العظة الثالثة للأب كانتلاميسا في زمن المجيء

روما، الأربعاء 24 ديسمبر 2008 (Zenit.org).

ننشر في ما يلي النص الكامل لعظة زمن المجيء الثالثة التي ألقاها الأب رانييرو كانتلاميسا الكبوشي، واعظ الدار الحبرية، صباح الجمعة 19 ديسمبر في كابيلا أم الفادي في الفاتيكان بحضور البابا بندكتس السادس عشر وأعضاء الكوريا الرومانية.

"لما جاء تمام الزمان، أرسل الله ابنه، وقد ولد من امرأة"

1-   بولس وعقيدة التجسد

دعونا نبدأ مرة أخرى بالإصغاء إلى نص بولس الذي سنتأمل فيه:

"ولكن لما جاء تمام الزمان، أرسل الله ابنه، وقد ولد من امرأة وكان خاضعاً للشريعة، ليحرر بالفداء أولئك الخاضعين للشريعة، فننال جميعاً مقام أبناء الله. وبما أنكم أبناءٌ له، أرسل الله إلى قلوبنا روح ابنه، منادياً: "أبا، يا أبانا". إذن، أنت لست عبداً بعد الآن، بل أنت ابنٌ. وما دمت ابناً، فقد جعلك الله وريثاً أيضاً". (غل 4: 4، 7).

سوف نسمع كثيراً هذا النص البيبلي خلال فترة الميلاد، ابتداءً من صلوات الغروب الأولى في احتفال الميلاد. دعونا نتكلم أولاً عن منطوياته اللاهوتية. إنه نص يشبه كثيراً في الوثائق البولسية فكرة الوجود القبلي والتجسد. وترد فيه فكرة "البعث" ("أرسل الله ابنه") بالتوازي مع بعث الروح الذي يتم ذكره بعد آيتين، من أجل التذكير بما قيل في العهد القديم حول بعث الحكمة والروح القدوس من عند الله إلى العالم (حك 9: 10، 17). هذه المقاربات تشير إلى أن هذا البعث لم يكن بعثاً "من الأرض"، كما هو الحال مع الأنبياء، بل بعثاً من أعالي "السماوات".

وتبرز ضمنياً فكرة الوجود القبلي للمسيح في النصوص البولسية حيث يجري الحديث عن دور المسيح في خلق العالم (1 كور 8، 6؛ كول 1: 15، 16)، وعندما يقول بولس أن الصخرة التي تبعت الشعوب في الصحراء كانت المسيح (1 كور 10، 4). كما تبرز ضمنياً فكرة التجسد في التسبيح المسيحي في الفصل الثاني من الرسالة إلى أهل فيليبي: "وهو الكائن في هيئة الله، أخلى نفسه، متخذاً صورة عبد".

لكن لا بد من الإدراك بأن بولس يعتبر الوجود القبلي والتجسد حقيقتين قيد الصوغ لم تكتملا بعد. ذلك لأنه يعتبر بأن محور الاهتمام ونقطة انطلاق كل شيء يتمثلان في السر الفصحي أي في عمل الخلاص أكثر من شخص المخلص. خلافاً ليوحنا الذي يعتبر بأن نقطة الانطلاق ومركز الاهتمام هما حقاً الوجود القبلي للمسيح والتجسد.

إذاً، هناك "طريقتان" أو سبيلان مختلفان من أجل اكتشاف حقيقة يسوع المسيح. إن السبيل الأول الذي يتبعه بولس ينطلق من البشرية وصولاً إلى الألوهية، من الجسد لبلوغ "الروح"، من تاريخ المسيح وصولاً إلى وجوده القبلي. أما السبيل الثاني الذي يعتمده يوحنا، فإنه يسلك الدرب المعكوسة إذ ينطلق من ألوهية الكلمة وصولاً إلى إثبات بشريته، ومن وجوده الأزلي انحداراً إلى وجوده الزماني. إذاً يعمل أحد السبيلين على ربط المرحلتين في قيامة المسيح من بين الأموات فيما يرى الآخر التحول من حالة إلى أخرى من خلال التجسد.

منذ ذلك الحين، يميل السبيلان إلى الاتضاح بإتاحة الفرصة أمام نموذجين أو مثالين وصولاً إلى مذهبين مسيحيين: المذهب الأنطاكي الذي يرجع إلى بولس بامتياز، والمذهب الإسكندري الذي يتعلق أكثر بيوحنا. ولكن ما من أحد من مؤيدي السبيلين أراد الاختيار بين بولس ويوحنا لأن كل واحد مقتنع بوجودهما معاً إلى جانبه. وعلى الرغم من صحة هذا الأمر إلا أن تأثيرات الاثنين واضحة وقابلة للتمييز تماماً كنهرين يلتقيان معاً إلا أنهما يُعرفان من اختلاف لون مياههما.

ينعكس هذا الاختلاف مثلاً في التفسير المختلف الذي يقترحه المذهبان حول إخلاء النفس الوارد في الفصل الثاني من الرسالة إلى أهل فيليبي. منذ القرنين الثاني والثالث وصولاً إلى التفسير المعاصر، ترتسم قراءتان مختلفتان لهذا النص. وفقاً للمذهب الإسكندري، إن ابن الله الموجود قبلاً في ألوهيته هو موضوع التسبيح الأساسي. وبالتالي فإن إخلاء النفس في هذه الحالة يرتكز على التجسد، على تأنس الله. ووفقاً للمذهب الأنطاكي، فإن موضوع التسبيح الأساسي في التسبيح منذ البداية وحتى النهاية هو المسيح التاريخي، يسوع الناصري. في هذه الحالة يقوم إخلاء النفس على الانحدار أي على اتخاذ صورة عبد في طاعته حتى الآلام والموت.

لا ينشأ عن الاختلاف بين المذهبين أن البعض يتبع بولس والبعض الآخر يتبع يوحنا؛ لا بل أن البعض يفسر يوحنا على ضوء بولس، والبعض الآخر يفسر بولس على ضوء يوحنا. فالاختلاف إذاً هو في الإطار أو الخلفية المعتمدين في إظهار سر المسيح. ولا بد من القول بأن النقاط الأساسية في عقيدة الكنيسة ولاهوتها التي ما يزال يُعمل بها حتى اليوم تكونت من المقارنة بين هذين المذهبين.

2-   "وقد ولد من امرأة"

إن الصمت النسبي حول التجسد يشمل لدى بولس صمتاً شبه تام حول مريم، أم الكلمة المتجسدة. وتشكل العبارة المعترضة "وقد ولد من امرأة" إشارة واضحة إلى مريم نجدها في المدونات البولسية. وهي نظيرة العبارة الأخرى: "جاء من نسل داود من الناحية البشرية" (رو 1، 3). على الرغم من رهافة قول الرسول، إلا أنه بالغ الأهمية إذ يشكل أحد محاور المعارضة للظهور الغنوصي انطلاقاً من القرن الثاني. ويقول فعلاً بأن يسوع ليس ظهوراً سماوياً لأنه بولادته من امرأة، اندمج بالكامل في البشرية والزمان "صائراً شبيهاً بالبشر" (في 2، 7). ويكتب ترتوليانوس: "لمَ نقول أن المسيح إنسان، إن لم يكن قد ولد من مريم المخلوقة البشرية؟" (1). وبعد التفكير ملياً، نجد أن عبارة "وقد ولد من امرأة" أكثر ملاءمة من صفة "ابن الإنسان" من أجل التعبير عن إنسانية المسيح الحقيقية. لأننا لو تناولنا هذا الموضوع حرفياً لوجدنا بأن يسوع ليس ابن الإنسان لأن أباه ليس بشرياً في حين أنه حقاً "ابن امرأة".

سيكون أيضاً النص البولسي في محور النقاش حول صفة أم الله (theotokos) في النزاعات اللاهوتية التالية. وهذا يفسر سبب وروده في الليتورجية كقراءة ثانية في قداس الاحتفال بالقديسة مريم أم الله في الأول من يناير.

هنا لا بد من الإشارة إلى التفصيل التالي بأنه لو قال بولس: "وقد ولد من مريم"، لكان مجرد ذكر لحدث سيري. إلا أنه في قوله "وقد ولد من امرأة"، قد أعطى هذا الإعلان أهمية كبيرة وشاملة. إنها المرأة عينها، كل امرأة قد سمت في مريم إلى ارتفاع عجيب. مريم هنا هي المرأة بامتياز.

3-   "ماذا يجديني ميلاد المسيح من مريم؟"

إننا نتأمل في النص البولسي مع اقتراب حلول الميلاد وبروح "القراءة الإلهية". لا نستطيع التوقف كثيراً عند العنصر التفسيري، ولكننا بعد أن تأملنا في الحقيقة اللاهوتية الموجودة في النص البيبلي، لا بد لنا من استخلاص الإرشادات منها في حياتنا الروحية، بتسليط الضوء على أن كلمة الله منحت "لأجلي".

وتقول جملة أوريجانوس التي كررها القديسان أغسطينوس وبرناردوس، ولوثر وآخرون: "ماذا يجديني ميلاد المسيح مرة من مريم في بيت لحم، إن لم يولد أيضاً بالإيمان في روحي؟" (2). وتتحقق أمومة مريم الإلهية على الصعيدين الجسدي والروحي. مريم هي أم الله ليس فقط لأنها حملت به جسدياً في أحشائها بل أيضاً لأنها حملت به أولاً في قلبها بالإيمان. من المستحيل أن نتشبه بمريم في الجانب الأول من خلال ولادة المسيح مجدداً، إلا أننا نستطيع التشبه بها في الجانب الثاني، من ناحية إيمانها. يسوع نفسه هو أول من أطلق عليها اسم "أم المسيح" في الكنيسة عندما أعلن: "أمي وإخوتي هم الذين يسمعون كلمة الله ويعملون بها" (لو 8، 21؛ مر 3، 31؛ مت 12، 49).

لقد شهدت هذه الحقيقة في التقليد مستويين متتامين من التطبيق، أحدهما رعوي والآخر روحي. نجد في الحالة الأولى بأن هذه الأمومة تتحقق في الكنيسة جمعاء "كسرّ شامل من الخلاص"، وفي الحالة الثانية نلمس أنها تتحقق في كل فرد مؤمن أو نفس مؤمنة.

لقد قام الطوباوي إسحاق دي ستيلا وهو كاتب من القرون الوسطى، بجمع هذه المسائل. ويقول في عظة شهيرة قرأناها في ليتورجية الساعات السبت الفائت: "إن مريم والكنيسة هما أم والعديد من الأمهات؛ عذراء والعديد من العذارى. كلتاهما أم وكلتاهما عذراء… هذا لأن ما قيل بشكل عام في الكتاب المقدس الموحى من الله عن الكنيسة العذراء والأم ينطبق على مريم العذراء والأم. وما قيل عن مريم بأنها العذراء الأم ينطبق على الكنيسة العذراء الأم… وفي النهاية، تصبح كل نفس مؤمنة على طريقتها عروس كلمة الله، أم المسيح وابنته وأخته، عذراء وولود في آن معاً" (3).

والمجمع الفاتيكاني الثاني يضع نفسه في المنظور الأول عندما يقول: "الكنيسة… تصبح أماً بنفسها. إنها من خلال التبشير والعماد تؤتي إلى الحياة الجديدة والأبدية أبناءً حمل بهم الروح القدس وولدهم الله" (4).

دعونا نركز على التطبيق الفردي لكل نفس، ويكتب القديس أمبرواز: "إن كل مسيحي مؤمن يحمل بكلمة الله ويلدها. وإن كانت للمسيح أم واحدة بحسب الجسد، فإن المسيح بحسب الإيمان هو ثمرة الجميع، جميع من يصغي إلى كلمة الله" (5). ويكرر أب مشرقي قول القديس أمبرواز: "يلد المسيح دوماً على شكل سري بالروح، متجسداً في أولئك المخلصين. كما يجعل من النفس التي تلده أماً عذراء" (6).

كيف نصبح عملياً أماً ليسوع؟ لقد أشار إلينا بذلك يسوع نفسه في الإنجيل عندما قال: بالإصغاء إلى إلى كلمة الله والعمل بها (لو 8، 21؛ مر 3، 31؛ مت 12، 49). في سبيل فهم هذا الأمر، دعونا نفكر بالطريقة التي أصبحت مريم أماً من خلالها وهي الحمل بيسوع وولادته في العالم. في الكتاب المقدس، يتم التشديد على هذين الحدثين، ويقول أشعيا: "ها إن العذراء تحبل وتلد ابناً"، ويقول الملاك لمريم: "ستحبلين وتلدين ابناً".

هناك أمومتان غير مكتملتين أو نوعان من قطع الأمومة. أحدهما قديم ومعروف يحصل في الإجهاض عندما يتم الحمل بحياة من غير ولادتها أي عندما يموت الجنين لأسباب طبيعية أو بسبب ذنوب البشر. حتى الفترة الأخيرة، كان الإجهاض الحالة الوحيدة المعروفة في الأمومة غير المكتملة. أما اليوم، فهناك حالة أخرى تقوم بالعكس على ولادة طفل من غير الحمل به. وهذا ينطبق على الأطفال المولودين في الأنبوب والموضوعين لاحقاً في احشاء امرأة؛ وعلى الرحم "الممنوح" مقابل المال من أجل إيواء حياة بشرية تم الحمل بها في مكان آخر. في هذه الحالة، من تضعه المرأة في العالم ليس منها ولا تحبل به "أولاً في قلبها من ثم في جسدها".

يبرز مع الأسف هذان النوعان المحزنان من الأمومة غير المكتملة على الصعيد الروحي أيضاً. إن من يحمل يسوع ولا يلده هم الذين يصغون إلى الكلمة ولا يعملون بها، والذين يكثرون من الإجهاضات ويعدون للاهتداء الذي يتخلون عنه في منتصف الطريق. إنهم ينظرون إلى الكلمة "كمن ينظر إلى المرآة ليشاهد وجهه فيها. وبعد أن يرى نفسه، يذهب، فينسى صورته حالاً. (يع 1: 23، 24). إنهم باختصار أصحاب الإيمان لا الأعمال.

بخلاف ذلك، إن من يلد المسيح من غير الحمل به هم الأشخاص الذين يقومون بالعديد من الأعمال الحسنة غير النابعة من القلب ومن محبة الله والنية الصافية بل من العادة والرياء والسعي وراء المجد الذاتي والمصلحة الخاصة أو ببساطة من الشعور بالرضى الذي يمنحه القيام بهذه الأعمال. إنهم باختصار أصحاب الأعمال لا الإيمان.

ويلخص القديس فرنسيس الأسيزي إيجابياً أمومتنا الفعلية تجاه المسيح بالقول: "نحن أمهات المسيح، عندما نحمله في قلوبنا وأجسادنا بالمحبة وبنقاء الضمير والإخلاص له. نحن نلده من خلال الأعمال الجيدة التي تكون للآخرين مثالاً… وكم هو مقدس وعزيز، سار ومتواضع، مسالم، عذب، محب ومروم أن يكون لنا أخ مماثل وابن مماثل، ربنا يسوع المسيح!" (7). يقول لنا القديس بأننا نحمل يسوع عندما نحبه بصدق القلب وباستقامة الضمير، ونلده عندما ننجز الأعمال الحسنة والمقدسة التي تظهره للعالم.

4-   عيدا الطفل يسوع

قام القديس بونافنتورا، تلميذ "الفقير الصغير" (القديس فرنسيس الأسيزي) وابنه الروحي بجمع هذا الفكر وتوسيعه في كتيب بعنوان "أعياد الطفل يسوع الخمسة". يروي في المقدمة أنه في يوم من الأيام وفيما كان منعزلاً يصلي في جبل فيرنا، أعاد التفكير في أقوال آباء الكنيسة التي تعتبر أنه بإمكان النفس المخلصة لله أن تحمل روحياً بالكلمة المباركة وابن الله الأوحد، من خلال نعمة الروح القدس وقدرة العلي، وتلده وتسميه وتبحث عنه وتعبده مع المجوس وتقدمه أخيراً بفرح إلى الله الآب في هيكله (8). من بين الأوقات أو الأعياد الخمسة للطفل يسوع التي يجب أن تعيشها النفس، نهتم أولاً بالعيدين الأولين: الحبل والولادة. ويعتبر القديس بونافنتورا أن النفس تحمل يسوع عندما يتم إخصابها روحياً بنعمة الروح القدس وتحمل نية بدء حياة جديدة، بعد أن تشعر بعدم الرضى عن الحياة التي تعيشها، وتتقوى بالإلهامات المقدسة وتلتهب بحماسة مقدسة، وتتخلى عن عاداتها وشوائبها القديمة،. حُبل بالمسيح!

بعد الحبل به، يلد ابن الله المبارك في القلب بعد أن تكون النفس قد ميزت جيداً وطلبت المشورة وابتهلت معونة الله، وبدأت فوراً بالعمل بمشيئته المقدسة، انطلاقاً من القيام بما كانت ترمي إليه منذ زمن بعيد ولكنها كانت تؤجله خوفاً من عدم القدرة على القيام به.

ولكن لا بد من التشديد على أن هذه النية بعيش حياة جديدة يجب أن تُترجم فوراً بشكل ملموس من خلال تغيير خارجي وواضح في حياتنا وعاداتنا. إن لم يُعمل بالمشيئة، يتم الحمل بيسوع ولكنه لا يولد. وبالتالي يصبح ذلك أحد الإجهاضات الروحية الكثيرة التي تمنعنا من الاحتفال "بالعيد الثاني" للطفل يسوع وهو عيد الميلاد! هذا التأجيل هو أحد الأسباب الرئيسية لعدم وجود الكثير من القديسين.

إن أردت تغيير نمط عيشك والانتماء إلى جماعة الفقراء والمتواضعين الذين يهتمون فقط على مثال مريم بإيجاد نعمة الله من غير الاكتراث لإرضاء البشر، فيكتب القديس بونافنتورا بأنه عليك أن تتسلح بالشجاعة التي سوف تحتاجها. كما يجب عليك أن تواجه نوعين من التجربة. أولاً سوف يقف البشر أمامك ويقولون لك: "إن ما تقوم به صعب جداً بحيث أنك لن تتمكن من القيام به لأنك لا تملك القوة وسوف تعرض صحتك للخطر؛ هذه الأمور لا تناسب وضعك في المجتمع، سوف تشوه سمعتك وشرف عملك…"

عندما تكون قد تخطيت هذا العائق، يأتي إليك أشخاص معروفون – لربما بحق – بتقواهم وورعهم، إلا أنهم لا يؤمنون فعلاً بقدرة الله وروحه، ويقولون لك أنك لو بدأت هذا النمط من العيش – بتخصيص وقت كبير للصلاة، وتجنب المشاركة في الأقاويل المؤذية والأحاديث الفارغة، والقيام بالأعمال الخيرية – سوف يعتبرونك قديساً، رجلاً ورعاً وروحياً. وبما أنك تعلم جيداً بأنك لست كذلك بعد، فإنك سوف تخدع الناس وتصبح مرائياً، كما ستسبب لنفسك توبيخ الله لك لأنه يعرف قلبك.

أمام هذه التجارب، لا بد لنا من الرد بإيمان: "إن يد الرب لا تقصر عن الخلاص!" (أش 59، 1) والشعور بالاستياء من أنفسنا مع القول على مثال القديس أغسطينوس قبيل اهتدائه: "إن نجح هؤلاء الرجال والنساء في الوصول إلى هذا المرام، فلمَ لا أنجح أنا أيضاً في ذلك؟" (9).

5. "نَعَم" مريم

إن مثال أم الله يُظهر لنا على نحو ملموس ما يجب أن نقوم به من أجل إضفاء حماسة جديدة إلى حياتنا الروحية، ومن أجل حمل يسوع وولادته فينا في عيد الميلاد. لقد استجابت مريم إلى الله "بنَعَم" حازمة وتامة. ونشدد كثيراً على "نعم" مريم، على مريم بصفتها عذراء الـ "نعم". لكن مريم لم تكن تتكلم اللاتينية وهي لم تقل fiat، كما أنها لم تقل genoito الكلمة المستخدمة في نص لوقا اللاتيني لأنها لم تكن تتكلم اليونانية.

وإن كان من المشروع الرجوع من خلال تأمل ورع، إلى الصوت ipsissima vox، الكلمة الدقيقة التي خرجت من فم مريم – أو إلى الكلمة الموجودة في المصدر العبري الذي استعمله لوقا –  فلا بد من أن تكون هذه الكلمة "آمين". وقد استخدمت "آمين" – الكلمة العبرية التي يعني جذرها الرسوخ والثقة – في الليتورجية كاستجابة إيمان لكلمة الله. وفيما كنا نقرأ في ختام بعض المزامير fiat, fiat أي "نعم، نعم" في الترجمة اللاتينية للكتاب المقدس، فإننا نقرأ الآن في الترجمة الجديدة للنصوص الأصلية: آمين، آمين. وهذا ينطبق أيضاً على الكلمة اليونانية genoito, genoito أي "نعم، نعم" عندما نقرأها في ختام المزامير عينها في الترجمة السبعينية، وتعني أصلاً في العبرية: آمين، آمين!

مع كلمة "آمين" ندرك بأن ما قيل راسخ وحازم وملزم. والترجمة الدقيقة تكون: "فليكن لي بحسب قولك" عندما يتعلق الأمر بالاستجابة إلى كلمة الله. وهذا ما يدل على الإيمان والطاعة ويقر بأن ما يقوله الله صحيح وجدير بالطاعة. إنها الاستجابة لله من خلال قول "نعم". وهذا ما يقوله يسوع بنفسه: "نعم أيها الآب، لأنه هكذا حسن في نظرك" (مت11، 26). إنها الحق المجسد :"إليك ما يقوله الحق…" (رؤ 3، 14)، وفيه، كما يقول بولس، كل "النعَم" التي قيلت على الأرض تصعد إلى الله (2 كور 1، 20).

في معظم اللغات البشرية، يتألف التعبير عن القبول والرضى من كلمة ذات مقطع واحد (si, ja, oui, da). إنها الكلمة الأقصر في مجموع الكلمات ولكنها الكلمة التي يستخدمها الزوجان والأشخاص المكرسون في اتخاذ قرار حياتهم الأبدي. ففي وقت معين من طقس النذر الرهباني والسيامة الكهنوتية، تُقال "النَعَم".

تجدر الإشارة إلى الفارق الدقيق في آمين مريم. ففي اللغات المعاصرة، نستخدم الصيغة الدلالية للإشارة إلى أمرحدث في الماضي أو سيحدث في المستقبل، والصيغة الشرطية للإشارة إلى أمر قد يحدث في ظل شروط معينة، إلى آخره. ولليونانية صيغة خاصة بها تسمى صيغة التمني. وهذه الصيغة نستخدمها عندما نريد التعبير عن التمني بحدوث أمر أو التلهف إليه. والفعل الذي يستخدمه لوقا “genoito” هو تماماً ضمن هذه الصيغة!
يقول القديس بولس أن "الله يحب المعطي المتهلل" (2 كور 9، 7) وقد قالت مريم "النعم" إلى الله بتهلل. فلنسألها أن تحصل لنا على نعمة قول "نعم" متهللة ومتجددة لله لكيما نحمل نحن أيضاً ابنها يسوع المسيح ونلده في العالم في عيد الميلاد!

ملاحظات

(1)            ترتوليانوس حول التجسد De carne Christi، 6،5، (2، ص. 881).

(2)            أوريجانوس، تفسير إنجيل لوقا، 22، 3 (فصل 87، ص. 302).

(3)            إسحاق دي ستيلا، Discorsi 51، (Pl 194, 1863s.).

(4)            نور الأمم 64.

(5)            القديس أمبرواز، شرح إنجيل لوقا، II، 22، (32، 4، ص. 55).

(6)            القديس مكسيموس المعترف، تفسير الأبانا (90، 889).

(7)            القديس فرنسيس الأسيزي، الرسالة إلى المؤمنين، 1 (Fonti Francescane) رقم 178.

(8)            القديس بونافنتورا، أعياد الطفل يسوع الخمسة، المقدمة (Quaracchi 1949) ص. 207.

(9)            القديس أغسطينوس، اعترافات، VIII، 8، 19.  

ترجمة وكالة زينيت العالمية (Zenit.org)