كلمة البطريرك طوال لمؤتمر اللاهوت والكنيسة المحلية في الأرض المقدّسة

القدس، الاثنين 26 يناير 2009 (ZENIT.org).

ننشر في ما يلي الكلمة التي وجهها بطريرك القدس للاتين، غبطة فؤاد طوال، لمؤتمر اللاهوت والكنيسة المحلية في الأرض المقدّسة، والتي نشرت أيضاً على موقع البطريركية في القدس.

أصحاب الغبطة والسيادة ،

الآباء الأفاضل ، الأخوات الراهبات،

سيّداتي آنساتي سادتي،

طلب منّا سيّدنا ومخلّصنا يسوع المسيح أن نكون له شهودا في المدينة المقدسة والجليل والسامرة ومنطقة يهوذا – ونزيد : وقطاع غزة وفي الأردن والى جميع أقاصي الأرض (عن أعمال الرسل 1 : 7 وتابع). عند حلول الروح على السيدة العذراء مريم والرسل الأطهار والتلاميذ في القدس. وازدهرت بين اليهود والامميين وكانت في سلام تتقدم في مخافة الله وحظوة الشعب. وتألق فوق هذه الديار المقدسة نور الصليب الكريم المحيي. وما نسي المسيحيون أن شعارهم الصليب ورجاءهم القبر الفارغ حتّى ذكرتنهم الدول المتعاقبة والأحداث المتلاحقة – في حلوها ومُرّها – بهذه الحقيقة.

ودارت عجلة التاريخ وأمسى المسيحيون المحليون نفرا في بلاد المسيح قليلا. وبخلاف وصية المسيح ودعائه أن يكون أتباعه بأجمعهم واحدا ، مزّقت الانقسامات ثوب يسوع الواحد.

مع النسوة في الإنجيل، ومع الكثير من الحجاج، نسال أنفسنا ونسأل رؤساء الأديان: أين وضعتموه ؟

ومنذ الثلاثينات من القرن الماضي تجسد تهديد خطير للوجود الفلسطيني وللوجود المسيحي الفلسطيني ، وذلك بسعي اليهود إلى الهيمنة على هذه البلاد المقدسة والإقامة فيها بدل المواطنين الأصليين وليس بجانبهم. ونعرف كلنا تاريخ النكبة والنكسة الأليم. واليوم ، وكأن ما سبق ما كان كافيا – أصبحنا نخشى على الوحدة الإقليمية والوطنية. علاوة على ذلك غالباً ما كان اهتمام الغرب بالشرق يهدف إلى اقتطاع أعداد جديدة من المسيحيين الشرقيين وتأسيس كنائس جديدة، أثبتت الخبرة فيما بعد أنها لم تكن الأسلوب الأمثل لإعادة الوحدة المرجوة بين كنيسة الشرق والغرب.

من الافكار المغلوطة المدمّرة التي ألمت بعدد من أبنائنا توهمهم أو "اقتناعهم" بأنهم غرباء في هذه الأرض ، وان "هاي البلاد مش النا! وقد خابت آمالهم وكثرت آلامهم وتداعت أحلامهم وحلّ واقع جدران وحواجز وحوادث مؤسفة عند البعض محل تطلعات مشروعة في الوحدة والتعاون والسيادة وتقرير المصير في خدمة الله والوطن والانسان. ولجأ بعضهم الى الكنائس يسألها أن تعاونه على الهجرة والاقتلاع نهائيا من شجرة أرض المسيح.

يتساءل هذا المؤتمر بصواب : أي مستقبل؟ أي لاهوت؟ والحمد لله ولرئاساتنا الروحية العليا ، تم تعريب العديد من أبرشياتنا ، بحيث ما بقي شك في "محلية " كنيستنا وفي عروبتها ، وهي شاكرة كل الشكر لكل المسيحيين من جميع انحاء العالم الذين ساهموا في المحافظة على كيانها وتربية بناتها وأبنائها وتنشئة اكليروسها المحلي الماسك حالياً بزمام الأمور.

أي مستقبل؟ وربما يجيب المرء بسؤال : ماذا بأيدينا ، نحن الاكليروس والشعب المساكين أمام الدول الكبرى والصغرى والمصالح الاستراتيجية والعسكرية والتحالفات الاقتصادية وسياسات التسلح والاحتلال وغيرها؟ " نحن لسنا أصحاب قرار" ويخطر على بالي القول المأثور للقديس اغسطينوس اسقف هيبونة في شمال افريقيا ، حيث خدمت اسقفا لتونس مدة ثلاث عشرة سنة :"الله لا يأمر بالمحال . ولكنه تعالى يأمرك بأن تفعل ما تستطيع وأن تصلّي سائلا ما لا تستطيع!" (1) وها أنتم العلمانيين ونحن الاكليروس نعمل ونحاول أن نعمل ، كل في موقعه ، ونحن في خندق واحد ، مضيئين شمعة بدل أن نلعن الظلام. ويجب أن نتعاون في كل الميادين : في كنائسنا ومدارسنا ولجاننا الأبرشية والراعوية وعلى مستويات الأسرة والشبيبة والأعلام والتنمية وسواها. أين نحن من "الحياة الرسولية ومن المحبة الأخوية والمشاركة" التي تميّز بها المسيحيون الأولون وأشاد بها سفر أعمال الرسل معلنا انه "ما كان بينهم محتاج" وذلك بسبب محبتهم ومشاركتهم الأخوية؟ فالإيمان الحقيقي حياة والحياة لا تتوقف ومقدار المشاركة بيننا هي مقياس وحدتنا.

أي لاهوت؟ أحيانا يتكلم قوم عن "لاهوت التحرير الذي وُلدَ في أمريكا اللاتينية وأثبت فشلة بعد سقود حائط برلين وسقوط الشيوعية بسبب فقدانه البعد الروحي واتكاله على النظرية الماركسية للنهوض بأمريكا اللاتينية من تعاستها.. طبعا ، علينا أن نتحرر من انقساماتنا ونزاعاتنا الداخلية ونعراتنا التي هي مخالفة لشهادة المحبة المسيحية. ونعمل لتحرير الأرض والإنسان ، كل في موقعه. اللاهوت أصلا هو فكر الله ونظرة الله ومشيئة الله حول الكنيسة. لاهوت الكنيسة المحلية هو رؤية الله نفسه –– حول كنيسته ووطنه. انه لاهوت شهادة، وحضور مميّز متميّز كملح للأرض ونور للعالم . انه شهادة للمسيح الرب المخلّص ولإنجيل المحبة والخلاص والسلام . انه لاهوت عامودي يسمو بالقلوب الى العلى ونحن "نطلب أولا ملكوت الله وبرّه، والباقي يزاد لنا" ، وله بُعد أفقي وطني للشراكة مع باقي المسيحيين, وبعد اجتماعي موجّه إلى محبة القريب في عالم إسلامي ويهودي, فالبعدان الأفقي والعامودي لا ينفصلان.

ولا بدّ للاهوت الكنيسة المحلية أن يكون واقعيا, وقبل أن نتساءل أي مستقبل وأي لاهوت نسأل أنفسنا ما هي هويتنا وما هي شهادتنا ؟ وهل لنا قضية إيمانية، فالحجارة والشوارع والأمكنة المقدسة والقبر الفارغ كلها تكلمنا عن الله.

نلتفّ اليؤم حول المسيح المولود بحسب الجسد من مريم البتول، وحول الإنجيل المقدس ونحن على اختلافنا "قلب واحد ونفس واحدة" ، واعين كل الوعي أننا مدعوون في كل الظروف إلى أن نكون الملح في الطعام لا بقربه والخميرة في العجين لا بجانبها ، منتمين إلى هذا الوطن المقدس المروي بالدم الثمين.

علنا نحافظ على وحدة الإيمان بالله وتعددية الطقوس والتقاليد الروحية، فالوحدة بلا تعددية استبداد والتعددية بلا وحدة فوضى. هذا الاتزان بين وحدة الإيمان وتنوع التقاليد الطقسية لم يكن دوماً سهل التحقيق في تاريخ الكنائس في الشرق بدليل الانشقاقات والنزاعات المحلية بين مختلف الكنائس الشرقية التي ما زال بعضها قائماً حتى اليوم. هذه المعاناة قد تخلق الانغلاق وجهل الأحر وروح منافسة بعيدة عن روح الإنجيل، وهنا يتردد السؤال من جديد: أي لاهوت وأي هوية نريد؟

في عدد من رعايانا ، درجت عادة حميدة وهي تلاوة النشيد المأثور "اللهم نمدحك " قبل القداس الإلهي ، بعد أفعال الإيمان والرجاء والمحبة والندامة. وبودّي، في ختام هذه الكلمة، أن أردد معكم كلمات المزمور:" يا رب ، خلّص شعبك وباركك ميراثك ، وارعهم وارفعهم إلى الأبد".(مزمور 27 (28) : 9).

وفّقكم الله في هذا المؤتمر السادس عشر للاّهوت والكنيسة المحلية في الأرض المقدسة وثبّت بمساعيكم من الأخوة الضعفاء لمجد الله ولخير هذا الوطن الغالي على قلوبنا أجمعين ، وجعل منّا جميعاً ، "حجارة حيّة" حول مقدّسات البشارة والميلاد والجلجلة والقيامة. ولتكن هذه السنة الميلادية الجديدة انطلاقة محبة ونهضة ووحدة "يعرف فيها العالم أننا تلاميذ" المسيح! (عن يوحنا 13 : 35).

أدامكم الله وحفظكم في محبة المسيح!