عظة بندكتس السادس عشر: عظمة اهتداء القديس بولس

اختتام أسبوع الصلاة من أجل وحدة المسيحيين

روما، الثلاثاء 27 يناير 2009 (ZENIT.org)

ننشر في ما يلي العظة التي ألقاها بندكتس السادس عشر يوم الأحد الواقع في 25 يناير الحالي، عن عظمة اهتداء القديس بولس، في بازيليك القديس بولس خارج الأسوار، في ختام أسبوع الصلاة من أجل وحدة المسيحيين.

***

إخوتي وأخواتي الأحباء،

إنه لفرح كبير أن نلتقي في كل مرة إلى جانب ضريح القديس بولس في الذكرى الليتورجية لاهتدائه لاختتام أسبوع الصلاة من أجل وحدة المسيحيين. أوجه لكم جميعاً تحية قلبية وأخص بالتحية الكاردينال كورديرو لانسا دي مونتيزمولو، ورئيس الدير وجماعة الرهبان الذين يستقبلونا. كما أحيي الكاردينال كاسبر، رئيس المجلس الحبري لتعزيز وحدة المسيحيين. ومعه، أحيي الكرادلة الحاضرين، والأساقفة والرعاة عن مختلف الكنائس والجماعات الكنسية المجتمعين هنا هذا المساء. أتوجه بشكر خاص إلى جميع من شارك في إعداد وثائق الصلاة، وعاش أولاً التأمل ومواجهة الإصغاء إلى الآخر ومن ثم الإصغاء جميعاً إلى كلمة الله.

إن اهتداء القديس بولس هو مثال لنا ومرشدنا إلى الدرب التي يجب أن نسلكها نحو الوحدة الكاملة. فالوحدة تتطلب في الحقيقة اهتداءً: من التشرذم إلى الوحدة، ومن الوحدة الجريحة إلى الوحدة المجددة والكاملة. هذا الاهتداء هو هبة من المسيح القائم من بين الأموات، تماماً كما كان هبة للقديس بولس. وقد سمعنا عن هذا الأمر من كلمات الرسول، في القراءة التي جاءت منذ قليل: "ولكن، بنعمة الله صرت على ما أنا عليه الآن" (1 كور 15، 10). إن الرب نفسه الذي دعا شاول على طريق دمشق، يتوجه اليوم إلى أعضاء كنيسته الواحدة والمقدسة، ويسأل داعياً كل فرد باسمه: "لمَ قسمتني؟ لمَ جرحت وحدة جسدي؟ هنا، ينطوي الاهتداء على بعدين . ففي المرحلة الأولى، نتحقق من الأخطاء ونعترف بها على ضوء المسيح، فيتحول هذا الاعتراف إلى ألم وتوبة ورغبة في بداية جديدة. أما في المرحلة الثانية، فإننا ندرك بأن هذه الدرب الجديدة لا تنبثق عنا. وما يجب القيام به في هذه الحالة هو أن نترك المسيح يقتنينا. كما يقول القديس بولس: "… ولكني أسعى لاقتنائها، كما أن المسيح يسوع قد اقتناني" (في 3، 12). إذاً، يتطلب الاهتداء قبولاً و"سعياً" منا، لأنه في النهاية ليس عملاً شخصياً بل هبة تقوم على جعل المسيح يعمل فينا؛ إنه موت وقيامة. لذلك لم يقل القديس بولس: "إنني اهتديت" بل قال: "وفيما بعد لا أحيا أنا" (غل 2، 19)، وأنا إنسان جديد. ففي الواقع أن اهتداء بولس لم يكن تحولاً من الفسق إلى المناقبية، ومن الإيمان الخاطئ إلى الإيمان المستقيم، بل كان فعل الامتلاء من محبة المسيح أي إنكار كماله، وكان تواضع من يضع نفسه في خدمة المسيح من دون تحفظات من أجل إخوته. إن فعل إنكار أنفسنا والخضوع للمسيح ليس مسؤولاً عن جعلنا موحدين معاً لنصبح "واحداً" في المسيح، بل أن الاتحاد مع المسيح القائم من بين الأموات هو الذي يعطينا الوحدة.

يمكننا أن نلاحظ تشابهاً مهماً مع فعل اهتداء القديس بولس من خلال التأمل في النص البيبلي للنبي حزقيال (37: 15، 28) الذي تم اختياره قاعدة لصلواتنا في هذه السنة. في هذا النص تظهر رمزية العودين اللذين يصيران واحداً في يد النبي، مما يمثل عمل الله المستقبلي. هذا هو القسم الثاني من الفصل 37 الذي يتضمن في قسمه الأول الرؤية الشهيرة للعظام اليابسة وقيامة إسرائيل التي صنعها روح الله. وكيف لنا ألا نلاحظ بأن الرمز النبوي المتمثل في إعادة توحيد شعب إسرائيل يرد بعد الرمز الكبير للعظام اليابسة التي أحياها الروح؟ ومن هنا ينتج رسم لاهوتي شبيه برسم اهتداء القديس بولس: إذ أن هناك أولاً وجوداً لقدرة الله الذي من خلال روحه أتم القيامة كخلق جديد. هذا الله الذي هو الخالق والقادر على إحياء الموتى هو قادر أيضاً على إعادة إرشاد الشعب المنقسم على نفسه نحو الوحدة. إن بولس – كما حزقيال وأكثر منه – أصبح أداة مصطفاة من أجل التبشير بالوحدة التي حققها يسوع من خلال الصليب والقيامة: الوحدة بين اليهود والكفار ليكونوا شعباً واحداً جديداً. هذا وأن قيامة المسيح توسع نطاق الوحدة: ليس فقط وحدة قبائل إسرائيل، بل وحدة اليهود والكفار (أف 2؛ يو 10، 16)؛ وتوحيد البشرية المشتتة بالخطيئة، وأكثر من ذلك وحدة جميع المؤمنين في المسيح.

هذا النص المأخوذ من نبوءة حزقيال تم اختياره من قبل إخوتنا في كوريا الذين شعروا من خلال تأملهم بهذه الصفحة البيبلية بدعوة موجهة إليهم ككوريين وكمسيحيين. ففي انقسام الشعب اليهودي إلى مملكتين، رأوا أنفسهم كأبناء أرض واحدة شرذمتهم الأحداث السياسية إلى قسم في الشمال وآخر في الجنوب. وقد ساعدتهم تجربتهم الإنسانية على فهم مأساة الانقسام بين المسيحيين على نحو أفضل. الآن وعلى ضوء كلمة الله التي اختارها إخوتنا الكوريون واقترحوها على الجميع، تظهر حقيقة مفعمة بالرجاء: الله يعد شعبه بوحدة جديدة تكون رمزاً وأداة للمصالحة والسلام على الصعيد التاريخي أيضاً لجميع الأمم. والوحدة التي يمنحها الله لكنيسته والتي نصلي من أجلها هي ببساطة الاتحاد بالمعنى الروحي في الإيمان والمحبة؛ إلا أننا نعلم بأن هذه الوحدة في المسيح هي خميرة أخوة على الصعيد الاجتماعي أيضاً في العلاقات بين الأمم وللأسرة الإنسانية جمعاء. فخميرة ملكوت الله هي التي تخمر العجين كله (مت 13، 33). بذلك فإن الصلاة المأخوذة عن النبي حزقيال والتي نرفعها في هذه الأيام قد تشفعت أيضاً بمختلف حالات الصراع التي تصيب البشرية حالياً. وحيثما تصبح الكلمات البشرية عاجزة بسبب هيمنة الصخب المأساوي للعنف والسلاح، تكون القدرة النبوية لكلمة الله موجودة لتكرر لنا بأن السلام ممكن، وبأنه يجب علينا أن نكون أدوات مصالحة وسلام. لذلك فإن صلواتنا من أجل الوحدة والسلام تتطلب دوماً الدعم من بادرات مصالحة جريئة بيننا نحن المسيحيين. وأفكر أيضاً بالأراضي المقدسة إذ أنه من المهم جداً أن يقوم المؤمنون الذين يعيشون فيها، والحجاج الذين يزورونها بتقديم شهادة للجميع قائمة على أن اختلاف الطقوس والتقاليد يجب ألا يشكل عائقاً أمام الاحترام المتبادل والمحبة الأخوية. ففي اختلاف الآراء الشرعي، يجب علينا أن نسعى وراء الوحدة في الإيمان، في "قبولنا" الأساسي للمسيح ولكنيسته الواحدة. وبالتالي تتوقف الاختلافات عن كونها عائقاً مشرذماً لتصبح ثروة في تعددية أشكال التعبير عن الإيمان المشترك.

أود أن أختتم تأملي بالعودة إلى حدث لم ينسوه بالتأكيد كبار السن بيننا. فمنذ خمسين عاماً بالضبط أي في 25 يناير 1959، أعرب الطوباوي البابا يوحنا الثالث والعشرين في هذا المكان ولأول مرة عن رغبته في الدعوة إلى "مجمع مسكوني للكنيسة جمعاء" (AAS LI، سنة 1959، ص. 68). فأبلغ الآباء الكرادلة بذلك في قاعة المؤتمرات في دير القديس بولس بعد احتفاله بالقداس التكريمي في البازيليك. وعن هذا القرار السماوي الذي اقترحه الروح القدس على سلفي الحبيب وفقاً لقناعته الراسخة، انبثقت مساهمة أساسية في الحركة المسكونية تبلورت في مرسوم "إعادة بناء الوحدة" Unitatis Redintegratio . ونقرأ فيه بخاصة: "لا وجود للوحدة الحقيقية للكنائس من غير اهتداء داخلي. ففي الواقع أنه انطلاقاً من تجديد الروح (أف 4، 23)، وإنكار الذات وفيض حر من المحبة، تنشأ وتنضج الرغبة في الوحدة" (رقم 7). إن حالة الاهتداء الداخلي في المسيح والتجدد الروحي والمحبة المتزايدة للمسيحيين الآخرين أحدثت وضعاً جديداً في العلاقات المسكونية. كما أن ثمار الحوارات اللاهوتية إضافة إلى نقاطها المشتركة والتحديد الدقيق للاختلافات التي ما تزال قائمة تحث على مواصلة الدرب بشجاعة في اتجاهين اثنين: في قبول ما تم بلوغه إيجابياً وفي الالتزام المتجدد نحو المستقبل. في الوقت المناسب، انكب المجلس الحبري لتعزيز الوحدة بين المسيحيين، الذي أشكره على الخدمة التي يقدمها لقضية وحدة جميع تلاميذ الرب، على التأمل في قبول الحوار المسكوني ومستقبله. هذا التأمل إن أراد من جهة تقييم المكتسبات حقاً، فهو يرمي من جهة أخرى إلى إيجاد طرق جديدة لمواصلة العلاقات بين الكنائس والجماعات الكنسية في السياق الحالي. ما تزال أفق الوحدة الكاملة منفتحة أمامنا. على الرغم من أن المهمة صعبة إلا أنها محمسة للمسيحيين الذين يريدون العيش بتناغم مع صلاة الرب: "ليكون الجميع واحداً، لكي يؤمن العالم" (يو 17، 21). لقد عرض لنا المجمع أن "هذا المخطط المقدس، أي مصالحة جميع المسيحيين في وحدة كنيسة المسيح الواحدة يفوق القوى والقدرات البشرية" (إعادة بناء الوحدة رقم 24). إننا من خلال ثقتنا في صلاة الرب يسوع المسيح، وبتشجيع من الخطوات المهمة التي أنجزتها الحركة المسكونية، نبتهل بإيمان إلى الروح القدس أن يستمر في إنارة دربنا وإرشاده. وليشجعنا الرسول بولس من السماء ويساعدنا، هو الذي أجهد نفسه وعانى كثيراً في سبيل وحدة جسد المسيح السري، ولترافقنا وتدعمنا الطوباوية مريم العذراء، أم وحدة الكنيسة.  

نقلته من الفرنسية إلى العربية غرة معيط (ZENIT.org)

حقوق الطبع محفوظة لمكتبة النشر الفاتيكانية – 2009