عيد البشارة الذي قد يقلب موازين السلام في لبنان

 

 

 

لماذا يحتفل المسيحيون والمسلمون في لبنان للمرّة الأولى بعيد البشارة يوم 25 آذار ولا يحتفلون بأعياد مريمية أخرى كعيد ميلاد العذراء (8 أيلول) او عيد دخول العذراء الهيكل (21 تشرين الثاني)، وللعيدين جذور في التقليد التقوي القديم، المعيوش والكتابي (1).
 
ولماذا لا نحتفل بعيد الحبل بلا دنس (او العصمة من الخطيئة الأولى المتوارثة)، (يوافق يوم 8 او 9 كانون الأول)، ويعني هذا العيد ان السيّدة مريم معصومة من الخطيئة الأولى المتوارثة منذ ولادتها، وهذا له جذور أيضاً في الأثر الكتابي، المنحولات (إنجيل يعقوب التمهيدي) ونجد له صدىً في إعاذة امرأة عمران، أم مريم، لابنتها مريم ولذريّتها من الشيطان الرجيم في القرآن الكريم (2).
ولماذا أيضاً لا نعيّد عيد انتقال العذراء في الخامس عشر من شهر آب، وهو من أكبر أعياد مريم، المسمى في الشرق عيد الرقاد؟
ولماذا اخترنا البشارة كعيد؟ ولماذا أصلاً يعيّد المسلمون مع المسيحيين في عيد مريمي، مما لا سابقة له في الإسلام؟ والجواب لأن عيد البِشارة لن يشكّل خلافات عقدية بين المسلمين والمسيحيين، ولأننا نريد ان نحتفل بالبشارة التي تجمعنا، لا بالمناسبة التي قد تفرّقنا. فالبشارة التي تلقّتها مريم بأحشائها نتوجّه اليها لتلُمّ شملنا. وكأن المسلمين تيّقظوا فجأة الى هذه "الإشارة المريميّة" بتعبير أبو التلاقي المسيحي الإسلامي لويس ماسينيون، لاستنهاض القيم الأموميّة التي تمثّلها مريم في القرآن الكريم بامتياز، فأرادوا الاحتفال بها معاً علّهم ينبذوا الخلافات والصراعات ويستعيضوا عنها بالمشتركات وبالمرحمة التي تصل المسيحية بالإسلام.
ما هي البشارة بالنسبة الى المسيحيين وبالنسبة الى المسلمين؟
البشارة بالنسبة الى المسيحيين تعني الأخبار السارّة التي تلقّتها مريم بقبول وإيمان وطاعة، ففي الإنجيل وفق لوقا:
"
فقال الملاك: "لا تخافي يا مريمُ، فقد نِلت حظوةً عند الله. فستحملين وتلدين ابناً تسمّيه يسوع. سيكون عظيماً وابن العليّ يُدعى، ويولّيه الربّ الإله عرش أبيه داوود، ويملك على بيت يعقوب أبدَ الدهر، ولن يكون لملكه نهاية". (لوقا 1: 46-54)  
ولوقا هو الإنجيلي الأكثر حساسية للمرأة والفقير والمهمّش (3). فالملاك جبرائيل هنا كلّم مريم وسلّم عليها وأخبرها بنعم الله عليها، فكانت البشارة بالحمل والولادة والتسمية.
وكذلك كلّم الرسول مريم في القرآن الكريم في سورتين: في سورة مريم "قال:
"
إنّما أنا رسول ربّك لأهبَ لكِ غلاماً زكيّا" قالت: "أنّى يكون لي غلامٌ ولم يمسسني بشرٌ ولم أكُ بغيّاً"" قال: "كذلك قال ربُّكِ: هو عليّ هيّنٌ ولنجعله آيةً للناس ورحمةً منّا وكان أمراً مقضيّاً". (سورة مريم: الآية 19-21).
في الرواية القرآنية استقبلت مريم البِشارة بعدما قامت برحلة، انتبذت بها أهلها الى المكان القصيّ، لتمرّ بمخاض، على الصعيد الشخصي (الجسدي والنفسي)، وذلك لأنها تلد بمكان وحيدة وجائعة وعطشى وخائفة (من اتّهام القوم لها بعفّتها). مما يدلّ الى ان المخاض يقع على أكثر من مستوى، الا ان المعنى يبقى واحداً. ان السيّدة مريم، بانتباذها ومخاضها حملت أمانة تكليف المرأة لها، ومرّت بالاختبار الإيماني، كل ذلك تحضيراً لتلقّي البشارة على لسان الرسول، او روح الله كما تقول الآية: "فأرسلنا اليها روحنا فتمثّل لها بشراّ سويّاً" (سورة مريم الآية 17).
فالإعلان ان روح الله أرسل الى مريم، وان الملاك كلّمها كما يكلّم الأنبياء يجعل "مريم نبيّة،" وقد ناقش المسلمون المفسّرون وعلماء الكلام هذه المسألة بين مثبت ونافٍ (4)، كما ناقش المسيحيون مسألة أمومة مريم للرب (تيوتوكس) بين مثبت ونافٍ. لذلك قد نجد قاسماً مشتركاً في المكانة الدينيّة التي وصلت لها مريم بين التراثين. فهناك في المسيحيّة من لا يقبل أمومة مريم للإله (تيوتوكس)، وهناك من يعلّي شأن مريم الى مركز النبوّة بين المسلمين. فيلتقي هؤلاء المسيحيون والمسلمون في هذا الشأن الذي يعدّ شأناً عقائديّاً بامتياز، وان لسنا هنا في زمن النبوّة والأنبياء، بل نعطي هذا المثل على سبيل المحبة والرجاء.  
هذا في رحلة مريم الى الصحراء التي اكتملت بها ذات الأنثى بالأمومة، حين أظهرت مريم استعدادها لقبول كلمة العهد التي تجسّدت حياةً بالروح. والم المخاض تمرّ به كلّ أنثى قبل الولادة. فالكلام عن الخاصّ والقصد منه العام هي قاعدة نستمد منها فهم الآيات الكريمة. فكيف بالأنثى التي ستحمل الكلمة في ما بعد بالتدريب في المحراب على القنوت والسجود والركوع مع الراكعين. ففي سورة آل عمران، ونذر أمّها لها للتحرير في المعبد، ونذر مريم للرحمان صوماً (سورة مريم) ما يؤكّد لنا تدين المرأة والتزامها مرة أخرى العبادات والصلوات والنذور، وكأن هناك إعلاناً عن مسؤوليّة المرأة الخلافية على الأرض، وصلاحية تكليفها الديني. بل هناك أكثر من ذلك بالنسبة الى مريم. فقد اصطفيت عائلة مريم، آل عمران (وفق الرواية القرآنية)، على نفس المستوى مع آل إبراهيم (العائلة الإبراهيمية النبويّة) تثبيتاً لنسب مريم المصطفى:
"
انّ الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ذريّة بعضهم من بعض والله سميعٌ عليم" (سورة آل عمران: 33-34)
وذلك لتعزيز النسب الأمومي لمريم، التي لديها الاسم كما لديها قوّة التسمية. حيث يرد السيّد المسيح عيسى (عليه السلام) في القرآن الكريم دائماً بنسبه الى أمه، عيسى ابن مريم (عليهما السلام). هنا بشّرت مريم داخل المكان وهي معتكفة (المحراب او الهيكل)، كما انّها بشّرت به في سورة مريم خارج المكان (الصحراء)، وكأنها البشارة التي تشبه بشارة أنبياء العهد القديم. فجاءت الآية في البشارة هنا على لسان الملك بالجمع تعظيماً للمناسبة: إذ قالت الملائكة: "يا مريمُ! إنّ الله يُبشِرُك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيهاً في الدنيا والآخرة ومن المقرّبين ويكلّم الناس في المهد وكهلاً ومن الصالحين". (سورة آل عمران: 45-46)
نعم! نحتفل بالبشارة لأن الآيات الكريمة في الإنجيل (وفق لوقا ومتّى) وفي القرآن الكريم (سورة مريم ثمّ سورة آل عمران) سجّلا هذا الحدث العظيم في تاريخ الخلاص الإيماني، الذي كلّم به الملاك مرسلاً من الله الى العذراء لتحمل بشرى الله بحياة جديدة. ان القدسية التي وردت بها آيات مريم في كلا التقليدين الكتابيين يجعل المعطيات الكتابية المرتبطة بمريم مهمة لإبرازها واستنهاض التقوى بمريم، فهي للمسيحي ساهمت، كما قال لنا الأب أنطون مخايل، بالعمل الخلاصيالتاريخي وبحضورها المستمرّ بقلب المسيحي. أما بالنسبة للمسلم فقد ساهمت بحمل الكلمة وبالتكليف لها على أعلى مستوى. فلماذا غابت السيّدة مريم كل هذه السنين عن المعيوش عند المسلمين؟ فالمسلم لا يعيش مريم كما يعيشها المسيحي، وان يذكرها كلّ يوم بتلاوته الآيات الكريمة التي نزلت قرآناً في مريم.
بالإضافة:
في التقليد اللوقاوي (الإنجيل وفق لوقا) هناك احتفال بالبشارة حين أعاد لوقا تشكيل ترنيمة الشكر على لسان الأنثى الفرحة بحملها وببطنها في سياق الزيارة التي قامت بها الى نسيبتها أليصابات. فجاء نشيد مريم "تعظّم نفسي الربّ" بهذا الشكل الذي يعني ان حين تبشّر الأنثى بخبر مثل ذلك تقوم بإلقاء ترنيمة الشكر للربّ. ولحّن الموسيقيّون الألحان شرقاً وغرباً (الماغنيفيكات) على شرف البِشارة التي تتعلّق بالولادة، درب النور والخلاص وتحرير الإنسان. وكذلك احتفلت الآيات القرآنية برحلة مريم وحملها، ووقف الخطاب الأصل مع الأنثى في وحشتها وخوفها، وهي تضع وحيدة. فاحتفلت الآيات بالوالدة والمولود، لكن هنا على لسان الابن البارّ عيسى عليه السلام الذي أعلن عن برّ والدته والتواضع لها على نفس المستوى مع إقامته الصلاة والزكاة:
قال إنّي عبد الله اتاني الكتاب وجعلني نبيّا وجعلني مباركاً أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دُمتُ حيّا وبَرّاً بوالدتي ولم يجعلني جبّاراً شقيّا والسلام عليّ يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيّا (سورة مريم: الآية 31-32).
إذاً نحن نحتفل لأجل الأنثى برَحمها والرحمة بها، وجذر الكلمة، ر ح م، تذكّر بالكلمة المفتاح في سورة مريم "الرحمان". فقد بدأت السورة بكلمة "الرحمة": "ذكر رحمت ربك عبده زكريّا"، وكذلك انتهت سورة مريم بربط كلمة الرحمن بالودّ: "سيجعل لهم الرحمن ودّاً فإنما يسّرناه بلسانك لتبشّر به المتّقين وتنذر به قوماً لدّا".
وكأن البشارتين بالولادتين الإعجازيّتين لزكريا بيحيى ولمريم بعيسى، هي بشارة للنبي (صلعم) باللسان الذي سيبشّر به المتّقين، فيصبح محمد النبيّ، في سياق البِشارات، أيّ في سياق حالة النبيّ (صلعم) في صراعه مع قومه في مكّة (سورة مريم مكّيّة)، واحداً مع زكريّا ومريم.
 
آيات السيّدة مريم وابنها وجدت منذ مئات السنين، في التقليدين المسيحي والإسلامي، فلماذا يلتفت اليها اللبنانيون الآن؟ ولماذا قامت مجموعة (قدامى مدرسة الجمهور مع شخصيّات مسيحية وإسلاميّة رسمية) تحضّر لهذا العيد للاحتفال السنوي بعيد يجمع بين اللبنانيين حول "البِشارة" التي تعني فعلاً قول حق لمريم، الأم التي تجمع ولا تفرّق.
هناك أكثر من عشر جمعيّات مريميّة تجتمع أسبوعيّاً للتحضير لهذه المناسبة، وينتدب المسيحيون والمسلمون كنائسهم وطوائفهم وجمعيّاتهم المريمية والخيرية المختلفة للمشاركة في هذا التحضير. ويستدعى الشيوخ والآباء (لا الشيخات والأمّهات) فقط لوضع السياسات، ولإلقاء الكلمات والشهادات. ونحن وزميلاتي في درب مريم نحضر منذ بدأ هذا اللقاء الكبير حول مريم (2007) فنشارك، كما شاركت مريم بشكل متواضع. وأحياناً كهذه السنة ننذر للرحمان صوماً (صمتاً) خوفاً على مريم من المزايدات.
فالمرأة المثال، التي تلقّت التكليف لها بتواضع، وتمثّل القيم الأموميّة بامتياز، نعيد عيدها بالدرجة الأولى. ونحن نلجأ اليها كأم ولا نلجأ اليها كأب، لتصبح سلطة أخرى نتنازعها. هي الأمّ التي نعيّد لها بلا ضجّة إعلامية، وبحضور روحي، بالتراتيل والمدائح والكلمات، نرقّي به أنفسنا بالقيم الشعائرية والفنيّة والبيانية التي لدينا، على أمل ان نفتح قلوبنا للغير والغيريّة.
مريم لا تريد عيداً قبل ان تتأكّد ان المدعويين الى العيد من المسيحيين والمسلمين صادقون بالبشارة، يعرفون بعضهم جيّداً، لديهم الاستعداد للتقبّل والتسامح، ولنشر ثقافة التعارف والودّ والسلام.
سنحتاج ربّما الى لاهوت مريمي، تعلمناه من لوقا، هو لاهوت نعمة، ومن سورة مريم، هو لاهوت رحمة. نناقشه ونكون واضحين معه، خاصة أن هذا العيد جديد على المسلمين. فرموز مريم، باستثناء اسمها، نكاد لا نسمع بها. فليس هناك من جامع يسمّى جامع السيدة مريم، او شجرة تسمّى شجرة مريم، كانت نخلة أرزة أم شجرة زيتون. بل لولا السيدة عائشة بكّار، السيدة المتواضعة التي نذرت بيتها، ليقام مكانه مسجد، لما سمعنا بجامع عاشة بكّار. بينما لا تحصى الكنائس التي تسمّى باسم السيّدة مريم، سيّدة النوريّة (وسط بيروت)، سيّدة المنطرة (مغدوشة)، سيّدة التلّة (دير القمر) وعشرات منها. وكلها رموز الأمّ التي نخاف على غيابها ونتطلّع اليها في نفسها. فهل في استحضار المسلمين لمريم، التي غابت قروناً عن وجدانهم وعيشهم وخطابهم، وعن الاستحضار السماوي او الإلهي لها في آية:
"
واذكر في الكتاب مريم"، هو استحضار استنهاض لقلب الموازين للبناني بجميع مذاهبه.
الاحتفال بالبشارة هو الاحتفال بحياة جديدة. تعدنا بها مريم كما جرى من قبل. انه عيد التواضع أمام الرأي المغاير لنا، العمل بإخلاص دون ضجّة، التوقّف عن ابتذال الإنسان الضعيف والمهمّش او الإنسان الغريب داخلنا. فهذا العيد لا يعني اننا نريد مزيداً من الأعياد الوطنية. او ان بعضهم يريد ان يسجّل لنفسه الأسبقية في تسجيل العيد كما حصل، بل يعني اننا بتنا مسؤولين ومسؤولات أمام قيم العدالة والحقّ والمواطنة التي تقوم على المساواة. بتنا مسؤولين أمام هذا العيد الذي يستحضر من ذاكرته المنسية هذا الحضور المريمي، لبنانيون ولبنانيات، لنصبح فعلاً نموذجاً للتعايش.
للذين سألوني عن عيد البشارة (ماذا تعني)، خاصة المسلمين منهم، ذلك ان المسلمين باتوا يريدون ان يعيشوا تقواهم في مريم، أقول ان العيد هو مستغرب فعلاً وجديد. لكنه إذ لم يفرّغ من معناه، سيصبح هو العيد الذي يقلب الموازين بالنسبة للسلام في لبنان والضعفاء في لبنان والمتواضعين في لبنان والإنسان في لبنان.

(1) كمنحولات العهد الجديد بالأخصّ إنجيل يعقوب التمهيدي، الذي لقّب بالتمهيدي لأنه يمهّد لإنجيلي لوقا ومتّى. وهذا الإنجيل لدينا منه النسخة اليونانية من القرن الثاني ميلادي وله صدىً قويّاً في الليتورجيا والفنون.
(2)
آية الإعاذة على لسان امرأة عمران: "وإنّي أعيذها بك وذريّتها من الشيطان الرجيم" (سورة آل عمران: الآية ). الا ان المعنى أفرغ إسلاميّاً ذلك انه لا يوجد أصلاً في الإسلام عقيدة عصمة من الخطيئة الأولى المتوارثة، فحتى الأنبياء تخطئ وتطلب الغفران ويغفر الله لهم، فلماذا النبي عيسى وأمه عليهما السلام؟ على حدّ قول المفسّرين.
(3)
انظر، حُسن عبّود، الفصل الأخير من كتابها،  السيّدة مريم في القرآن الكريم: قراءة أدبيّة، (بيروت: دار الساقي، 2010).
(4)
ظهر "النزاع" حول مسألة "نبوّة مريم" في الأندلس، كما أخبرنا الفقيه الظاهري ابن حزم الأندلسي وصاحب التفسير الكبير القرطبي الفقيه المالكي الأندلسي، لكن لم تثبت أو تنفى المسألة. وقد نوقشت المسألة آنذاك من باب كرامات الأولياء (مريم صدّيقة)، وصدّيقيّتهم مقابل نبوّة الأنبياء ومعجزاتهم (مريم نبيّة).