الحج البابوي… آفاق جديدة

 

عن ابونا – الأب عماد الطوال

أفاض الله بنعمه على المملكة الأردنية الهاشمية عندما خصّها بزيارة قداسة البابا بندكتوس السادس عشر المباركة لأرضها الطاهرة وشعبها الطيب إذ تبعت هذه الزيارة مثيلاتها وفي مدةٍ تقل عن نصف قرن لتستمر البركة التي ينعم بها ساكنو هذه المنطقة وليثبت أهل هذه المملكة كرم ضيافتهم وحسن استقبالهم وما هي إلا أخلاق تربوا عليها ومارسوها في السابق.

 

ففي عام 1964 استقبل الأردنيون وعلى رأسهم المغفور لهُ جلالة الملك حسين بن طلال طيّب الله ثراه البابا بولس السادس مسجلاً أول رحلة حج يقوم بها حبر أعظم خارج أسوار ايطاليا. تبع هذه الزيارة استقبال الأردنيين في عام 2000 يتقدمهم جلالة الملك عبدالله الثاني بن الحسين قداسة البابا يوحنا بولس الثاني. ألذي يمثل إنسانية الإنسان المحب المؤمن الطاهر الداعم للشباب.

 

وها هو اليوم يقف ذات الشعب إلى جانب ملكهم ليستقبلوا بحفاوة واهتمام وتقدير ضيف مليكهم وحامي كنيستهم قداسة البابا بندكتوس السادس عشر مثبتين أنّ هذه الأرض أرض الأردن مجرى النهر المقدس وموطئ أقدام الطاهرين المقدسين ومنبع الإيمان والقداسة بلد عبدالله بن الحسين الذي اعتاد من شعبه الوقوف خلفه وحوله حباً وإيماناً وانتماءً.

 

وقد ترجم الشعب ذلك عندما رأيناهُ أسرةً هاشميةً واحدة تجلّى فيها الأطفال والشباب والكبار مسيحيين ومسلمين في المدارس والجامعات الحكومية والخاصة ومختلف فئات الشعب يصطفون للترحيب بضيف مليكهم ليترجموا قولهُ: "المسيحييون في الأردن فئة هامة من مجتمعنا وقد كانوا على الدوام موضع احترامنا وتقديرنا, فهم يشاركون في الحياة السياسية والاقتصادية للوطن. يدلون بأصواتهم ولهم مواقعهم في البرلمان لهم الحرية في العبادة ولهم الحرية في بناء كنائسهم".

 

تمثّل الشعب الأردني ذلك عندما انتظروا ضيفهم متناسين الفروقات حاملين الشعارات, متناغمين مع نداء الواجب منسجمين مع أفكارهم واعتقاداتهم تجمعهم الأهازيج وتضمهّم (الصيوانات) التي ترسم صورة النخوة العربية وصورة حسن الضيافة والاستقبال.

 

لمسنا خلال زيارة قداسة البابا لأرض الوطن التناغم والتلاقي في الأفكار والخُطى بين قداسته وجلالة الملك (المعزّب) رغم الفارق العمري -أكثر من أربعين عاماً- لكن الهدف النبيل القائم على رفعة الإنسان بفكرهِ وشخصهِ ومكانتهِ جعلت من البابا الشيخ شاباً في الحلم والعزيمة والبعد في أفق التفكير.

 

عشنا في زيارة البابا بندكتوس إلى جانب جلالة الملك لقاء هيبة ووقار وحكمة وصداقة وود عاشاها معاً وعكساها على الشعب ولمس الحوار البنّاء وتبادل الرؤى الراقي والأفكار النيرة وعاش دور الإرادة الصالحة والهدف النبيل من أجل مصيره وواقعه.

 

وجدنا الأردن يقود الحوار بين الأديان وأثبت وجودهُ وفكرهُ ورأيه فكان لهُ رسالة تحترم ورأي يصان ورأس شامخة يتوجها جلالة الملك ويكللها الضيف الورع ثابت الخطى صاحب الهمّة.

 

زيارة قداسة البابا إلى الأردن حاجاً وضيفاً شخصياً لبيت كل أردني جاءت ضمن محاور عدّة:

 

أولها: المحور الترحيبي: وجسّدهُ الفرح والسرور الذي ارتسم على وجوه الشعب الأردني وتبعهُ استقبالهم الحافل وتجمعهم في كل مكان وطئت أقدام البابا عليه في أرض المملكة بدءاً من المطار ونهايةً بالمطار مروراً بزيارت متعددة: مركز سيدة السلام،جامع الحسين، جامعة مادبا، استاد عمان الدولي، مادبا والمغطس.

 

وقد ظهرت الحفاوة بقدومهِ من خلال استقبال جلالة الملك له ومن خلال التجهيزات المسبقة لقدومه  على صعيد البلد والإذاعة والتلفزيون الاردني التي لم يشهد لها أن غطت من السابق حدثاً مثل التغطية التي نالتها زيارة قداستهُ وقد أثبتت جدارتها وقدرتها على الترحيب فجعلت الأردن والعالم يعيش في ربيعٍ مستمرٍ خلال أيام الزيارة.

 

تعانقت الأعلام عالياً وتعانقت القلوب فجاء شكر الضيف بأمنياته البركة والسلام والازدهار لأرض الوطن وشعبه ومليكهِ.

 

ثم المحور الإسلامي المسيحي: الذي بدأ من لحظة هبوط طائرة البابا أرض المطار وتبادل الكلمات الترحيبية فاحترام الكنيسة للاسلام ولجهود جلالة الملك في إرساء وإعلان قيم الاسلام من خلال رسالة عمان (عام 2004) والتي شجعت على التسامح والتعايش والاعتدال والوسطية مما جعلها تتلاقى مع الديانة المسيحية في تعاليمها ومبادئها.

 

إذ جاءت الدعوة إلى التلاقي والنمو معاً في محبة الله العلي تحت رابطةٍ أخوية تجمع الواحد بالآخر يُترجمها احترام الحرية الدينية واحترام الطرفين لبعضهم البعض.

 

وهذا عهدنا بالأردن لأنّ أرضه غنيّة بالتاريخ والحضارات وهي مشبعة بالمعاني الدينية. وقد صرّح جلالة الملك أنّ الأردن أرض الإيمان للمسلمين والمسيحيين معاً حيث وجد الإيمان بالله واحد جذوره الأولى. ونحن كأردنيين نشرع ابوابنا لكل ضيف ونؤكد معاً أهمية التعايش والتناغم مع الديانات الأخرى ونعمل معاً على التصدي لأصوات التحريض والايدولوجيات الطامحة إلى التقسيم مما يؤذن بمعاناة أعمق وأكبر. نحن نحاول تجديد التزامنا معاً ليعمّ الاحترام المتبادل ونعمل من أجل حوار عالمي جديد قوامهُ التفاهم وتلاقي النوايا الطيبة.

 

ولا ننسى في هذا المحور شعور الأردن الدائم بالمسؤولية تجاه الآخر والأمل بالمستقبل الأفضل فبالتالي رسالة عمان كلمة مشتركة في الحوار الديني المسيحي والاسلامي.

 

وطرحت المحاور التي حملتها زيارة البابا (الحج البابوي) أيضاً المحور التربوي: كان ذلك من خلال تدشين جامعة مادبا التي جاءت استكمالاً لمسيرة الكنيسة الكاثوليكية في مجال التربية من خلال المدارس التي تستمد خبراتها من التربية والتعليم وبحضور البابا كانت ولادة خبرة جديدة في التعليم العالي بحثاً من الكنيسة عن النوع ذلك في عام 2009/2010.

 

وعلى رأس أهدافها:

 

1- انماء المواهب والميول النبيلة للأجيال اللاحقة من الطلبة وتهيئتهم لخدمة جماعة أكبر وتحسين مستوى حياتها.

 

2- نقل المعرفة وغرس محبة الحقيقة في قلوب الطلبة مما ينمي تمسكهم بالقيم السليمة.

 

3- الاسهام في صقل المواهب وإزالة الجهل والاحكام المسيئة والتعاون على كسر قيود الايدولوجيات القديمة والجديدة.

 

4- ثم ارتباط العلم والايمان في الجامعات والمدارس مما يؤلف مناسبة للشباب ليلتقوا ويتعلموا معاً حيث تنشأ نخبة مستعدة للعمل في سبيل السلام.

 

وهذا المجال يدعم ويبلور الحوار الديني: الذي يسهم في حقلي التربية والبحث العلمي من خلال القطاع المدني.

 

ونختم المحاور بأهمها على الاطلاق إذ هو أساس الدين أي دين وهو المحور الروحي: فزيارة البابا للحج والصلاة في أرض مقدسة وافتتاح الزيارة في مركز سيدة السلام ومن يرعاهُ من الشباب المتألمين والمرضى. ثم جبل نيبو محور الصلاة والأمل ثم صلاة الغروب ثم القداس الالهي في استاد عمان الدولي رمز الشركة والمشاركة ثم المغطس والذي يمثل عبوراً في حياتنا الروحية مجدداً مواعيد المعمودية.

 

وقد صرّح قداسته في خطاباته أنه يأتي حاملاً نية وأمنية واحدة: الصلاة من أجل عطية السلام والوحدة الغالية فالصلاة هي الرجاء والإيمان. إذا يأتي نجاح هذا الحج من قداسته لتكامل المحاور وعمقها وبعدها في نشر السلام…

 

السلام للأفراد والوالدين والأولاد وللجماعات

 

سلام للقدس, للأرض المقدسة, للمنطقة

 

سلام للأسرة البشرية جمعاء

 

سلام يولد من العدل والاستقامة والرأفة

 

سلام ينبع من التواضع والمغفرة والرغبة العكيقة للعيش المتناغم الواحد مع الآخر

 

شكراً لك يا رب لما نلناهُ من نعم وما ناله قداستهُ من نعم

عندما وطئ الأرض المقدسة.