الفصل الأول: أُؤمن بالله الآب

أُؤمن بالله الآب من 198-231

198- اعترافنا بالإيمان يبدأ بالله، لأن الله هو «الأوَّل والآخر» (أش 44: 6)، بدء كل شيء ونهايته. وقانون الإيمان يبدأ بالله الآب، لأن الآب هو الأقنوم الإلهي الأول من الثالوث الأقدس؛ وقانوننا يبدأ بخلق السماء والأرض، لأن الخَلق هو البداية والأساس في جميع أعمال الله.

المقال الأول

«أُؤمن بالله الآب الكلي القدرة

خالق السماء والأرض»

الفقرة 1- أؤمن باللهِ

199- «أؤمن بالله»: هذا التأكيد الأول من الاعتراف بالإيمان هو أيضاً أساسيٌ أكثر من أي شيء آخر. القانون كله يتكلم على الله، وإن تكلم أيضاً على الإنسان والعالم، فذلك بالنسبة إلى الله. فمواد قانون الإيمان تتعلق كلها بالمادة الأولى، كما أن جميع الوصايا توضح الوصية الأولى. والمواد الأخرى تعرفنا الله تعريفاً أوسع، كما كشف عن نفسه للبشر تدريجياً. «المؤمنون يعترفون أولاً بالإيمان بالله»[i].

1ً. «أُؤمن بإلهٍ واحد»

200- بهذه الكلمات يبدأ قانون نيقية- القسطنطينية. الاعتراف بوحدانية الله ذات الجذور في الوحي الإلهي في العهد القديم، لا يمكن فصله عن الاعتراف بوجود الله، وهو أساسيٌّ مثله أيضاً. فالله واحد: لا يوجد إلهٌ واحد: «الإيمان المسيحي يعترف أنه لا يوجد إلا إله واحد، واحدٌ بطبيعته، وجوهره، وإنيته»[ii].

201- الله كشف عن نفسه لإسرائل مختاره على أنه الوحيد: «اسمع، يا إسرائيل، إن الربَّ إلهنا ربٌّ واحد، فأحبب الرب إلهك بكل قلبك وكل نفسك وكل قدرتك» (تث6: 4-5). بالأنبياء دعا الله إسرائيل وجميع الأمم إلى التوجه نحوه، هو الوحيد. «توجهوا إليّ فتخلُصوا ياجميع أقاصي الأرض فإني أنا الله وليس من إله آخر (…). لي تجثوا كل ركبةٍ وبي سَيُقْسِم كل لسان، يقول: بالرب وحده البرُّ والقوَّة» (أش45: 22-24)[iii].

202- يسوع نفسه يثبت أن الله هو «الرب الوحيد» وأنه يجب أن يُحب «بكل القلب وكل النفس وكل الذهن وكل القدرة»[iv]. وهو يُشير، في الوقت نفسه، إلى أنه هو ذاته «الرب»[v]. والاعتراف بأن «يسوع هو الرب». هو خاصة الإيمان المسيحي. وهذا لا يخالف الإيمان بالله الواحد. والإيمان بالروح القدس «الرب وواهب الحياة» لا يجعل في وحدانية الله انفصاماً:

«نحن نؤمن إيماناً ثابتاً، ونُثبت ببساطة أنه يوجد إلهٌ واحدٌ حقيقي، غير محدود وغير متغير، وغير مُدرك، كليُّ القدرة، وفوق كل تعبير، آب وابن وروح قدس: ثلاثة أقانيم، ولكن إنية واحدة، وجوهرٌ واحدٌ أو طبيعةٌ كلية البساطة»[vi].

2ً. الله يكشف عن اسمه

203- لقد كشف الله عن ذاته لشعبه إسرائيل وعرَّفه اسمه. الاسم تعبير عن الإنية، هُوية الشخص ومعنى الحياة. لله أسمٌ. وليس بقوة غُفل. وتسليم الاسم هو تعريف الآخرين بالذات؛ هو، على وجهٍ ما، تسليم الذات يجعلها مُمكنةً المنال، حَرِيّةً بأن تُعرَف معرفةً أعمق، وأن تُدعى شخصياً.

204- الله كشف عن ذاته لشعبه تدريجياً وبأسماء مختلفة، إلا أن الكشف عن الاسم الإلهي لموسى في ظهور العليقى المُلتهبة على عتبة الخروج وعهد سيناء، هو الكشف الذي ثبت أنه الأساسي للعهدين القديم والجديد.

الإله الحيّ

205- الله يدعو موسى من وسط عُلَّيقى تلتهبُ ولا تحترق. ويقول لموسى:«أنا إله آبائك، إله إبراهيم، وإله إسحق، وإله يعقوب» (خر6:3). فالله هو إله الآباء الذي دعاهم وقادهم في تيههم. إنه الإله الأمين والعطوف الذي يذكرهم عُهوده؛ وهو يأتي ليُحرر نسلهم من العبودية. إنه الإله الذي، في كل مكان وزمان، يستطيع ذلك ويريده، والذي يجعل قدرته غير المحدودة في طريق هذا التصميم.

«أنا هو الكائن»

قال موسى لله:«ها أنا سائرٌ إلى بني إسرائيل فأقول لهم: إله آبائكم بعثني إليكم؛ فإن قالوا لي ما اسمه، فماذا أقول لهم؟» فقال الله لموسى: «أنا هو الكائن». قال:«كذا قُل لبني إسرائيل: الكائن أرسلني إليكم. (…) هذا اسمي إلى الدهر، وهذا ذكري إلى جيلٍ فجيل» (خر13:3-15).

206- عندما يكشف الله عن اسمه العجيب يهوه، «أنا الكائن»، أو «أنا مَن هو» أو أيضاً «أنا مَن أنا»، يقول من هو، وبأي اسم يجب أن ندعوه. هذا الاسم الإلهي سريٌ كما أن الله سر. إنه في الوقت نفسه اسم مُوحى به وكرفض للاسم، وهو من ثمَّ يعبر أحسن تعبير عن الله كما هو، أي على مستوى أسمى من كل ما نستطيع إدراكه أو قوله: إنه «الإله المتحجب» (أش15:45)، واسمه عجيب[vii]، وهو الإله الذي يتقرب من البشر.

207- عندما يكشف الله عن اسمه يكشف في الوقت نفسه عن أمانته التي هي من الأبد وإلى الأزل، سارية المفعول في الماضي («أنا إله آبائك»، خر6:3) كما في المستقبل: («أنا أكون معك»، خر12:3). الله الذي يكشف عن اسمه على أنه «الكائن» يكشف عن ذاته على أنه الإله الحاضر على الدوام، الحاضر مع شعبه ليُخلصه.

208- أمام حضور الله الساحر والعجيب يكشف الإنسان صغارته. امام العُلَّيقى الملتهبة يخلع موسى نعليه ويستر وجهه[viii] مقابل القداسة الإلهية. أمام مج الإله المُثلث القداسة يصيح أشعيا:«ويل لي قد هلكت، لأني رجل دنس الشفتين» (أش5:6). أمام الأعمال الإلهية التي يعملها يسوع يصيح بطرس:«تباعد عني، يارب، فإني رجل خاطئ» (لو8:5). ولكن بما أن الله قدوس، فهو يقدر أن يغفر للإنسان الذي يكشف عن نفسه أمامه أنه خاطئ:«لا أُنفِذ وَغر غضبي (…) لأني أنا الله لا إنسان، وفيك قدوس» (هو9:11). وسيقول الرسول يوحنا كذلك: «نُقنِع قلوبنا بأن تطمئنَّ أمامه، وإن كان قلبُنا يُبكتنا، فإن الله أعظم من قلبنا وعالمٌ بكل شيء» (1يو19:3-20).

209- توقيراً لقداسة الله لا يفوه الشعب الإسرائيلي باسمه تعالي. ففي قراءة الكتاب المقدس يُستعاض عن الاسم الموحى به باللقب الإلهي «رب» (أدوناي، وباليونانية كيريوس). وبهذا اللقب ستُعلن أُلوهة يسوع: «يسوع ربٌ».

«إله الحنان والرحمة»

210- بعد خطيئة إسرائيل الذي مال عن الله إلى عبادة العجل الذهبي[ix]، يسمع الله تشفع موسى ويقبل السير في وسط شعب ناكث للعهد، مظهراً هكذا محبته[x]. وهو يُجيب موسى الذي يطلب أن يرى مجده ويقول:«أنا أُجيزُ جميع جودتي أمامك وأنادي باسم الرب يهوه قدامك» (خر18:33-19). ويمر الرب أمام موسى وينادي:«يهوه، يهوه إلهٌ رحيمٌ ورؤوفٌ، طويل الأناة كثير المراحم والوفاء» (خر6:34). فيعترف موسى حينئذٍ أن الرب إله غفور[xi].

211- الاسم الإلهي «أنا الكائن» أو «الذي هو» يعبر عن أمانة الله الذي «يحفظ الرحمة لأوف» (7:34)، على ما للبشر من نكبة الاثم ومن العقاب الذي تستحقه. الله يكشف عن كونه «غنياً بالرحمة» (أف4:2) إلى حد أنه بذل ابنه الخاص. وعندما يبذل يسوع حياته ليحررنا من الخطيئة، سيكشف أنه يحمل هو نفسه الاسم الإلهي: «إذا ما رفعتم ابن البشر فعندئذ تعرفون أني "أنا هو"» (يو28:8).

الله وحده الكائن

212- لقد استطاع إيمان إسرائيل، عبر القرون، أن ينشر ويتقصى الكنوز المنطوية في وحي الاسم الإلهي. الله واحدٌ، ولا إله سواه[xii]. وهو فوق العالم والتاريخ. وهو الذي صنع السماوات والأرض:«هي تزول وأنت تبقى، وكلُّها تبلى كالثوب (…) وأنت أنت وسنوك لن تفنى» (مز27:102-28). ليس فيه «تحوُّلٌ ولا ظلُّ تَغيُّر» (يع17:1). إنه «الكائن» منذ الأبد وإلى الأزل، وهو هكذا يبقى أبداً وفياً لذاته ولوعوده.

213- وهكذا فالكشف عن الاسم العجيب «أنا الكائن» يتضمن الحقيقة أن الله وحده كائن. وبهذا المعنى فُهم الاسم الإلهي في الترجمة السبعينية وبعدها في تقليد الكنيسة: الله هو ملء الكينونة وملء كل كمال، لا أول له ولا آخر. فيما نالت جميع الخلائق منه كل كيانها وكل ما لها، فهو وحده كيان ذاته، وهو من ذاته كل ما هو.

3ً. الله «الكائن» حقيقة ومحبة

214- الله «الكائن»، كشف عن نفسه لإسرائيل على أنه الكائن «الكثير المراحم والوفاء» (خر6:34). هذه الألفاظ تعبر تعبيراً مرصوصاً عن كنوز الاسم الإلهي. الله يُظهر في جميع أعماله عطفه، وجودته، ونعمته، ومحبته؛ كما يُظهر أيضاً وفاءه، وثباته، وأمانته، وحقيقته. «أعترف لاسمك لأجل رحمتك وحقك» (مز2:138)[xiii]. إنه الحق ، لأن «الله نورٌ وليس فيه ظلمةٌ البتة» (1يو5:1)؛ وهو «محبة»، على حد ما يعلم يوحنا الرسول (1يو8:4).

الله حق

215- «رأس كلمتك حق، وإلى الأبد كُلُّ حكم عدلك» (مز160:119). «والآن أيها الرب الإله أنت هو الله وكلامك حقٌ» (2صم28:7)؛ ولذلك فوعود الله تتحقق دائما[xiv]. الله هو الحقُّ نفسه وأقواله جلَّت عن التضليل. ولهذا يستطيع المرءُ أن يُسلم بكل ثقةٍ لحقيقة كلمته ووفائها في كل شيء. بدء خطيئة الإنسان وسقوطه كان كذبةً من المجرب الذي حمل على الشك في كلمة الله وعطفه ووفائه.

216- حقُّ الله هو حكمته التي تسوس كل نظام الخليقة ومسيرة العالم[xv].الله الذي وحده خلق السماء والأرض[xvi]، يستطيع هو وحده أن يعطي معرفة كل شيءٍ مخلوقٍ في علاقته معه معرفةً حقيقية[xvii].

217- الله حقٌّ أيضاً عندما يكشف عن ذاته: التعليم الذي يأتي من الله «تعليم حقٍ» (ملا6:2). وعندما يُرسل ابنه الى العالم إنما يكون ذلك «ليشهد للحق» (يو37:18): «نعلم أن ابن الله قد أتى وآتانا بصيرةً لكي نعرف الإله الحقيقي» (1يو20:5)[xviii].

الله محبة

218- لقد استطاع إسرائيل، على مر تاريخه، أن يكتشف أنه لم يكن لله إلا داعٍ واحد حمله على الكشف عن ذاته له، وعلى اختياره له، بين سائر الشعوب، ليكون شعبه الخاص: هو حبُّه المجاني[xix]. وقد فقه إسرائيل، بفضل أنبيائه، أنه بدافع الحب أيضاً لم يكُف الله عن تخليصه[xx]، وعن مغفرة نكيثته وآثامه[xxi].

219- يُشيه حب الله لإسرائيل بحب أبٍ لابنه[xxii]. وهذا الحب أقوى من حب أم لأبنائها[xxiii]. الله يحب شعبه أكثر مما يحب زوجٌ حبيبته[xxiv]؛ وهذا الحب يتغلب حتى على أقبح الخيانات[xxv]؛ وهو يذهب إلى درجة بذل الأغلى:«هكذا أحب الله العالم حتى إنه بذل ابنه الوحيد» (يو16:3).

220- وحب الله «أبدي» (أش8:54): «إن الجبال تزول والتلال تتزعزع أما رأفتي فلا تزول عنك» (أش10:54). «إني أحببتُك حباً أبدياً فلذلك اجتذبتك برحمةٍ» (إر3:31).

221- القديس يوحنا يذهب أيضاً إلى أبعد من ذلك عندما يعلن أن «الله محبة» (1يو8:4، 16): فكيان الله ذاته محبة. وعندما يرسل الله، بحلول ملء الأزمنة، ابنه الوحيد وروح محبته يكشف عن أخص سر له[xxvi]:إنه هو نفسه أبداً تبادل محبة: آب وابنٌ وروح قدس، وقد قدر لنا أن نكون شركاء فيه.

4ً. مدى الإيمان بالله الواحد

222- للإيمان بالله الواحد، ومحبتنا له بكل كياننا، عواقب لا حد لها في حياتنا كلها:

223- فلذلك يقتضي معرفة عظمة الله وجلاله: «إن الله عظيم فوق ما نعلم» (أيوب26:36). ولهذا وجب أن يكون الله «المخدوم الأول»[xxvii].

224- ويقتضي أن نعيش في الشُّكران: إذا كان الله هو الواحد الوحيد فكل ما نحن وكل ما نملك يأتي من لدُنه: «أيُّ شيءٍ لك لم تنلهُ» (1كو7:4). «ماذا أردُّ إلى الرب عن جميع ما كافأني به» (مز12:116).

225- ويقتضي معرفة وحدة البشر وكرامتهم الحقيقية:  جميعهم مصنوعون «على صورة الله ومثاله» (تك26:1).

226- ويقتضي حسن استعمال الأشياء المخلوقة: الإيمان بالله الواحد يقودنا إلى استعمال كل ما ليس الله بقدر ما بقربنا ذلك من الله، وإلى التجرد منه بقدر ما يميل بنا ذلك عن الله[xxviii]:

«ربي وإلهي، انزع مني كل ما يبعدني عنك.

ربي وإلهي، هبني كل ما يُقربني منك.

ربي وإلهي، جردني من ذاتي لكي أكون كلي لك»[xxix].

227- ويقتضي الثقة بالله في كل حال، حتى في الشدة. صلاةٌ للقديسة تريزا يسوع تعبر عن ذلك تعبيراً رائعاً:

«لا يُقْلِقنَكَّ شيءٌ، لا يُخيفنَّك شيء،

 كلُّ شيء يَزول، الله لا يتغير،

الصبرُ يحصل على كل شيء،

من معه الله فلا ينقصه شيء،

 الله وحده يكفي»[xxx].

بإيجاز

228- «إسمع، ياسرائيل، إن الرب إلهنا ربٌّ واحد» (تث4:6؛ مر29:12). «من الضروري أن يكون الكائن الأعلى واحداً، أي بغير شريك (…). إذا لم يكن الله واحد لم يكن الله»[xxxi].

229- الإيمان بالله يقودنا إلى أن نتوجه إليه وحده على أنه مبدأنا الأول وغايتنا القصوى، وأن لا نُؤثِرَ عليه شيئاً أو أن نستبدله بشيء.

230- الله، إذا كشف عن ذاته، يبقى سراً عجيباً. «لو كنت تفهمه لما كان الله»[xxxii].

231- إله إيماننا كشف عن ذاته على أنه الكائن، لقد عرّف بنفسه على أنه «كثير المراحم والوفاء» (خر6:34). كيانه نفسه حقٌّ ومحبّة.



[i] ت ر 1، 2، 6

[ii] م س 1، 2، 8

[iii] رَ: في10:2-11

[iv] رَ: مر29:12-30

[v] رَ: مر35:12-37

[vi] مجمع لاتران الرابع: فصل 1، في الإيمان الكاثوليكي د800

[vii] رَ: قض 18:13

[viii] رَ: خر5:3-6

[ix] رَ: خر32

[x] رَ: خر12:33-17

[xi] رَ: خر9:34

[xii] رَ: أش6:44

[xiii] رَ: مز11:85

[xiv] رَ: تث9:7

[xv] رَ: حك1:13-9

[xvi] رَ: مز15:115

[xvii] رَ: حك17:7-21

[xviii] رَ: يو3:17

[xix] رَ: تث37:4؛ 8:7؛ 15:10

[xx] رَ: أش 1:43-7

[xxi] رَ: هو2

[xxii] رَ: هو11:1

[xxiii] رَ: أش 14:49-15

[xxiv] رَ: أش4:62-5

[xxv] رَ: حز16؛ هو11

[xxvi] رَ: 1كو7:2-6؛ أف9:3-12

[xxvii] القديسة جان دارك، حديث لها

[xxviii] رَ: متى29:5-30؛ 24:16؛ 23:19-24

[xxix] نيقولا دي فلو، صلاة

[xxx] قصائد، 29

[xxxi] ترتوليان، ضد مرقيون 1، 3

[xxxii] القديس أوغسطينوس، عظات 52، 6، 16