بقلم الأب د. يوأنس لحظي جيد
برغم أن مرض الشيزوفرانيا أو الفصام (schizophrenia) هو اضطراب نفسي خطير، إلا أنه للآسف من أكثر الأمراض النفسية شيوعا، سواء على المستوى الفردي أو المجتمعي. وتكمن خطورته في أن المصابين به لا يعترفون بمرضهم به، وغالبا ما يتحول رفضهم له إلى عنف تجاه مَن يكشف لهم، ولو من بعيد، خطورة وضعهم. وتكمن خطورته أيضًا في أنه مرض دماغي مزمن يصيب بعض وظائف العقل منتجًا استجابات ذهانية مضطربة سواء على مستوى العلاقات الواقعية أو في تكوين المفاهيم والأحكام، وكذلك اضطرابات وجدانية وسلوكية وعقلية بدرجات متفاوتة. فالمريض بالفصام يميل إلى التدهور في بعض الحالات، والتطرف في إظهار المشاعر وردود الفعل، والعناد والتحجر في الآراء والنكران الدائم.
أعراض الفصام تتجلى، كما يشرح لنا علماء النفس، في اضطراب التفكير: حيث يفقد المريض القدرة على التفكير بشكل واضح ومنطقي ومترابط؛ اضطراب المشاعر أو عدم تناسب التفاعل الوجداني والتقليل من التفاعل مع الآخرين عاطفيا، وصولا بما يسمى بالتلبد الوجداني؛ اضطراب الإدراك حيث يصل المريض إلى سماع أصوات أو رؤية أشياء غير موجودة على أرض الواقع؛ اضطراب السلوك كأن يفعل عكس ما يقول ويقول عكس ما يفعل، ويبرر بعناد كل تصرفاته.
الفصام هو ببساطة مرض نفسي يجعل المريض عاجزا عن تميز الواقع وعن إصدار أحكام حكيمة وصائبة. وعندما يصيب هذا المرض القادة والمسؤولين يجعلهم يتصرفون بطريقة فصامية وشخصانية تبتعد عن المعايير المتعرف عليها وعن الفطنة وعن أي منطق صائب وعن أي رؤية محايدة، وحتى عن اللباقة الضرورية والكياسة المعتادة. ويشهد واقع بعض البلدان والمجتمعات والجماعات عن مدى التدمير النفسي والاجتماعي والعلمي والحضاري الذي تصل إليه الجماعات التي يصاب المسؤولون عنها بهذا المرض.
وإليكم بعض تصرفات القادة المصابين بمرض الفصام:
- القائد المصاب بالفصام يتبنى مبدأ “فَرِق تَسود” فيعمل أو أقلها يسمح للآخرين بأن يزرعوا الزؤان، ويطلقوا الشائعات ويشككوا في النوايا ويقزموا العظماء ويعملقوا الاقزام. إنه يفتح أذانه بدون كلل لمَن يتكلم بالسوء على الآخرين، ويجد لذة نفسانية في سماع أخبار إخفاقات من يظن أنهم أعدائه أو منافسيه. القائد الشيزوفرانيكو لا يتبنى أبدًا مبدأ “الوحدة قوة”، فشعوره العميق بالعجز وبالقزمية يدفعه لا إراديًّا إلى اتخاذ مواقف خرقاء وإصدار قرارات شمطاء تفتقر حتى لأدنى مستويات الذكاء.
- القائد المصاب بالفصام يُحيط نفسه بأنصاف الأذكياء وبأنصاف القادرين وبأنصاف الأسوياء نفسيا، فالمهم بالنسبة له هو أن يستر عورة عجزه برداء المنافقين والمضطربين. إنه يبحث فقط عن أولئك الذين يمدحون حكمته وهيبته ونفاذ نظرته وقوة شخصيته… ويعادي بدون أسباب من يقول له الحقيقة أو من ينتقد تصرفات أو قراراته أو مواقفه. فكل من يختلف معه في الرأي هو عدو يجب سحقه واستبعاده وإلصاق التهم به والتقليل من إمكانياته.
- القائد المصاب بالفصام يُشخّصِن كل شيء، فأي موضوع أو أي خبر يتحول بدون مقدمات إلى هجوم على شخصه العظيم وتقليل من نجاحاته المبهرة. هو شخص غير قادر على محاورة الأفكار لأن يشخصنها ولا يناقشها، يشيطنها ولا يدرسها، يعارضها قبل أن يضعها على طاولة التشريح والقبول والرفض.
- القائد المصاب بالفصام لا يتعلم أبدًا من أخطائه فهو يكرر ببلاهة لا توصف نفس الأخطاء على أمل أن يحصل على نتائج مختلفة. وهو يقوم بهذه العملية البلهاء كي يثبت لنفسه ولمنافقيه أنه على حق وأن الآخرين على خطأ، وأن الزمن سيثبت لهم صواب رؤيته، في دائرة شيطانية لا تنتهي أبدا لأن كل إخفاق بدلا من أن يجعله يتوقف يدفعه لمزيد من الإصرار والتشبث.
- القائد المصاب بالفصام يعيش غارقا في “نظرية المؤامرة” فالجميع يحسدونه على جمال طلعته البهية وعلى ذكائه الخارق لدرجة أن همّهم الأوحد هو التآمر عليه وعلى نجاحاته الخارقة. إنه يعتبر المنافسة تآمرا، والمناقشة تآمرا، والاختلاف تآمرا، وعدم التصفيق والتهليل له تآمرا، وعدم مدحه تآمرا. إنه يرى كل شيء وكل الأشخاص من خلال نظرية المؤامرة وبالتالي يتعامل من “غير المنافقين” بعدائية غير مبررة وبحذر يصل لدرجة الجفاء والإجحاف.
- القائد المصاب بالفصام يتفنن في إنكار ونكران الوقائع والحقائق ولدية قدرة هائلة في تحول الأبيض لأسود وفي إلباس أي عمل يصدر عن الآخرين المختلفين معه بلباس الانتقاد واللوم والتعييب. فنجاحات الآخرين بالنسبة له ليست سوى نتيجة للصدفة أو لأسباب ولمؤامرات خفية ومخفية أو لألاعيب مخفية. إنه مصاب بمرض “العمى الارادي” فهو لا يرى ابدا حتى الأمور البديهية إن لم تكن متوافقة معه فمقياسه الوحيد بل والأوحد هو رؤيته الذاتية المحدودة.
- القائد المصاب بالفصام لا همَّ له سوى خنق المتفوِّقين واستبعادهم وتهميشهم لأنهم يمثلون خطرا عليه. وهو مستعد لاستخدام كل الوسائل والسُبل للوصول إلى هذا الهدف، بما في ذلك استخدام التشهير، والقتل المعنوي، والاتهامات الباطلة والمفبركة. إنه متحجر ومقتنع – أقله على المستوى اللاوعي – بأن سر فشله يكمن في وجود هؤلاء الأشخاص وبالتالي عليه التخلص منهم وقتلهم معنويا وتجاهلهم كي يثبت لنفسه ولمنافقيه أنه على حق.
- القائد المصاب بالفصام لا يضع الخير العام كهدف له بل الخير الشخصي، فالمهم هو صورته الشخصية وخيره الذاتي. إنه يضع نفسه قبل الجميع ويعيش بشعار: “أنا ومِن بعدي الطوفان”. فيدفعه قصر رؤيته ومحدودية إمكانيته إلى الخلط بين الأفكار الشخصية والحقائق المطلقة، بين الفكرة والمفكر؛ بين الخطأ والمخطئ؛ بين الفعل والفاعل وحتى المفعول به…
- القائد المصاب بالفصام هو غالبا غير صادق فهو يعتمد على الكذب والتضليل وقول أنصاف الحقائق وتأويل الأمور كي يبرر اخفاقاته. فالسبب في كل إخفاق هو القَدَر، والآخرين، وسوء الحظ، وتعنت السماء، وحسد الحاسدين… بينما هو دائمًا ضحية لكل هؤلاء الأشرار الحاقدين. فشخصيته الحسودة لا تجعله يرى أن القيادة الحقيقية تقوم على توظيف القدرات والاستفادة من جميع الإمكانيات، بروح الجماعة وبشكر لله على نجاحات الآخرين وقبل كل شيء باتخاذ نهج النزاهة والشرف والتجرد والتواضع والصدق.
- القائد المصاب بالفصام يضيع أغلب أوقاته وجُل قدراته (المحدودة أصلا) في تمجيد نجاحاته الباهتة والتكلم عنها كإنجازات مهولة وغير مسبوقة. إنه يتغنى ليلا نهارا بأي عمل يقوم به وكأنه شيء خارق ومهول بل ويتعجب مَن الذين لا يرون سمو نجاحاته الذي لا يراه سواه وسوى منافقيه. يشارك في هذه العملية، بدراية أو بغير دراية، فئة الغيورين المرائين الذين يتبنون هذه النجاحات ويتغنون بها ويحولونها إلى قصائد مدح وإشادة له وتحقير وتهديد وتشهير بأعدائه، أي بكل الذين لا يشتركون في هذه المسرحية السخيفة والهزلية.
- القائد المصاب بالفصام لا يستشير سوى الذين يعرف مسبقا بأنهم سيقولون له ما يشتهي أن يسمعه. وهو لا يعتمد على الشورى في الحكم بل يكتفي بسماع صوت أو أثنين من الأصوات التي يعتبرها صديقة مستبعدا عن عمد جميع الأصوات الأخرى. فالأساس هو أهل الثقة والولاء، لا أهل الخبرة والمعرفة والعلم والحصافة.
- القائد المصاب بالفصام يتصرف بفصامية عجيبة، فتراه يتكلم طول الوقت عن ضرورة التغيير للوصول للنجاح بينما في الواقع لا يفعل شيئا ملموسا للوصول للتغيير؛ يندد بالمنافقين وفي ذات الوقت يحيط نفسه بهم؛ يحاول إظهار نفسه كشخص مترفِع عن الأمور المادية ومتواضع ولكنه في الحقيقة فاسد ومفسد ومتكبر؛ يشيد بضرورة وضع رؤية واضحة ولكنه يسير بتخبط دائم؛ يتغنى بالنجاح ولكنه يرى في نجاح الآخرين خطرا عليه؛ ينتقد الجميع ويكيل الاتهامات ولكنه عاجز عن انتقاد ذاته والنظر لوجهه في مرآة الحقيقة. إنه دائما مفعول به لا فاعل، فريسة لأفكاره المريضة ولرؤياه المحدودة ولمخاوفه الوهمية.
إن أصعب مرض قد يصيب جماعة أو كنيسة أو مجتمع أو أُمَّة هو أن يقودها شخص مصاب بمرض الفصام، لأنه مرض يتحول إلى أفعال وإلى أعمال تتسم بالغرابة واللامنطقية واللاتفسيرية، أي بالحماقة.
وليس ابلغ من أختم هذه التأملات – والتي ليست إلا دعوة للتفكير – بأبيات شعرية في ذم الحماقة، كتبت لشخص يدعى يزيدبن ثروان من بني قيس بن ثعلبة (هَبنـَّـقة) وهو رجلٌ عـُرفَ بالحمق والغفلة، لدرجة أنه كان مضربَ الأمثال في ذلك. وقد بلغَ من حمقه أنه كان يعلق في عنقه قلادةً من عظام وودع وخزف، فلما سئل عن سرها، قال: أخشى أن أضيعَ من نفسي، ففعلت ذلك؛ لأعرفها وأعثر عليها إن ضاعت! ويحكى أنه ذاتَ ليلة حوَّلت أمُّه قلادته إلى عنق أخيه، فلما استيقظ ورآها قال: أخي، أنتَ أنا، فمن أنا؟!
وكان لهبنقة فلسفة خاصة في رعي الإبل، فقد كان يصطحب الإبل السمينة إلى المراعي الخصبة، ويأخذ المهازيل إلى المراعي الفقيرة، فلما سئل عن السبب، قال: الله خلقها هكذا، وليس من شأني تغيير خلق الله!
فكتب هذه الأبيات لذم الحماقة:
وكم من كلام قد تضمن حكمةً… نال الكساد بسوق من لا يفهم ُ
لكل داء له دواء يستطب به… إلا الجهالة أعيت من يُداويها
أقول له: عمرا فيسمعه سعدا… ويكتبه حمدا وينطقه زيدا
عليّ نحت القوافي من معادنها… وما عليّ إذا لم تفهم البقر
ومنزلة الفقيه من السفيه… كمنزلة السفيه من الفقيه
فهذا زاهد في قرب هذا… وهذا فيه أزهد منه فيه
وإن عناء أن تفهم جاهلا… فيحسب جهلا أنه منك أفهم
متى يبلغ البنيان يوما تمامه… إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم
متى يرعوي عن سيء من أتى به… إذا لم يكن منه عليه تندم!
أما القائد الحكيم فهو من يتصرف خلافا لكل هذا، ليقينه بأن الحكمة تُطلَب وتُعَلَّم، وأن سر النجاح لا يكمن في عدم الخطأ بل في عدم تكرار الأخطاء. إنه شجاع في قول الحق مهما كلفه ذلك لأن الناجحات التي تبنى على الباطل وعلى النفاق هي ناجحات تسقط أمام أضعف التجارب لأنها مبنية على الرمال لا على صخر الحقيقة، كما علمنا يسوع: “فَكُلُّ مَنْ يَسْمَعُ أَقْوَالِي هذِهِ وَيَعْمَلُ بِهَا، أُشَبِّهُهُ بِرَجُلٍ عَاقِلٍ، بَنَى بَيْتَهُ عَلَى الصَّخْرِ. فَنَزَلَ الْمَطَرُ، وَجَاءَتِ الْأَنْهَارُ، وَهَبَّتِ الرِّيَاحُ، وَوَقَعَتْ عَلَى ذلِكَ الْبَيْتِ فَلَمْ يَسْقُطْ، لِأَنَّهُ كَانَ مُؤَسَّساً عَلَى الصَّخْرِ. وَكُلُّ مَنْ يَسْمَعُ أَقْوَالِي هذِهِ وَلَا يَعْمَلُ بِهَا، يُشَبَّهُ بِرَجُلٍ جَاهِلٍ، بَنَى بَيْتَهُ عَلَى الرَّمْلِ. فَنَزَلَ الْمَطَرُ، وَجَاءَتِ الْأَنْهَارُ، وَهَبَّتِ الرِّيَاحُ، وَصَدَمَتْ ذلِكَ الْبَيْتَ فَسَقَطَ، وَكَانَ سُقُوطُهُ عَظِيماً!” (متى 7، 24-27).
القائد الفطن يعترف بتواضع بالفشل ويعمل على إصلاح الإخفاقات والاستعانة بكل شيء وبكل شخص بإمكانه أن يساعد في تحقيق النجاح.
الأب د. يوأنس لحظي جيد