مولده: في بقاعكفرا، جارة وادي قاديشا وأرز الرب، البعيدة مئة وأربعين كيلو متراً إلى شمال بيروت، في أعلى قرية من قرى لبنان، وُلد شربل مخلوف في 8 أيار 1828،إبناً خامساً لأنطوان مخلوف من بقاعكفرا وبريجيتا الشدياق مزبشري. وقد دُعي يوم عماده يوسف أسرة قروية جبلية تعيش من عمل يديها في الحقول والكروم، ورأسمالها الأوحد إيمانها الحي. وكان ليوسف خالان راهبان، من الرهبانية المارونية، حبيسان في صومعة مار أنطونيوس قزحيا على مسية ساعتين من القرية. تعلّم يوسف مبادئ القراءة والكتابة تحت سنديانة الكنيسة شأن جميع أبناء جبل لبنان في ذلك العهد. وانتقل إلى العمل.
إلى الدير: سنة 1850 لبّى نداء الرب وانتمى إلى الرهبانية اللبنانية المارونية وكان قد أسسها عام 1695 ثلاثة شبّان موارنة من حلب. ارتدى ثوب الابتداء في دير سيدة ميفوق واتخذ اسم “شربل”. اسم جديد لمعمودية جديدة متحررة من كل تراث دنيوي. قضى سنة في دير سيدة ميفوق وانتقل منه إلى دير مار مارون عنايا الذي سوف تحمل قداسة الأب شربل اسمه إلى أطراف الأرض. وقد وُضع حجر الأساس فيه سنة مولد الأب شربل وهو يعلو 1300متر عن سطح البحر. كان شربل في الخامسة والعشرين من عمره عندما جثا أمام مذبح الرب ولفظ صورة العهد الرباني القائم على نذور الفقر والعفة والطاعة، التي يدعوها التصوّف المسيحي “المشورات الانجيلية”.
من دير عنايا انتقل شربل إلى دير كفيفان القريب من البترون. وقد اشتهر الدير بقداسة راهب آخرهو الخوري نعمة الله الحرديني. قضى شربل في هذا الدير ست سنين يدرس الفلسف واللاهوت. وكانت كلمة الله تتجلى لروحه أكثر فأكثر، وتتفجر في كيانه ينابيع نور وحق وحياة تقود خطاه في سر المسيح الفادي. وتنتهي دراسته فيرقى إلى درجة الكهنوت المقدسة في 23 تموز 1859 .
ليتورجيا القربان اليومية هي، منذ ذلك اليوم، محور حياته وسر الروحانية الفريدة التي تجلّت فيه. فقد كان نهاره كله، والجزء الأكبر من ليله، بكل ما يملأهما من صلاة خاشعة وتأمل وعمل يدوي وتقشف وإماتة للجسد والروح، استعداداً لها وإشراكاً بها وامتداداً حياتياً لها.
ما عتم الكاهن الجديد أن تلقى أمراً بالعودة إلى دير مار مارون عنايا. سيسلخ في هذا الدير ست عشرة سنة من حياته بين أخوته الرهبان، يشاطرهم حياة الصلاة والعمل اليدوي والخدمة الرسولية في القرى المجاورة للدير، قبل أن يعتزل في المحبسة.
حبيس الصومعة: الصومعة التابعة لدير مار مارون عنايا يعود تاريخ بنائها إلى عام 1798. بناها شابان من قرية أهمج القريبة، هما يوسف أبي روميا وداود خليفة. وكانا قد اعتزلا العالم، يعيشان فيها حياة توبة وزهد وصلاة. ثم انضما، في ما بعد، إلى الرهبانية اللبنانية المارونية، ووهبا الصومعة لدير مار مارون الذي قام بجوارها وقد بنيت على اسم الرسولين بطرس وبولس. هنا، على هذه القمة، يتجلى الرب يسوع لمن يصعد للقائه حاملاً صليبه على طريق الجلجلة.على هذه القمة، سلخ شربل ثلاثة وعشرين عاماً وعلى مذبح كنيستها أشرفت حياته الأرضية على نهايتها بقداسه الأخير.
الحياة في الصومعة: الراهب الحبيس أو المتنسك يخضع لقانون صارم ويظل مرتبطاً بالدير المجاور للصومعة حيث يعيش والرهبانية اللبنانية والمارونية هي وحدها، بين الرهبانيات الشرقية، التي لم تنقطع فيها سلسلة الحبساء منذ تأسيسها. وهذه نعمة، وهذا غنى روحي لها وللكنيسة، وهذا شرف عظيم ووجه من وجوه عافيتها الرهبانية.
لا يمكن أن تمتد الكتابة طويلاً في تفاصيل أحداث حياة شربل في صومعة دير عنايا. الكثافة فيها ليست كثافة الأحداث، وعظمتها ليست العظمة في رؤية البشر. بل كثافة النعمةوالحياة الخفية في الله وعظمة المحبة التي ترفع أحقر ما في نظر البشر إلى القيمة الكلية، القيمة المطلقة، القيمة القصوى، إلى الله. تلك كانت حياة يسوع ومريم ويوسف في بيت الناصرة. الصفحات الكثيرة كتبت وسوف تكتب في لاهوت سر حياته في المسيح مصلوباً ومائتاً على الصليب وممجداً بالقيامة والصعود، وفي النور الذي انطلق منها فغمر لبنان وكنيسة الشرق والكنيسة جمعاء، وفي المعجزات التي تناولت الجسد والروح في زوّار ضريحه العابق بعبير القداسة.
حياة شربل في الصومعة، حياة البطولة الإنجيلية في الصلاة والزهد وحمل الصليب، وفي إماتة الجسد والروح، وفي الفقر والعفة والطاعة، وفي تواضع العمل اليدوي والخدمة، وفي المحبة التي تفيض عطاء ذات وداعة. والانتصار على ملل الرتابة فيها عنصر من عناصر هذه البطولة الانجيلية.
مرضه الأخير وانتقاله إلى الحياة السماوية: في 16 كانون الأول 1898، كان شربل يقيم القداس الإلهي وفجأة أصيب بالفالج. فأنزله رفيقه عن المذبح وحمله إلى غرفته. طال نزاعه ثمانية أيام، قاسى فيها الألم الشديد في هدوء وسكينة والصلاة لا تفارق شفتيه، صلاة القداس التي لم يستطع على المذبح أن يتلوها كاملة. لقد بلغت الذبيحة ذروتها، ونضجت نفس شربل في سر المسيح المصلوب، إيماناً ورجاء ومحبة. بقي أن تعبر جسر الموت لتعود إلى بيت الآب. كان ذلك عشية عيد الميلاد في 24 كانون الأول 1898: ذكرى ميلاد يسوع على الأرض، وميلاد شربل مخلوف في السماء. على فراش حقير منسوج من شعر الماعز ووسادة هي حزمة من الحطب فاضت روح شربل وانتهت مسيرته على الأرض.
يوم عيد الميلاد، ينطلق من الصومعة موكب صغير. زرافة من رهبان ومزارعين يحملون على لوح من خشب جثمان شربل ملفوفاً بعباءته الرهبانية الخشنة. الموكب يتجه صوب دير مار مارون عنايا، عبر الثلوج الكثيفة المتراكمة على الطريق الوعرة. يسجى الجثمان في الكنيسة. وفي اليوم الثاني لعيد الميلاد يصلى عليه ويدفن في مقبرة الدير بدون تابوت على عادة الرهبان.
هذا الجثمان ظل طوال ثمان وستين سنة دون انحلال، كما كان يوم دفنه. يرشح عرقاً دموياً، وقد أجريت عليه شتى الكشوفات والاختبارات الطبية في لبنان وخارج لبنان، فما استطاع العلم أن يعطي أي تفسير للمعجزة، واشترك في هذه اللجنة أئمة رجال الكنيسة والعلم والمجتمع كما هي عادة الكنيسة في تصرفها عندما تحقق في مثل هذه الأوضاع الخارقة، وقد أخرج مراراً من القبر بحضور اللجان المختصة وبدّلت الأثواب التي عليه. إنه اليوم في وضعه الأخير. الجثمان معروض في تابوت من زجاج. لقد ذاب الجثمانمع بقاء سلامته من الفساد ورشح العرق الدموي العجيب. والضريح والصومعة والدير نبعة أشفية للنفوس والأجساد، يؤمه مئات الألوف من المؤمنين وترد إلى الدير أكداس الرسائل من جميع أقطار العالم وبمختلف اللغات، هذه تحمل خبر شفاء، وتلك تطلب شفاعة أو صلاة أو ذخيرة وأخرى تستفسر أوتنفي نذراً. في أقل من سنتين، 135ألف رسالة آتية من 95 بلداً انضمت منسّقة إلى متحف ناسك فقير لم يكن يحسن غير الصلاة والصمت والطاعة وعمل التوبة والشغل اليدوي وحمل الصليب.
شربل يكرّم على المذبح: دعاوى التطويب والتقديس في التشريع الحاضر تدوم عشرات وعشرات السنين، وأحياناً مئات السنين. يتناول التحقيق في دقة ما بعدها دقة حياة رجل الله وكتاياته وأقواله وأثره في محيطه، وما ينسب إليه من معجزات. فلجان قانونية، ولجان لاهوتية، ولجان طبية وهيئات قضائية ولوائح ومرافعات مع رجل الله وضده. وفي الفاتيكان دائرة خاصة لهذا الشأن.
أعلن قداسة البابا السادس شربل طوباوياً في 5 كانون الأول 1965 في احتفال مهيب أقيم في كاتدرائية القديس بطرس العظمى حققت فيهما الدوائر المختصة وأقرّت صحتهما.
ويوم الأحد 9 تشرين الأول 1977 أعلن قداسة البابا نفسه شربل قديساً، فاتسع نطاق تكريمه كطوباوي محصوراً في كنيسته.
كبرى عجائب الأب شربل
إنها قصة شفاء عجيب منَّ به الله على الأخت ماري آبل قمري من راهبات القلبين الأقدسين بشفاعة الأب شريبل مخلوف. كانت الأخت ماري مبتلاة بأمراض وقف إزاءها الطب عاجزاً وقطع الأطباء الأمل في شفائها. ولمّا كانت على قيد شبرين من الموت رغبت في زيارة ضريح الراهب القديس الكائن في دير مار مارون عنايا فحقق الرؤساء رغبتها وهناك على ضريح الرجل البار تمت الأعجوبة. ونحن نسرد هنا تقرير الأخت ماري عن شفائها الخارق وقد صدقته بحرفه بخط يدها وإمضائها في 19 تموز 1950:
” أنا الأخت ماري آبل من راهبات القلبين الأقدسين عمري 37 سنة، ابنة رشيد القمري من أسرة فرحات، ونظيرة الخوري بطرس رزق من حمانا. دخلت جمعية القلبين الأقدسين بعمر ست عشرة سنة وذلك في 8 أيلول سنة 1929 في دير الابتداء في بكفيا. وكنت متمتعة بعافية تامة إلى سنة 1936، التي أصبت فيها بألم في معدتي وكنت اتقيأ كل ما أتناوله من المآكل. فعالجني أحد الأطباء ولم أستفد من علاجه لعد إصابته المرض، وظللت أقذف كل ما أتناوله نحواً من سبعة أشهر. وفي صيف سنة 1936 المذكورة صعدت إلى الجرد تبديلاً للهواء وأملاً بتحسن صحتي فكان الأمر عكس ما أردت فازدادت سوءاً يوم عن يوم، ففحصني الدكتور مراجل المصري المصطاف في حمانا، الاختصاصي بأمراض المعدة، فحكم بوجود قرحة كبيرة في معدتي وأشار عليَّ بالتصوير على الأشعة الكهربائية. فلما أخذت الصورة ظهرت فيها قرحة كبيرة كما قال فاستعملت علاجاً وصفه لي هذا الطبيب ولم أستفد منه. فنوجّهت عندئذٍ إلى الدكتور الياس البعقليني الجراح المشهور، فبعد أن تصوَّرت على الأشعة قرر غسل المعدة وتنظيفها مرات عديدة بواسطة نربيش ( Lavage d’estomac ) ثم أجرى لي عملاً جراحياً ظللت تحت مبضعه ساعتين ونصف ساعة. فوجد قرحة كبيرة في المعدة حتى أنَّ الكبد والمرارة والكلوة كانت كلها ملتصقة بعضها ببعض كأنها قطعة واحدة ولا تقوم بوظائفها. وأبقى قسماً من جرح العملية مفتوحاً لأجل التنظيف ومداواة القرحة. وبعد أن ختم الرجح رجعت إلى حالة القيء قبل العملية وأخذت حالتي تزداد سوءاً وخطراً، فقرر الأطباء الجراحون منهم والاختصاصيون بالأكراض الداخلية الاجماع معاً للمداواة في وضعي الحاضر، فأجمعوا على إجراء عملية ثانية خطرة استمرت أربع ساعات. وكانت النتيجة أسوأ من المرة الأولى لأنَّ الالتصاقات قد ازدادت، وصارت المصارين من الخارج ملتصقة بعضها ببعض ولم يستأصل الأطباء إلاّ قسماً من الالتصاقات خشية أن أموت، وكانت المرارة تفرز مادة أدفعها من فمي وهي التي سببت لي هذا ” التراجع ” الذي لازمني سنين عديدة ومن ذاك الحين ابتدأت مرحلة آلامي التي دامت نحواً من أربع عشرة سنة، وكنت من خلال الأربع السنين الأولى منها أقوى على السير في داخل الدير، ولم أكن أغتذي في هذه المدة نفسها إلاّ قليلاً لأنّي كنت أقذف كل مأكل أتناوله، وبسبب ذلك ضعف جسمي كثيراً وصرت أشعر بآلام حادة في كل عظام جسمي.
ومنذ سنة 1942 بدأت عوارض جديدة تنتابني، على أثرها شُلَت يدي اليمنى ومن سنة 1940 لازمت الفراش ليلاً ونهاراً، وكنت طوال هذه المدة لا أستطيع المشي إلاّ بالتوكأ على العصا وبمساعدة إحدى الراهبات لقطع مسافة مترين تفصلني عن الكنيسة لسماع القداس وزيارة القربان الأقدس. وبسبب شدة مرضي وكثرة المراجعة نخرت أسناني وتهرأت فالتزمت أن أقلعها. وفي خلال هذه العوارض الشديدة مُسحت بزيت المرضى ثلاث مرات لأني اوشكت على الخطر.
ولمّا كنت أسمع بعجائب رجل الله الأب شربل، أخذت بطلب شفاعته والتوسّل إليه وقلت له: ” إذا أردت أن تشفيني دعني أراك في منامي ” وفي ليلة هذا اليوم الذي طلبت فيه رأيته في الحلم واقفاً قرب سريري وباسطاً يديه فوقه. والمدهش هو أني شاهدت الأب شربل بحسب الصورة العجائبية الجديدة قبل أن أعرفها. ولمّا عُرضت عليَّ صورته راكعاً على طبق قلت لمن أروني إيّاه: ليس هذا الشخص الذي رأيته في الحلم. حتى أروني فيما بعد صورته التي ظهرت بنوع عجائبي فإذا هي صورة الشخص الذي ظهر لي في المنام. وحلمت أيضاً مرة ثانية: أني موجودة في معبد صغير وساجدة أمام المذبح أصلّي وإذا بالشموع أضاءت فجأة ورأيت الأب شربل راكعاً فرفع يده وباركني.
وفي صباح الثلاثاء الواقع في 11 تموز سنة 1950 تركتُ دير بكفيا الساعة العاشرة إلاّ ثلث وتوجهت إلى دير مار مارون عنايا برفقة الأخوات الراهبات: غيزابيل الغريّب رئيسة دير جبيل وبرندت نفّاع معلمة المبتدئات في دير بكفيا وماري متيلد زنبقة وليوننتين رحمة، وحُملت على كرسي إلى السيارة، وكان السفر متعباً عليَّ جداً لأني طوال الطريق كنت أتقيأ، فوصلت الدير بعناء شديد، فحملني هناك اثنان من رجال الصحية على كرسي وأنزلاني إلى قبر رجل الله الأب شربل، فرأيت حوله كثيراً من المرضى من عميان وخرس وعرج وأشلاء الخ. فرفعني الرجلان المذكوران على الكرسي حتى لمست بيدي بلاطة الضريح وقبلتها. وما كادت يداي تمس هذه البلاطة حتى شعرت كأنَّ تياراً (Courant ) يسري في سلسلة ظهري. ثمَّ أصعدوني إلى غرفة خاصة في الدير فيها سرير من ” الرفّاس ” لأرتاح قليلاً من تعب السفر، ثم أخذوني لزيارة تابوت الأب شربل القديم فصليت هناك مع بقية المرضى وأُرجعت إلى الغرفة للراحة.
وعند المساء طلبت من الأخت غيزابيل رئيسة دير جبيل أن أبيت ليلتي قرب الضريح فقالت لي: ” إنَّ ازدحام المرضى عليه كثير فلا تستطيعين الرقاد، ففي غير هذه الليلة ترقدين ” فقلت عندئذٍ في نفسي: ” يا بونا شربل أنت راهب وأنا راهبة وأنت علم أنَّ الراهب ملتزم بالطاعة. إنّي راغبة في قضاء ليلة بالصلاة قرب ضريحك وأرى نفسي أني راقدة على سرير من رفاس في الغرفة المعطاة لي، فعليك إذاً أنت العمل”. قلتُ وبتُّ تلك الليلة مع بعض الراهبات الباقيات في عنايا في الغرفة الموما إليها.
وفي صباح اليوم التالي أنزلوني محمولة على كرسي إلى الضريح حيث حضرت تلاوة ثلاثة قداديس، فصليت وتناولت القربان المقدّس. وفي خلال هذا الوقت بدأت أشعر باوجاع في رجليَّ، وبعد مرور نحو ثلاث ساعات عليَّ وأنا أصلّي، طلبوا إليَّ أن أغادر الضريح إلى غرفتي لتناول شيء من الطعام. وكان طعامي في الصباح فنجان قهوة إلى الظهر، فرفضت مغادرة الضريح قبل أن أُشفى. وبعد مرور نصف ساعة حضرت رجال الصحية وأخرجوا المرضى عن القبر لتطهير المكان، فحملني اثنان على كرسي إلى خارج الضريح، فأخذنا نصلي. ولمّا انتهوا من عمل التطهير حملني اثنان إلى القبر فقلت لهما:” أشكركما على صنيعكما معي، وإن شاء الله لا أعذبكما بعد بحملي مرة أخرى لأني سأخرج من القبر ماشية “.
وبينما أنا أصلي أمام الضريح الصلاة العامة التي يرددها المرضى هناك بالتوسل والدموع والإيمان الحي متحدين ومصلين لأجل بعضنا بعضاً، وكان نظري إذ ذاك شاخصاً إلى بلاطة الضريح، وإذا بي أرى اسم الأب شربل المحفور على هذه البلاطة مكللاً بالعرق وكانت نقاط الماء عليه تتلألأ تلألؤاً، فلم أصدق نظري في الأول، فأردت أن أتحقق، فتوكأت على كرسي من جهة ومن جهة ثانية على الحائط وتفرست ملياً فتحققت عندئذٍ ما رأيته وأخذت حالاً منديلاً من جيبي وقلت في نفسي: ” إنَّ نقط الماء هذه تخصني وهذه هديةى الأب شربل إليَّ فسأنهذ وأمسحها بمنديلي وأمدُّ بها موضع الوجع ” فمسحت هذه النقط فتبلل منها منديلي وأجريت ما قصدته من مسح مكان آلامي بها، ونهضت حالاً على رجليَّ بحضور رفيقاتي الراهبات والجمهور الموجود على الضريح من مرضى وأصحّاء ومشيت، فعندئذٍ بُدىء بالزغردة وقرع الأجراس ابتهاجاً بشفائي وشكراً لله.
ولما خرجت عن القبر لحق بي كل الناس هناك متعجبين من شفائي وممجدين الله. ومن بين هذه الجماهير الغفيرة تقدّم إليَّ السيد ميشيل السروجي من زحلة الذي كانت عقد عموده الفقري مصابة بعطب وشُفي بشفاعة الأب شربل والذي يخدم الآن في دير عنايا، ورفعني على يديه وصاح أمام هذه الجماهير: ” انظروا الحامل والمحمول، والويل لمن ليس عنده إيمان “.
دخلنا كنيسة الدير وحضرنا الاحتفال بزياح القربان المقدّس، وكان بين الحاضرين خمسة من الرهبان اليسوعيين: ” الأب كابيلو والأب كونسكي مدير جامعة القديس يوسف والأب بشير آجيا والأخ يوسف ماهر والأخ فيليب، فصعد الأب آجيا درجة المذبح وألقى على مسامع الجمهور كلمة وجيزة قصَّ فيها كيفية مرضي وشكر الله تعالى على أعجوبة شفائي بشفاعة الأب شربل داعياً الشعب إلى التمسّك بالدين. وبعد نهاية الطواف بالقربان المقدّس الذي استمر نحواً من ساعتين، طلب مني الدكتور يوسف فرحات طبيب الصحية الذي كان هناك أن أعطيه تقريري ففعلت.
ومما يقضي بالعجب: أني خرجت من دير بكفيا إلى دير عنايا الساعة العاشرة إلا ثلث من يوم الثلاثاء كما مر، وحدثت أعجوبة شفائي يوم الأربعاء 12 تموز في نفس هذه الساعة، أعني الساعة العاشرة إلا ثلث. وعند المساء صعدت إلى محبسة الدير ماشية المسافة التي لا تصلها السيارة ورقدت تلك الليلة هناك وتناولت طعام العشاء في المكان الذي كان يتناول فيه أكله الأب شربل الحبيس.
ولما نهضت عن القبر ماشية كان بقربي من جمهور المرضى رجل من أبناء الشيعة، فصرخ بأعلى صوته قائلاً:” أريد أن أعتنق الدين المسيحي، وتقدَّم مني رجل آخر مصري مبتلى بالصمم وقال لي:” إنك أعطيتني الإيمان، أتيت من مصر لأُشفى من الصمم، فأعطاني ربي البصر للنفس”.
الخوارق حول قبر الأب شربل مخلوف
اهتزت جوانب لبنان غبطة وحماساً وفخاراً بما جرى ويجري حتى يومنا هذا من الخوارق حول ضريح الراهب اللبناني الناسك الأب شربل مخلوف، وما زالت الجماهير تتوافد من كافة أطراف العالم على دير مار مارون عنايا قرب جبيل باندفاع وايمان للتبرك من جثمان هذا الرجل البار وطلب شفاعته. ويغص كل يوم، الضريح بجموع المرضى من مخلعين وعميان وعرج وخرس وذوي الصمم وغيرهم من المبتلين بعاهات مستعصية وعلل مزمنة، والكل يذرفون العبرات بحرقة ولوعة ملتمسين الشفاء والتعزية.
ومما استرعى انتباه السلطة الكنسية هناك، منذ وفاة هذا الناسك التقي الورع، الحوادث الخارقة التي جرت على ضريحه. فاخرج جثمانه سنة بعد وفاته أي عام 1899 فوجد سليماً والثياب التي عليه لم يمسها البلى مع أنه كان مدفوناً دون تابوت حسب عادة الرهبان والحبساء وقد غمرت المياه ذلك المكان عدة أشهر. وشاهد الحاضرون جثة الأب شربل تنضح عرقاً هو مزيج من الدم والماء. فوضعت أنئذ في تابوت غطاؤه من زجاج وصمدت في غرفة من غرف الدير السفلي. وخف المؤمنون القاطنون في جوار الدير ليروا هذه الظاهرة العجيبة ويتباركوا من الجثمان.
وفي 4 آذار 1926 تألفت لجنة خاصة، بايعاز من الكرسي الرسولي، للتحقيق والدرس والتدقيق. وبعد أن أتمت مهمتها أمرت بدفن الجثمان عملاً بالأصول القانونية بانتظار حكم مجمع الطقوس المقدس. فدفن الراهب في قبر أعد له بعد أن ألبس الثياب الكهنوتية ووضع على رأسه الاسكيم الرهباني واودع تابوتاً مغلفاً بالحديد المزيبق في الخارج تغليفاً محكماً ومبطناً داخله بالقماش. وسد باب القبر بحجارة عظيمة ورفعت أوراق الدعوى إلى الكرسي الرسولي ليفحص القضية ويبدي رأيه فيها.
وفي أواسط شباط من العام نفسه لمح الزوار الذين كانوا يؤمون ضريح الأب شربل أن الماء ير شح من أسفل الجدار الضخم الواقع فيه القبر. فخشي رئيس الدير أن يكون السيل قد تسرب إلى الضريح ففتحه في 25 شباط بحضور رهبان الدير فلم يجد أثر الرطوبة في الداخل وشاهد التابوت لا يزال موضوع على حجرين عاليين عن حضيض المدفن البلط. بيد أنه وجد الزنك الخارجي بالياً من أسفل ويرشح منه عند رجلي الجثمان مزيج من دم وماء فيصب على مصطبة في القبر للجهة الغربية مسلطة ومنخفضة قدر 4 سنتمترات عن بقية أرض المدفن. ففتح التابوت فوجد جثة الناسك البار لا تزال محفوظة ولكن عرق الدم والماء قد غطاها وقد بلل الثياب الكهنوتية فكان الجثمان في بركة دم وماء. فمسح الرئيس وجه الأب شربل ويديه بمنديل فانطبعت صورة الوجه واليدين على المنديل. فأقفل التابوت وأعلن السلطة الكنسية بما جرى. فأصدرت هذه أمراً جديداً بوجوب التحقيق عن هذه الظواهر العجيبة. فتألفت لجنة من رجال الاكليروس والأطباء لإجراء الفحص القانوني.
في 22 نيسان وصلت اللجنة المعينة إلى دير مار مارون عنايا حيث جثة الراهب شربل مخلوف فوجدوا الجماهير محتشدة وبينهم عدد من المرضى جاؤوا للتبرك أملاص بالشفاء. وبعد أن أقام سيادة المطران عقل القداس أقسم الأطباء المنتخبين للفحص اليمين بأنهم يجرون الكشف معتمدين على وحي الضمير الحي. ثم دخلوا المدفن الذي كان مناراً بالشموع وحوله المؤمنون. وفتح القبر وأخرج الجثمان ونعشه ونقل النعش إلى الكنيسة. وبعد أن أقصيت الجموع بجهود كبيرة باشرت اللجنة الطبية عملها بحضور سيادة المطران عقل وقدس الأب عنداري الرئيس العام للرهبانية البلدية التي ينتمي إليها الناسك البار وبعض رجال الاكليروس. ولوحظ أنه بعض مضي قليل من الزمن ظهرت المياه في المدفن وفي التابوت وعلى زواياه وعلى الصخور المجاورة. ووضع الأطباء تقريرهم وسجلت اللجنة ما رأت ورفع هذا التقرير إلى السلطة الكنسية. ويبدو من أحاديث الأطباء أنهم تحققوا من ظاهرة غير مألوفة في الطب لأن شكل الكاهن المتوفي لا يزال طبيعياً كأنه في اليوم الأول من موته.
وما إن ذاعت أخبار هذه الخوارق حتى بدأت تتقاطر أفواج المؤمنين على مدفن الأب شربل، يصلون من كل حدب وصوب، من الطريق الضيقة ومن الحقول ومن الهضبات ومن الصخور. ومنهم يسيرون حفايا يعلو الوحل أرجلهم حتى الركاب، والمطر يبللهم والتعب ينهكهم وحجارة الشعاب تعرقل سيرهم، ولكنهم يتقدمون بثغور باسمة ومشية نشيطة يحدوهم أمل وثاب وحرارة دافقة. وجلهم يرافق مريضاً يئس الطب من شفائه أو عليلاً يبرح به الداء منذ زمن بعيد. وساحة دير مار مارون وارجاؤه تموج بحشد عرمرم من كل سبط ودين، وكل منطقة ولغة، وكل عمر وطبقة. وحجرة ضريح الكاهن القديس تتدفق بالزوار يمرون أيديهم على النعش وعلى الجدران ويبتهلون من صميم القلوب ويضرعون من أعماق الصدور، والمرضى بينهم يصعدون الزفرات والتنهدات متوسلين طالبين الشفاء بايمان وثقة وإلحاح. فكأن تلك الغرفة المظلمة الضيقة أصبحت ينبوع نور وأمل وسلوان.
ومما يدعو إلى البهجة والارتياح مشهد الناس يتألبون على كراسي الاعتراف ويقبلون بوفرة على مائدة الخلاص، ومنهم من ترك الممارسات الدينية من عهد مديد. وتقام كل يوم عدة زياحات بأيقونة قلب يسوع والعذراء مريم ومار مارون ويصمد القربان المقدس ساعات طويلة ابتهاجاً بالعجائب التي تحدث. فهي، على ما يروى، من كل الأنواع. فهذا كسيح يقوم ويمشي وذاك أعمى يبصر وآخر أخرس أصم يسمع ويتكلم، وهذا يشفى من كسر في كتفه أو التصاق في مفصله أو شلل في أحد أعضائه وذاك يبرأ من عقال أو ذبحة صدرية أو عرق الأنسر.. ولا تفريق بين المذاهب والنحل والطوائف والملل. فالراهب شربل مخلوف يمنح عطاياه بأريحية لا حد لها للكاثوليكي والارثوذكسي والمسلم وغيرهم..
وكأني برائحة القداسة التي عاش فيها هذا الناسك البار وتوفي تعطر بشذاها جو دير مار مارون وجميع الذين يؤمونه بايمان فتنشر بين هذه الجماهير عرفاً فواحاً من التقوى والورع والثقة…