وقدّاس ِ الأحد للختام . وبينهما احتفل فى الأحد الثانى بقداس أعلن فيه قداسة أربعة أشخاص : كاهن ٍ إيطالى ، وسيدة من الإكوادور بأمريكا الجنوبية ، وراهبة من سويسرا ، وراهبة من الهند وهى الأخت ألفونسينا ، أول ِ إمرأة من الهند تـُرفع إلى مصاف القداسة . وقد أسعدنى أن أشترك فى هذا المجمع وهذه الاحتفالات ، ممثلا لكنيستنا القبطية الكاثوليكية . وقد دعا المجمعُ إلى أن تكون كلمة الله فى أساس الحياة والخدمة . كما ناشد الأديان والشعوب والحضارات أن يتقاربوا ويتلاقوا ويتحابوا .

 

وكان الحدث الثانى فى شهر نوفمبر ، وهو المؤتمر العالمى السنوى الثانى والعشرون من أجل السلام ، الذى نظـّمته مؤسسة سانت إيجيديو فى قبرص . ضمّ المؤتمر حوالي 2500 شخص ، يمثلون الأديان والحضارات والبلاد المختلفة . وكان من الرائع حقا أن يلتقى هؤلاءُ جميعا ، فى جو تميّز بالمودّة والأخوّة ، وبالحوار الصريح والهادىء والبنـّاء ، يستمعون بعضُهم إلى بعض باحترام وتقدير . وفى الختام ، وجّه المؤتمر نداءً إلى بُناء عالم يسوده السلامُ والأخوّة والتعاون .

 

أما الحدث الثالث فكان فى شهر نوفمبر أيضا فى لبنان ، فى مقر غبطة البطريرك الكاردينال مار بطرس نصرالله صفير ، بطريرك الموارنة ، وهو الاجتماع السنوى الثامنُ عشر لبطاركة الشرق الكاثوليك . وكان موضوعه " القديس بولس رسول الأمم لعالم اليوم فى الشرق " . وتضمّن بيانه الختامى هذه الكلمات : " إننا نسأل الله تعالى أن يمنح كلَّ بلداننا ، الاستقرار الذى يتيح لها أن تنموَ نموّا طبيعيا ، وأن تزدهرَ بإيمان جميع أهلها ، وبمحبّتهم بعضهم لبعض ، وبتعاونهم لتعزيز أوطانهم ، فتتوفـّرُ فيها لجميع المواطنين حياة ٌ كريمة ومطمئنة ".

 

ولا نظنُ أن هذه الاجتماعات واللقاءات تمر بدون ثمرة . ونظرا لضيق الوقت ، أودّ أن أتوقف فقط عند ثمارها فى مجال الحوار الدينى . لعلنا نتذكر الخطابَ الذى وجّهه مائة وثمانية وثلاثون ، من رجال الدين المسلمين فى العالم ، فى 13 أكتوبر 2007 ، إلى قداسة البابا بندكتوس السادس عشر ورؤساء الكنائس الأخرى ، تحت عنوان : " تعالوا إلى كلمة سَواء بيننا وبينكم " . وكان دعوة ً إلى الحوار حول محبة الله ومحبة القريب … لقد رحّب قداسة البابا بهذه الدعوة ، وتمت لقاءات تمهيدية بين ممثلين لهذه المجموعة وممثلين للفاتيكان . ومن الرابع إلى السادس من نوفمبر ، التقى فى روما وفد يضم ثلاثين من كل جانب ، لحوار تميّز بالمودّة والصراحة فى مناخ من التفاؤل والرجاء .

وسبق هذا اللقاءَ مؤتمرٌ للحوار الدينى ، نظـّمه العاهل السعودى جلالة الملك عبدالله آل سعود ، فى مدريد باسبانيا ، من 16 إلى 18 يوليو 2008 . واشترك فيه وفدٌ من الفاتيكان ومن الكنائس الأخرى ، وممثلون للديانة اليهودية … وفى يومي 11 و 12 نوفمبر 2008 ، عقدت هيئة الأمم المتحدة فى نيويورك ، مؤتمرا لحوار الأديان والثقافات ، تحت عنوان " ثقافة السّلام " ، اشترك فيه ممثلون للأديان والدول ، وتوّج أعماله ببيان ختامي ، حمل إسم "إعلان نيويورك"، أكّد فيه على الأهداف والمبادئ الواردة في ميثاق الأمم المتّحدة ، والإعلان ِ العالمي لحقوق الإنسان … هذه المبادراتُ البنـّاءة على المستوى العالمى ، هى دفعة قوية لنا لنسلكَ نفسَ السبيل ، فنلتقىَ فى مودّة وإخاء ، ونتعاونَ فى سلام ووئام … هكذا يتحقق نشيد الملائكة فى ليلة الميلاد : " وفى الأرض السلام " . إنه عطش البشرية الدائم للسلام .

 

فى هذا المساء المبارك ، نرفع قلوبنا وصلواتنا إلى الله ، فى اتحاد مع قداسة البابا بندكتوس السادس عشر وإخوتنا البطاركة والأساقفة . نلتمس من الله تعالى أن يمنَّ بالسلام على العالم ، لتنتهىَ الحروبُ والصراعات ، ويتوقفَ العنف والإرهاب ، ويسودَ الهدوء الأمان  . إننا نتطلع إلى عام جديد سعيد لجميع البشر ، ولا سيما لجيراننا الأعزاء : العراق ، وفلسطين ، والسودان ، والكنغو ، والصومال، ولكل البلاد التى يعانى أهلها من الحروب والنزاعات . ونلتمس شفاعة أم النور وأم طفل المذود ، مريم العذراء ، لكى يسودَ الحبُ مجتمعَنا البشرى .

 

ونرفع إلى رئيسنا الجليل محمد حسنى مبارك ، كلَ شكرٍ وتقدير . ونصلى أن يمنحه اللهُ القدير القوّة والعمر الطويل ، وأن يكلل بالنجاح كل مساعيه من أجل السلام والرخاء ، فى وطننا الحبيب مصر . فليحفظه الله قائدا لمسيرة النهضة والحرية والعدالة … كما نصلى من أجل كل المسئولين . سدّد الله خطاهم ، وحفظ قواتنا المسلحة ، وحفظ مصر سالمة آمنة ومباركة .

 

" المجد لله فى الأعالى ، وعلى الأرض السلام ، وللناس المسرّة "