عظة عيد السلام لأسقف حلب للموارنة

المطران يوسف أنيس أبي عاد

حلب، 6 يناير 2009 (Zenit.org).

ننشر في ما يلي عظة المطران يوسف أنيس أبي عاد رئيس أساقفة حلب للموارنة بمناسبة قداس يوم السلام العالمي في حلب وقد حضر في نهاية القداس سماحة الشيخ بدر الدين حسون مفتي الجمهورية العربية السورية
* * *

– أصحاب السيادة الأجلاء.
– أيها الكهنة الأحباء والراهبات الفاضلات.
– ويا أيها المؤمنون الأعزاء.

إننا نحيي في قداسنا هذه الساعة، يوم السلام العالمي. كلمتي تتناول رسالة قداسة البابا بندكتوس السادس عشر وعنوانها: "محاربة الفقر يعني السلام"، ثم انتقل من بعدها إلى تحقيقات عملية.
يوجّه قداسة البابا كلامه إلى العالم كله، فيعدّد أشكال الفقر، مبتدئاً بالفقر المادي فالفقر الأدبي والفقر النفسي. فهناك شعوب فقيرة والناس الأفقر فيها يعيشون فقراً مُدقعاً… وفي الشعوب الغنية فقر مادي أيضاً وتكثر في حالات الارتباك والضياع، كما أن هنا وهناك فقر أدبي- أخلاقي لا يقل شراً عن الفقرين الأولين.
لا يتأتى الفقر من النمو الديموغرافي كما يزعم البعض، فهناك بلدان غنيّة بالولادات وهي ذات مستوى معيشي لائق.
تبقى أسباب متعددة يذكر قداسته بعضاً منها، ينوّه بحلول لها:
فهناك أولاً: وجود الأوبئة المتفشية في المجتمعات فمنها القديم ومنها الحديث، مثل الملاريا والسل والايدز… فيمكن للبشرية أن توفر لها الأدوية اللازمة والعلاجات الضرورية… وللإيدز بنوع خاص، فمن الملح محاربة هذا الدمار بتربية جنسية أخلاقية اجتماعية تتجاوب مع كرامة الشخص الإنساني وعنفوانه.
2ً: ويتأتى الفقر أيضاً من الأزمات الغذائية الراهنة، فسُوء التغذية يُسبب أضراراً جسدية ونفسية خطيرة ويساهم في توسيع هوّة عدم المساواة، ومن ثمَّ في تفجير ردود فعل قَتَّالة. ونحن نعلم أن الأغذية وصناعتها المتطورة متوفرة في عصرنا، فأين التوزيع العادل المُحب؟.
و3ً: فقر ناتج عن ازدياد مستوى النفقات العسكرية العالمية مما يتطلب سعياً دؤوباً لوضع حد للمنازعات التي تريد من التسابق على التسلح.
4ً: ولا يسعنا إلا أن نشير إلى الأزمة الاقتصادية الراهنة التي ضربت الدول الكبرى بنوع خاص، ووصلت إلينا بعض رواسبها فبدأت تتأثر سلباً بها مؤسساتنا الصناعية بمديريها وموظفيها وعمالها وعائلاتهم.
ومن مدلولات هذه الأزمة الكاسحة، التركيز على الاتجار بالمال أكثر وأكثر، تركيزاً يفوق تقويم عمل ذوي الاختصاص وبخاصة عمل العمال بحيث لا يشعرون أنهم منتجون حقاً أو فاعلون مثل غيرهم في محيطهم أو مُحترَمون أو مُقدرّون من خلال مساهمتهم الفعالة في بناء حياة أفضل للجميع
5ً: ولا يخفى عن بالنا أن عالم الأطفال هو المتضرر الأكبر من حالات الفقر. فنصف الأطفال في العالم هم بحاجة ماسة إلى كل شيء… محاربة هذا الفقر الذي يطال مستقبل البشرية جمعاء، تقضي باعتماد طرق تربوية صحيحة، وتأمين العلاج للأمهات، وتوفير اللقاحات والأدوية ومياه الشرب النظيفة، والالتزام بالدفاع عن العائلة. فحيت تضعف العائلة تقع الأضرار لا محالة على الصغار.
إزاءَ هذا كله وُجب إيجاد تعاضد شامل بين الدول الغنية والفقيرة على المستويين الاقتصادي والقانوني واحترام المؤسسات الدولية الحالية، وإيجاد مؤسسات أُخرى دولية ومكانية، قادرة على ضبط التوازن في الأسواق المالية وتوجيه العولمة الجديدة لتحقيق مصلحة الأسرة، واحترام أسعار المواد الأولية لدى الدول التي في طور النمو.
2- تحقيقات عملية
تُجاه هذا الواقع فما يمكننا نحن أن نفعل؟ هل نكتفي بسرد الوقائع ونقول: ذلك لا يخصنا؟
لسنا بوارد الأجابة على مجمل هذه القضايا الكبرى المطروحة، لكن هناك أمور كبيرة وصغيرة. نُحب التوقّف عندها لأنها تتعلق بنا مباشرة على مستوى البلد ككل وفي مجتمعاتنا الكنسية، فعيشها والبركة يساهم في صنع السلام.
1- على مستوى البلدِ ككل:
ظهر في المدة الأخيرة مقال في جريدة الوطن لكاتبه "خورشيد ولي" بعنوان"2008 عام سورية" وفيه يُفنّد ما صار في العام المنصرم من أحداث ومواقف مُشرفّة حاملةً بذور سلام، ومحققةً لما يصبو إليه شعبنا في هذه الديار العزيزة:
يقول صاحب المقال:"إنه في مطلع العام الفائت نجحت سورية في عقد القمة العربية في عاصمتها دمشق وفي المكان والزمان المحددّين لها… وكانت لها أيضاً اليد الطُولى في اتفاق الدوحة بين الأطراف اللبنانية وإعادة روح الوشائج الاجتماعية والعلاقة المتجذرة بين الشعبين عبر التاريخ والجغرافيا… وتمت انطلاقة جديدة في العلاقات السورية الفرنسية، وصار نجاح أيضاً في التعامل مع الأحداث المتأزمة مع دول الخارج بعقلية دبلوماسية متخطية الوقوع في ردود الفعل والانفعال، إلى ما هنالك…"
هذا ولسنا ننسى الالتزام الفعلي لسورية العزيزة مع دول الجوار التي مازالت تعاني من القهر والدمار والقطيعة وحتى الانهيار… ونذكر منها العراق الشقيق المعذَّب منذ سنوات، والشقيقة فلسطين وبخاصة مدينة غزة التي ما دامت جراحها تنزف بغزارة إلى اليوم من جراّء الهجمات العسكرية الضارية، وما ذلك إلّا لأنها رفضت بعنف إغلاق معابرها الحيوية…
نقول إن هذا كله كان بأغلبيته على الصعيد السياسي، إنما ألم يكن له أبعادُ سلام في حياة الدول المعنية وفي أسارير مواطنيها جميعهم، والفقراء منهم بنوع خاص؟
والفضل في ذلك يعود إلى حاسة سلامية وأخوية عند الشعب السوري بأكمله، ويعود بخاصة إلى المسؤولين عندنا وعلى رأسهم رئيس البلاد الدكتور بشار الأسد الذي نذكره اليوم خصيصاً في صلاتنا ونطلب له دوام الصفاء والعزم والصمود.

2- وفي كنائسنا المحلّية
وبالنظر إلى مجتمعنا المسيحي، أودُّ أن أُلفت ألإنتباه إلى أمرين مهمين، ألا وهماز: المشاركة الفعلية وفاعلية الصلاة.

1" المشاركة الفعلية:
تبدأ المشاركة الفعلية في زيارات الناس التفقدية والعفوية إلى بعضهم البعض… زيارة من قبل الأهلين إلى أولادهم والأولاد إلى ذويهم، وبخاصة إلى المسنين منهم للاطلاع على حاجاتهم والمكوث معهم وتعزيتهم في شيخوختهم عملاً بالوصية الرابعة: "أكرم أباك وأمك"… وفي الكنيسة أصبح من الضروري زيارة الأسقف والكاهن بطريقة متواترة إلى أبناء رعيتهم والتعرف إليهم عن كثب وإنماء العلاقات الشخصية والرعوية، والاطلاع على أوضاعهم ومعايشتهم في فقرهم وغناهم وفي همومهم وأفراحهم، وتقديم الخدمة لكل فرد من أفراد العائلة والتمتع بالوجود في حضرتهم وبجمالات يرونها عندهم أو يسمعونها منهم، ويحثونهم بالتالي ويشجعونهم على الانفتاح نحو الآخرين والتعاون مع بعضهم البعض في شتى الأمور الحياتية مُركزين انتباههم على المرضى والمعوزين وحاجاتهم.
وإن قلنا ذلك فإننا لا ننسى ما في كنائسنا والحمد لله من نشاطات روحية رسولية ثقافية واجتماعية، يرعاها قُسسُنا الأفاضل ويضحون بالكثير في سبيلها، فتبدو مفخرةً لمدينتنا، ولكن ذلك أيضاً يتطلب منّا ومنهم حضوراً ليس فقط في مقر الأخويات حيث تتم الاجتماعات، بل وبالذهاب إلى البيوت وأماكن العمل والترفيه أحياناً وميادين النشاطات.
وما دمنا في موضوع بناء السلام، فلنتكلم عن زيارة الغني إلى الفقير والفقير إلى الغني وذلك للتخفيف من حدّة الفوارق الاجتماعية التي تطغى أحياناً على علاقاتنا الاجتماعية وتخلق تمايزاً يذهب أحياناً إلى حد التفرقة. فالغني، وبخاصة في محيط الأقليات هو بحاجة إلى الفقير لكي يتقوى به، والفقير بحاجة إلى الغني من أجل إيجاد العمل وتقييم طاقته الخاصة، واحترام كرامته الإنسانية.
ولا يغيب عن بالنا أن عيش التضامن بين أبناء الكنيسة من شانه أن يخفف عند الكثيرين التوق إلى الهُجرة، ويقّرب المؤمنين إلى بعضهم، ويساهم، بعيداً عن التشنجات، في بناء أسرةٍ مسيحية، منسجمة، متكاملة، مُحبَّة.
وبودنا أن تكون كنائسنا حاملة سلام وبهجة إلى المؤمنين الذين في المجتمعات الإسلامية، وأن نحيا المشاركة وإياهم، كما ومع سائر جماعات المتعلمنين وغير المبالين، إذ لا حاجز أمام روح الله الذي لا ينسى أحداً من مخلوقاته، ويطلب إلينا أن نتضامن معهم ومع فقرائهم، فيما نقدّر الملتزمين منهم بأعمال الرحمة والعدل والمحبة.
2 ً فاعلية الصلاة
بعض الناس يتكلمون عن الصلاة ونشعر كأنهم يهزأون فيقولون "اتركوها لضعفاء النفوس والصغار". وعندنا أن الصلاة هي العمل الأهم والأخطر في آن
ففي أيقونة التجلي على جبل طابور، نرى الرسل الثلاثة منبطحين على أرضٍ مشققة… ما هذا؟ أليس يعني ذلك أن الوجود في حضرة الله مؤلم ومخيف، وأن الشقوق في الأرض توحي بشقوق ما، في حياة الجاثم أمامه تعالى. فعندما يخاطب الرب المصلي ويرفعه إليه، فهل ما يزال هو هو أم يُصبح هو غيرَه؟ إذ يحس وكأن ذاته تتفسَّخ ولا يمكنه‘ إلا بنعمة منه تعالى‘ أن يحافظ على وحدة شخصيته.
هذه هي الصلاة في ذروتها… إنها حضور في الله يلازمها شعور بالخوف والاضطراب أمام العزة الإلهية، وإحساس بنوع من الانقسام الداخلي… ففي الصلاة إذاً عناء ومعاناة… والنفس المصلية تشبه حبة الحنطة التي متى وقعت في الأرض تتشقق قبل أن تعطي ثمارها الواحدة مائة أو ستين أو ثلاثين.
فرح الصلاة غالباً ما يأتي بعد الصلاة، ويُعبِّر عن سلام وارتياح- عن حالة شخص مات وقام…وعن إنسانٍ جديد ينظر إلى ذاته وإلى العالم نظرة ملؤها الرضى والحب والانسجام الكلي.
يقول القديس فرنسيس الأسيزي:" عندما تدخل إلى الصلاة ارمِ همّك وضيمك أما الله، فالناس عندما تعود ينتظرون فرحك".
فإذا صليّت من أجل شخص ما، عادياً كان أم مسؤولاً كبيراً، فأنت تتدخل بالخير في حياته. إنما لا، لستَ أنت، بل روح الله الذي كنتَ فيه ومعه هو الذي يتدخل، أنت لا تدري ما يتم للآخر أثناء الصلاة وبعدها ولأنك محبوب من الله، فالله يسمعك ويتأثر بالمحبة التي تحبه بها والصلاة هي من عمل المحبة تجاه الله… محبة هي في الأصل صادرة منه ومتأججة في صدرك، وهذا أيضاً من فضل ربك، لأنه خلقك خلاقاً، ويجمع عملك بعمله لكي يُتم في العالم عمل الخلق وتكون أنت نفسك إلى حدٍ ما مشاركاً فيه.
فلا تقل بعد: أي تأثير لي ولجماعتي في صنع أي سلام، أو أي شفاء أو أي خير… بل قل إن صلاتي وبخاصة تلك المتحدة بذبيحة الابن الخلاصية وبنعمة الروح القدس، بإمكانها أن تصل إلى قلبه القدوس فيستجيب لها ويعمل عمله المقدس في النوايا والضمائر والنفوس وداخل القضايا المهمة والبسيطة في آن…
ويسرّنا أنه في سورية، هناك الكثيرون ممن يصلّون، وصلاتهم، لا شك، مسموعةن وفاعليتها جدّية، إنما تبقى سراٍ في قلب الله.
وبالرجوع إلى موضوع الفقر وبناء السلام، نقول إن الإنسان هو أفقر ما يكون في حالة الصلاة الحارة، وأغنى ما يكون في هذه الحالة نفسها.
وفي هذه الحالة عينها تستطيع أن تماشي الفقير بفقره، وتتألم معه والرب بجانبك، وتخفف من معاناته كما ويمكنك أن تحاكي قلب الغني فيسعى إلى الغنى بالله ويقوى على متابعة جهوده الكثيفة، فتنجح أشغاله، ويفرح بأعمال الخير والعدل والتضامن.
* * *
أيها الأخوة الأحباء
إننا نتأهل بكم جميعاً، وبأصحاب السيادة المطارنة ورؤساء الطوائف الأجلاء والقُسس والرهبان والراهبات وكل المؤمنين. وما صلاتنا هذا المساء ونحن مجتمعون إلى المائدة الإلهية إلاّ لكي تؤجَّج فينا اللهفة نحو فقرائنا وفقراء العالم الذين إليهم يجب أن تذهب "محبتنا الفضلى"… فنعمل جاهدين مع فاعلي السلام لكي تتحسن أوضاعهم، غارفين لنا ولأولادنا ولو نثرةً من نعمةٍ خاصة أغدقها الله عليهم، نعمةٌ عبّر عنها المسيح الرب بقوله: "طوبى للفقراء"
ولله المغني الجميع برحمته وبركاته الحمد والشكر من الآن وإلى الأبد.