مؤتمر سانت أجيديو والمسيحية العربية

 

رضوان السيد

 الحياة   – 24/02/09

ما أكثر المناسبات والأحداث في السنوات الأخيرة، والباعثة على التوجُّس والخوف، في منطقتنا العربية بالذات. بيد أن الأكثر إثارة للهلع في وعينا نحن المراقبين أو الخائضين أو الموروطين من لبنان، كانت ولا تزال ثلاثة أمور: التحركات الإسرائيلية، وتحركات جماعات العنف باسم الإسلام، وأحداث العنف أو الضغط على المسيحيين في العراق وفلسطين ولبنان ومصر. وقد كنت في مصر قبل أيام، وكانت الصحف هناك مشغولة بتفسير حدث إطلاق أيمن نور، المعارض المعروف. لكن بعضها انشغل أيضاً بطلب بابا الأقباط من السلطات القَبول بمطلب ألفي مواطن مصري من الرجال والنساء «العودة» الى المسيحية، بعدما كانوا اعتنقوا الإسلام لأسباب مختلفة أهمها الزواج من مسلمين أو مسلمات! وكما في كل الأحداث والظواهر المشابهة، فإن هذه الأمور ليست لها علة واحدة أو سبب واحد مباشر. بل هي مشكلات تفاقمت وتخثّرت عبر عقود عدة، وما لقيت اهتماماً مُلائماً أو جدياً. ولذلك صارت مثل أحداث القضاء والقدر التي ينظر إليها الكثيرون باعتبارها مسائل لا يمكن دفعها إنما الرجاء ألاّ تتزايد وتتفاقم، مع الاستيقان بأنها ستتزايد وتتفاقم، بحيث تطرح في كل مرة مصائر المسيحية العربية ذاتها، دونما لفٍ أو دوران!

 

وقد أردت العودة لمتابعة هذه القضية الخطرة في حياة العرب حاضراً ومستقبلاً، بمناسبة عقد هذه الدورة من اجتماعات جمعية «سانت أجيديو» في إيطاليا، وتخصيصها لاستعراض قضايا «المسيحية في العالم العربي» اليوم وغداً. ولمن لا يعرفون، فإن إطار «سانت أجيديو» ليس إطاراً تآمرياً ضد العرب والمسلمين، ولا هو يقصد الى الإدانة أو التحريض أو التحشيد. فلتلك «الجماعة» ذات الصلة الوثيقة بالفاتيكان، نشاطات سابقة عدة، تتعلق بالقضايا التي تُهمّ المسيحية أو تعني المسيحيين في العالم. وقد توسطت من قبل في مسائل كثيرة تهمُّ العرب والمسلمين، وتُهمُّ هيئات المجتمع المدني كما تُهمُّ الأنظمة السياسية. فهي إطار للتفكير والتدبُّر، واجتراح أو اقتراح الحلول والمعالجات. ويشارك فيها أهل المشكلة أنفسهم، وهم هذه المرة المسيحيون والمسلمون العرب، وأهل الاختصاص بقضايا العرب والمسلمين من رجال الدين والخبراء في أوروبا.

 

إن القضية المطروحة أو الظاهرة البارزة تتناول تطورات حياة المسيحيين العرب ومصائرهم خلال القرن العشرين المنقضي، ومظاهر أو ظواهر التوتر والانحسار لديهم في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين. ففي مطالع القرن العشرين كانت أعداد المسيحيين العرب (في مصر وبلاد الشام والعراق) تُناهز الـ15 في المئة من مجموع العرب. وكانت لهم أدوار بارزة في النهوض القومي والوطني من النواحي الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية. وقد تراجعت أعدادهم على اختلاف كنائسهم (التاريخية والجديدة) الى حدود 8 الى 10 في المئة. وتراجعت تلك الأعداد والأدوار بسبب الهجرة في الدرجة الأولى، لكن أيضاً بسبب المتغيرات في الأوضاع السياسية في منطقة المشرق العربي، والتطورات ذات الطابع الانقلابي في وعي الأكثرية الإسلامية تجاههم، وفي وعي جماعات كثيرة من المسيحيين العرب أنفسهم، في ما يتعلق بالحراك الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والسياسي. وبالنسبة الى المتغيرات في المجال السياسي أو الجيوسياسي، هناك أمران رئيسان: ظهور الكيان الصهيوني على أرض فلسطين، وطبيعة التجربة السياسية العربية وتطوراتها. في المجال الأول، أي استيلاء الصهاينة على فلسطين، فقد تعرض المسيحيون والمسلمون في فلسطين بعامة، وفي القدس بوجه خاص لضغوط شديدة في حياتهم، وفي معابدهم، وفي رموزهم الدينية. وقد أُرغم كثيرون منهم على الهجرة الى خارج فلسطين. وقبل ثلاثة أيام أُعلن عن مشروع يهودي عبر الإدارة الحكومية لإخراج 1500 فلسطيني من بيوتهم في القدس، بحجة أنهم بنَوها من دون إذن من السلطات البلدية، التي لا تأذن على أي حال لأحد بالبناء، حتى لو كانت العملية عملية ترميمية! وبين الـ1500 فلسطيني الذين يُراد تهجيرهم أو إخراجهم من القدس 400 مسيحي. وفي القدس 14 كنيسة أكثرها تاريخي، بينما لا يزيد عدد المسيحيين في القدس الشرقية اليوم على الثمانية آلاف، وفي إحصاءات أخرى إنهم لا يزيدون على الستة آلاف!

 

أما السبب السياسي الآخر وخارج فلسطين، فقد تعلّق في المدى الطويل بطبائع الأنظمة العربية خلال العقود الخمسة الماضية. فهي في معظم الأحيان أنظمة عسكرية أو ثورية لا تأبه لقضايا العدالة وحكم القانون. وفي تلك البلدان يتعرض سائر المواطنين للضغوط وليس المسيحيون فقط. لكن الأقليات والنُخَب الزاخرة بالحركة والحيوية والفعالية، تتعرض في العادة لضغوط أكبر. ومع غياب المشاركة، وشلّ الحركية والفعالية، يزداد المعتقلون، ويزداد أكثر المعطَّلون، وأكثر وأكثر المهاجرون. وكما سبق القول، فإن الضغوط تناولت الجميع، والطموحون والفعّالون من المسلمين والمسيحيين اندفعوا باتجاه الهجرة. لكن عندما يهاجر مئة ألف مسيحي مثلاً من بلد يبلغ عددهم فيه المليونين، فإن ذلك يؤثر فيهم، أكبر من تأثير هجرة مئتي ألف مسلم من أصل 18 مليوناً في ذلك البلد! وقد قاوم المسيحيون في تلك البلدان القومية الثورية الضغوط بوسائل مختلفة، ومن بينها الانتماء من جانب النخب الى الأحزاب القومية والثورية الحاكمة أو التي صارت حاكمة. لكن من ضمنها أيضاً الدخول في المعارضات الديموقراطية، والتواصل مع التيارات المماثلة في البلدان العربية وفي الخارج العالمي. وإذا كان ذلك قد أفاد بحدود معينة، فإن انكماش النشاط الخاص ومحاصرة المبادرات في المجالات الاقتصادية والثقافية والإنسانية، هدّآ من الاندفاع باتجاه الهجرة بشتى الوسائل، ولو بالمجيء الى لبنان من سورية والعراق وفلسطين. وآخر وسائل بعض الأنظمة الثورية لاستغلال الوجود المسيحي أو التأزم المسيحي، الزعم أمام الخارج الدولي أن من فضائل تلك الأنظمة أنها علمانية، وأنها تُحابي المسيحيين، وأنها تطلب دعم الخارج للاستمرار، كي لا تأتي الى السلطة راديكاليات إسلامية تُضرّ بالمسيحيين!

 

ولنصل بمناسبة ذكر الراديكاليات الى متغيرات البيئات الإسلامية الأكثرية، وتأثيراتها في مواطنيها المسيحيين. فالإحيائيات الإسلامية، والتي تهتم بالرموز والخصوصيات، ولا تأبه كثيراً للآخر المختلف دينياً أو إثنياً أو لا تعترف باختلافه أو لا تحتمله، ما عادت حركات نخب، بل صار لها جمهور كبير وكثيف. ومشكلاتها بالطبع وبالدرجة الأولى مع الأنظمة القائمة، لكنها بحكم تصوراتها الأساسية، وبرامجها، أو بالأحرى بحكم وعيها، تنشر أجواء من التشدد، ومن تجاهل الواقع التاريخي، ومن الميول الى الاستصغار أو الإلغاء. والطريف والمؤسي أن ذلك دفع الأنظمة القائمة ليس الى الاصطدام بها وحسب، بل إلى تبنّي ممارسات محافظة تقليدية أو مستجدة، القصد منها منافسة الأصوليين في الحرص على الإسلام، وفي نُصرة ما تعتبره توجُّهات إسلامية. ومن هذا الباب تأتي بعض المشكلات التي تظهر في مصر منذ آخر السبعينات من القرن الماضي، وازدادت في العقد الأخير، في شأن بناء الكنائس، وفي شأن الاختلاط بين المسيحيين والمسلمين، وفي شأن الفعالية السياسية للمسيحيين ضمن هيئات المجتمع المدني المعارضة أو غير الموالية للنظام.

 

ولا يُعاني المسيحيون اللبنانيون في الأساس من ضغوط دينية أو سياسية أو اقتصادية أو ثقافية، مشابهة لما في بلدان عربية مثل سورية والعراق ومصر. ويعمل مئات الألوف منهم في بلدان الخليج العربية. لكن الانقسامات الداخلية اللبنانية، والصراعات على أرض لبنان ومن حوله، دفعت الى السطح في العقود الأخيرة باتجاهين: اتجاه الهجرة، لتوافر الحركية في أوساط المسيحيين من جهة، والقدرة بالتالي على النجاح أكثر في الخارج. واتجاه الراديكالية السياسية والثقافية، تطلباً للمزيد من الفعالية والتأثير، وبأفكار مثل تحالف الأقليات، أو الانعزال عن المسلمين اجتماعياً وانتخابياً، أو تغيير الدستور أو تعديله، للأغراض ذاتها.

 

وفي المجمل، فإن المسيحية العربية لا تبدو في أحسن حالاتها. وهي تعاني من خطر حاضر في فلسطين بسبب قيام دولة إسرائيل، وفي العراق بسبب وقوعها في قلب التشابكات الدينية والإثنية والجغرافية هناك، بعد الاحتلال الأميركي للبلاد في العام 2003. وما كان هناك اهتمام عربي حقيقي على المستوى الرسمي أو مستوى أهل الرأي بالمشكلات التي يُعانيها اجتماعنا التاريخي، ومن ضمنها المكوِّن المسيحي العربي. ونحن نتطلع الى المزيد من الفعالية من جانب «الفريق العربي للحوار الإسلامي – المسيحي» في هذا الصدد. ويتضاءل حِراك مجلس الكنائس العالمي ونشاطه، ومجلس كنائس الشرق الأوسط. وقد حضرت فيهما بقوة الكنائس الأرثوذكسية والقبطية والإنجيلية. وكان مجلس كنائس الشرق الأوسط (الذي دخله الكاثوليك أيضاً في تسعينات القرن الماضي) بيئة جيدة للتفكير والنشاط. لكنه يعاني مشكلات كبرى الآن. وفضلاً عن حيرة الكنائس البروتستانتية الكبرى وضياعها في العقد الأخير، فإن الإنجيليين الجدد لا يبدون مهتمين بغير اجتذاب المسيحيين العرب وغيرهم، لاعتناق المذاهب الجديدة، واجتذابهم الى خارج فلسطين والعراق ومصر! أما الكاثوليكية فكنّا نعرف لها توجهاً واضحاً تجاه المسيحيين والمسلمين في العالم العربي، والمشرق، أيام البابا يوحنا بولس الثاني. أما مع البابا بنديكتوس السادس عشر، فالأحرى القول إننا لا نتبين له اتجاهاً محدداً. وهذا أمر لم نألفه من قبل. فالفاتيكان مؤسسة عالمية كبرى ومؤثرة. وقد تأسست سياساتها تجاه المسلمين في المجمع الفاتيكاني الثاني (1962 – 1965)، الذي حمل أطروحة الديانات الإبراهيمية، والتي رحَّب بها المسلمون العرب والمسيحيون العرب بقوة. وقد تضاءل التركيز الآن على أي من توجهات المجمع الفاتيكاني الثاني. ولا شك في أن لذلك تأثيراً سلبياً كبيراً في المسيحيين العرب، وفي العلاقات بين فريقي الأمة من المسلمين والمسيحيين. فعسى أن يكون مؤتمر «سانت أجيديو» مُضياً مستجداً في الاتجاه الصحيح. وعلى هذا، فإن المسؤولية عن هذا التأزم في حياة المسيحية العربية ووجودها تظلُّ على عواتقنا وفي عقولنا نحن العرب، وليس لدى أي جهة أخرى.

 

* كاتب لبناني