المقال الأوَّل وَحْيُ الله

50- الإنسان يستطيع بالعقل الطبيعي

أن يعرف الله معرفةً يقينية انطلاقا من صنائعه. إلا أن هنالك نظام معرفة آخر يعجز الإنسان عن بلوغه بقواه الطبيعية، هو نظام الوحي الإلهي[i]. فإن الله، بقرارٍ منه حُرٍ تماماً، يكشف عن ذاته ويهبها للإنسان. إنه يقوم بذلك عندما يوحي بسره، بقصده العطوف الذي عقده في المسيح منذ الأزل لصالح جميع البشر. إنه يكشف عن قصده كشفاً كاملاً بإرساله ابنه الحبيب، سيدنا يسوع المسيح، والروح القدُس.

 

المقال الأوَّل

وَحْيُ الله

1ً. الله يوحي بـ «قصده العطوف»

       51- «لقد حُسن لدى الله، فرط حكمته ومحبته، أن يوحي بذاته ويُعلن سرَّ مشيئته من أن البشر يبلغون الآب، في الروح القدس، بالمسيح، الكلمة المتجسد، فيُصبحون شركاءه في الطبيعة الإلهية»[ii].

        52- إن الله الذي «يسكن نوراً لا يدنى منه» (1تي6: 16) يريد أن يُشرك البشر في حياته الإلهية الخاصة، البشر الذين خلقهم بحرية، لكي يجعل منهم، في ابنه الوحيد، أبناء بالتبني[iii]. فعندما يكشف الله عن ذاته يريد أن يجعل البشر قادرين على الاستجابة له، وعلى أن يعرفوه ويحبوه أكثر من كل ما قد يستطيعونه بقواهم الذاتية.

        53- إن قصد الوحي الإلهي يتحقق في الوقت نفسه «بأعمال وأقوال وثيقة الارتباط في ما بينها، وموضح بعضها للبعض الآخر»[iv]. إنه يقدم على «نظام تربوي إلهي» خاص: الله يتصل بالإنسان تدريجياً، يُعده مرحليا لتقبل الوحي الفائق الطبيعة الذي يكشف فيه عن ذاته والذي سيبلغ أوجه في شخص الكلمة المتجسد، يسوع المسيح، وفي رسالته.

كثيرا ما يتكلم القديس إيريناوس أسقف ليون على هذا النظام التربوي الإلهي في شكل تعوُّدٍ متبادل بين الله والإنسان: «كلمة الله سكن في الإنسان وصيَّر ذاته ابناً للإنسان لكي يعود الإنسان على إدراك الله، ويعود الله على الحلول في الإنسان، وفاقاً لما يرتضيه الآب»[v].

2ً. مراحل الوحي

منذُ البدء يُعرفُ الله بذاته

        54- «الله الذي خلق ويحفظُ بالكلمة جميع الأشياء، يقدم للبشر في الأشياء المخلوقة شهادة على ذاته لا تنقطع؛ وإذ أرادَ فوق ذلك أن يفتح الطريق نحو الخلاص أسمى، أظهر أيضاً ذاته، منذ البدء، لأبوينا الأولين»[vi]. لقد دعاهما الى شركة جميمة مع ذاته مُلبساً إياهما واستقامة متألقتين.

        55- هذا الوحي لم ينقطع بسبب خطيئة أبوينا الأوَّلين، فإنَّ الله، «بعد عثرتهما، وعدهما بقداءٍ، وبعث فيهما الشجاعة عندما أحيا فيهما الأمل بالخلاص؛ وبغير انقطاع أظهر اهتمامه بالجنس البشري، حتى يمنح الأبدية لجميع الذين يلتمسون الخلاص بثباتهم في الصلاح»[vii].

«عندما خسِر صداقتك بانحرافه عنك، لم تُسلمه لسلطان الموت. (…) لقد عدَّدت معهم العهود»[viii].

العهد مع نوح

        56- بعدما تمزّقت بالخطيئة وحدة الجنس البشري، سعى الله أولاً في تخليص البشرية معالجاً أجزاءها كُلاً على حِدتَه. فالعهد مع نوح، بعد الطوفان[ix]، تعبير عن مبدأ التدبير الإلهي في شأن "الأمم"، أي في شأن البشر الذين عادوا الى التجميع «بحسب بلدانهم، كلٌّ بحسب لغته وعشائره» (تك10: 5)[x].

        57- هذا النظام الكوني والاجتماعي والديني معاً في تعددية الأمم[xi]، هو مُعَدٌّ للحد من كبرياء بشرية عاثرة تودُّ، وهي غارقة بمجملها في الفساد[xii]، لو تصنع بنفسها وحدتها على طريقة بابل[xiii]. ولكن، وبسبب الخطيئة[xiv]، لا يفتأ الشّركُ وتعبّد الأمة ورئيسها للأصنام، يُهددان هذا التدبير الموقت بفسادٍ وثنيّ.

        58- العهد مع نوح قائمٌ مادام زمن الأمم[xv]، إلى أن يعمَّ إعلان الإنجيل. والتوراة تُشيد ببعض الشخصيات العظيمة في "الأمم" من أمثال "هابيل الصديق"، والملك الكاهن ملكيصادق[xvi]، صورة المسيح[xvii]، أو اصدّقين "نوح ودنيال وأيوب" (حز14: 14). وهكذا فالكتاب المقدس يُعبر عن أي مستوى رفيع من القداسة يستطيع أن يصل إليه مَن يعيشون على حسب العهد مع نوح في انتظار أن «يجمع المسيح أبناء الله المتفرقين الى واحد» (يو11: 52).

الله يختار إبراهيم

        59- إن الله يختار أبرام لكي يجمع البشريّضة المشتتة، داعياً إيَّاه «إلى خارج أرضه وعشيرته وبيت أبيه» (تك 12: 1)، حتى يجعل منه إبراهيم أي «أبا جمهور أُمم» (تك17: 5): «يتبارك بك جميع عشائر الأرض» (تك12: 3)[xviii].

        60- الشعب سلي إبراهيم المؤتمن على الوعد المقطوع للأجداد، الشعب المختار[xix]، المدعوَّ لإعداد جميع أبناء الله يوماً في وحدة الكنيسة[xx]؛ سيكون الجذر الذي يُغرس فيه الوثنيون المُهتدون[xxi].

        61- الأجداد والأنبياء وأشخاص آخرون من العهد القديم كانوا وسيكونون أبداً موضوع إجلالٍ كقديسين في جميع تقاليد الكنيسة الليترجية.

اللهُ ينشّئ شعبه إسرائيل

        62- الله نشأ، بعد الأجداد، إسرائيل شعباً له عندما خلصه من عبودية مصر. فعقد معه عهد سيناء، وأعطاه، على يد موسى، شريعته، لكي يعرفه ويخدمه إلهاً واحداً، حياً وحقيقياً، أباً ذا عناية وقاضياً عادلاً، ولكي ينتظر المخلص الموعود به[xxii].

        63- إسرائيل هو شعب الله الكهنوتي[xxiii]، الذي «ألقي عليه اسم الرب» (تث28: 10). إنه شعب أولئك الذين «تكلم الله إليهم أولاً»[xxiv]، شعب "الإخوة الأبكار" في إيمان إبراهيم[xxv].

64- بالأنبياء نشأ الله شعبه على رجاء الخلاص، على انتظار عهدً جديد وأبدي مُعدٍ لجميع البشر[xxvi]، ومكتوب على قلوبهم[xxvii]. والأنبياء يبشرون بفداء جذري لشعب الله، بتطهيره من جميع مخالفاته[xxviii]، بخلاص يشمل جميع الأمم[xxix]. وسيكون البؤساء ودعاء الرب[xxx] أكثر من يحملون هذا الرجاء. النساء القديسات من أمثال سارة، ورفقة، وراحيل، ومريام، ودبوره، وحنّة، ويهوديت، وإستر، هؤلاء حافظن على رجاء خلاص إسرائل حياً. ووجه مريم هو أشد الوجوه نقاء[xxxi].

 

3ً. المسيح يسوع «وسيط كل الوحي وكماله»[xxxii]

الله قال كلَّ شيء في كلمته

        65- «إن الله بعد إذ كلم الآباء قديماً بالأنبياء مراراً عديدةً وبشتى الطرق، كلمنا نحن، في هذه الأيّام الأخيرة، بالابن» (عب1: 1-2). فالمسيح، ابن الله الذي صار إنسانا، هو كلمة الآب الوحيدة والكاملة والتي لا يمكن أن يفوقها شيء. فيه يقول كلَّ شيء، ولن تكون كلمة أخرى غير هذه. والقديس يوحنا الصليب، بعد كثيرين غيره، يعبر عن ذلك بطريقة نورانية وهو يفسر عب1: 1-2:

«إذ أعطنا الله ابنه، الذي هو كلمته، لم يبقَ لديه كلمة أخرى يعطيناها. لقد قال لنا كل شيء معاً ودفعةً واحدةً في هذه الكلمة الوحيدة، وليس له شيء آخر يقوله (…)؛ لأن ما كان يقوله أجزاءً في الأنبياء قاله كاملاً في ابنه، عندما أعطانا هذا الكلَّ الذي هو ابنه. ولهذا فمن يودُّ الآن أن يسأله، أو يَرج رؤيا أو وحياً، فإنه لا يركب مركب جنونٍ وحسب، بل يهين الله لكونه لا يُلقي بنظره على المسيح وحده، غير ملتمسٍ أمراً آخر، أو أمراً جديداً»[xxxiii].

لن يكون وحيٌ آخرَ

        66- «إذ كان التدبير المسيحيُّ هو العهد الجديد والنهائي، فهو غير زائل أبداً، ولن يُرتقب بعده وحيٌ آخرُ عنيُّ جديد، إلى أن يتجلى ربُّنا يسوع المسيح في مجده»[xxxiv]. ومع ذلك، وإن أتى الوحي على تمامه، فهو لم يتمّ الإفصاح الكامل عن مضمونه؛ فيبقى على الإيمان المسيح أن يُدرك عبر الأجيال وتدريجياً ما ينطوي عليه من فحوى.

        67- شهدت الأجيال حالات وحي دُعيت "خاصة"، واعترفت سُلطة الكنيسة ببعض منها، إلا أن هذا البعض لا يُعدُّ من وديعة الإيمان. وليس من شأنه أن "يُحسن" أو "يُكمل" وحي المسيح النهائي، بل أن يساعد على الحياة فيه بطريقةٍ أوفى في مرحلةٍ من مراحل التاريخ. وبقيادة سلطة الكنيسة التعليمية يعرف حسُّ المؤمنين أن يميز ويتقبل ما يكون في حالات الوحي هذه دعوةً صحيحة للكنيسة من المسيح أو من قديسيه.

        إن الإيمان المسيحي لا يستطيع أن يتقبل "وحياً" يدّعي أنه يفوق أو يُصحح الوحي الذي كان الكسيح نهايته. تلك حال بعض الأديان غير المسيحية وكذلك حال بعض البدع الحديثة التي تقوم على مثل هذا "الوحي".

 

بإيجاز

        68- بدافع المحبة كاشف الله بنفسه وأعطاه ذاته. وهو يقدم بذلك جواباً نهائياً ومستفيضاً عن الأسئلة التي يطرحها الإنسان على نفسه في موضوع معنى حياته وغايتها.

        69- كاشف الله الإنسان بنفسه وهو يُلقي إليه بسرّه الخاص تدريجياً وذلك بأعمالٍ وأقوال.

        70- بالإضافة الى الشهادة التي يقدمها الله عن ذاته في الأشياء المخلوقة، كاشف أبوينا الأولين بنفسه. لقد خاطبهما، وبعد العثرة، وعدهما بالخلاص[xxxv] وقدم لهما عهده.

        71- أبرم الله مع نوح عهداً أبدياً ما بينه وبين كل نفس حي[xxxvi]؛ ولسوف يدوم ما دام في العالم.

        72- اختار الله إبراهيم وقطع عهداً معه ومع نسله. ومن إبراهيم ونسله أنشأ شعبه الذي أوحى إليه بشريعته بوساطة موسى. فأعده بالأنبياء لتقبل الخلاص الذي خُصت به البشريَّة كلها جمعاء.

        73- وقد أوحى الله بنفسه الوحي الكامل عندما أرسل ابنه الخاص الذي أقام فيه عهده الى الأبد. وهو كلمة الآب النهائية، بحيث لا يكون بعده وحيٌ آخر.

[i] رَ: م ف 1ً، دستور عقائدي "ابن الله"، ق4: د3015 .

[ii] و ل 2

[iii] رَ: أف1: 4-5

[iv] و ل 2

[v] الردّ على الهرطقات 3،20، 2؛ رَ: مثلاً م س 3، 17، 1؛ 4، 12، 4؛ 4، 21، 3.

[vi] و ل 3

[vii] و ل 3

[viii] ق ر، صلاة إفخارستية 4، 118

[ix] رَ: تك9: 9

[x] رَ: تك 10: 20-31

[xi] رَ: أع17: 26-27

[xii] رَ: حك10: 5

[xiii] رَ: تك11: 4-6

[xiv] رَ: رو1: 18-25

[xv] رَ: لو21: 24

[xvi] رَ: تك14: 18

[xvii] رَ: عب7: 3

[xviii] رَ: غل3: 8

[xix] رَ: رو11: 28

[xx] رَ: يو11: 52؛ 10: 16

[xxi] رَ: رو11: 17-18، 24

[xxii] رَ: و ل3

[xxiii] رَ: خر19: 6

[xxiv] رَ: ق ر، الجمعة العظيمة13: طلبة جامعة 6ً

[xxv] رَ: يوحنا بولس الثاني، خطاب في المجمع في لقائه مع الجماعة اليهودية لمدينة رومة (13/4/1986)، 4: تعاليم يوحنا بولس الثاني 11، 1، 1027.

[xxvi] رَ: أش2: 2-4

[xxvii] رَ: إر31: 31-34؛ عب10: 16

[xxviii] رَ: حز36

[xxix] رَ: أش49: 5-6؛ 53: 11

[xxx] رَ: صف2: 3

[xxxi] رَ: لو1: 38

[xxxii] رَ: و ل2

[xxxiii] كرمل 2، 22، 3-5

[xxxiv] و ل 4

[xxxv] رَ: تك3: 15

[xxxvi] رَ: تك9: 16